إن المنهج التجريبي في الظواهر الإنسانية لم يتم الاهتمام بها علميا إلا خلال القرن 20م،حيث واجه العلماء مجموعة من العوائق الابيستيمولوجية أعاقت دراسة هذه الظواهر دراسة تجريبية علمية مثلما هو الحال في العلوم الطبيعية،فإذا كان الفيزيائي موضوعيا في دراسته على أساس اعتماده على الملاحظة والتجربة ،فإن الظاهرة الإنسانية جزء من الإنسان لأنها ظاهرة معنوية تهتم بدراسة الواقع الإنساني وحوادثه المختلفة وعلاقاته ومختلف اتجاهاته وما تحمله من أبعد فردية أو جماعية النفسية والاجتماعية والمادة التاريخية،بغرض فهمها وتفسيرها سببي،فهل يمكن دراستها دراسة موضوعية كما في الظواهر الطبيعية؟
المنهج التجريبي وعلم المادة التاريخ
1/ خصائص الحادثة المادة التاريخية: لقي المادة التاريخ صعوبات ابيستيمولوجية عديدة في مسيرته نو الموضوعية العلمية إلى درجة أن قال شوبنهاور:المادة التاريخ ليس علما لأنه لا يتعلق إلا بالظواهر الخاصة والحوادث الفردية:
حادثة تتسم بالفر دانية فريدة من نوعها تجري في زمن معين ومكان معين صعوبة التعميم فالمؤرخ مثلا لايؤرخ لشيء اسمه الثورة كمفهوم عام ولكنه يؤرخ لبلد معين في زمن معين يقول عالم الاجتماع سيمياند1873-1935: الحالة الفريدة لا سبب لها وبالتالي لا يمكن تفسيرها علميا.
لا تتكرر لأنها حدثت في الماضي صعوبة التجريب أو ملاحظة، غير قابلة لأن تعاد بطرق اصطناعية، فمن المحال أن يحدث حربا تجريبية
إن وقائع المادة التاريخ متصلة بالإنسان الذي ينعم بالحرية ولا تخضع لمنطق الحتمية إذ يستحيل استخلاص قوانين طالما أنه في المادة التاريخ مفاجآت ومصادفات،ويتعذر التنبؤ بها.
مشكلة الموضوعية بحيث المؤرخ إنسان ينتسب إلى عصر معين ومجتمع معين ،فهو لا يستطيع أن يكتب المادة التاريخ إلا طبقا للواقع الذي يحياه،ولأنه لا يمكن أن نفصله عن الانتماءات تجعله ينظر إلى الحادثة المادة التاريخية من زاوية خاصة كما أن المجتمع الواحد عندما يكتب مادة التاريخه فإنه يسعى إلى كتاب كاملة أمجاده وتضخيمها والتقليل من انكساراته وتصغيرها،كما أن المجتمع الواحد يكتب مادة التاريخه في عصر ما بطريقة مختلفة عن العصور التي سبقته،لذا قيل الذاتية صفة ملازمة للمادة التاريخ،وقد عبر ابن خلدون في مقدمته عن هذا في قوله: «إن الكذب متطرق للخبر بطبيعته فله أسباب تقتضيها» وأرجعها إلى التشيعات الميل للآراء والمذاهب أو النحل،الذهول عن المقاصد حيث ينقل المؤرخ الخبر على ما ظنه وتخمينه نتيجة الثقة في الناقلين فيقع في الكذب،ومنها التقرب لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح،وكذلك الجهل بطبائع الأحوال في العمران،ويعني الجهل بخصائص وقوانين ذلك المجتمع يؤدي إلى تزييف الحقائق المادة التاريخية.
يصعب تحديد بدايتها الواضحة وأسبابها الأولى ونتائجها لأن المادة التاريخ سلسلة مترابطة من الحوادث.
طبيعة موضوع ومنهج في علم مادة التاريخ:
1/موضوع علم المادة التاريخ:أن المادة التاريخ لا يقتصر فقط في دراسة حادثة مادة التاريخية معينة ماضية ،بل انه بحث في أحوال البشر الماضية حيث يعرفه ابن خلدون: انه خبر عن الاجتماع البشري الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة هذا العمران من الأحوال مثل التوحش،والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن الملك والدول ومراتبها وما ينتحله يتخذه البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع،وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال،ومنه علم المادة التاريخ كما يقول جميل صليبا:هو العلم الذي يدرس الحوادث البشرية الماضية من جميع جوانبها.
2/المنهج في علم المادة التاريخ:لمعرفة طبعة الحادثة المادة التاريخية واستخراج أسبابها فإن مهمة المؤرخ تتمثل في إعادة بنائها من خلال الوثائق والآثار التي خلفتها نظرا لتعذر ملاحظتها مباشرة، وهذا ما يعرف بالمنهج الاستردادي ولابد له من إتباع الخطوات التالية:
ا/ تحديد الحادثة المادة التاريخية المراد دراستها: زمنيا ومكانيا.
ب/ جمع المصادر والآثار المتعلقة بالحادثة المدروس مفصلةة: فالمادة التاريخ كما يقول عالم الاجتماع سيمياند : «هو معرفة بالآثار وتتخذ هذه الآثار أشكالا شتى تتجلى في شكل مبان ،نصب تذكارية،نقود ألبسة، أدوات الاستعمال اليومي ،أسلحة، منتوج علمي أو فكري،أو ما كتبه المؤرخون السابقون ممن عايشوا الحادثة أو اقرب منها زمنا»،وقد قسم المؤرخون هذه الآثار إلى قسمين:
*الآثار القصدية / الإرادية: التي قصد منها الإنسان حفظ مادة التاريخه أو التأريخ للحادث: الوثائق الرسمية الروايات والكتب المادة التاريخية،السير الذاتية.
*الآثار غير القصدية/اللاإرادية:وهي تلك الآثار التي خلفها الإنسان دون قصد وتستخدم لأغراض أخرى : المباني الأثرية مثل النقود ، الألبسة ،أدوات الزينة والأواني
ج/ مرحلة النقد والتحليل: نظرا لأن الوثائق والآثار قد تكون مزيفة ومضللة، فبعد جمعها لابد من نقدها، وهي عملية فحص وتثبت وتأكد من كونها أصلية وليست مغشوشة أو مزورة وأنها تعود بالفعل إلى ذلك الزمن،وأن الروايات مطابقة لوقائع وخصائص ذلك العصر وهذا ما سماها ابن خلدون بعملية التمحيص.والتحليل المادة التاريخي يشتمل على نوعين من النقد :
* النقد الخارجي: ويسمى أيضا بالتحليل المادي حيث يتفحص المؤرخ مادية المصدر بتحليل مادته التي صنع منها،مكوناتها وصفات جزائريةها:كنوع الورق والحبر واللغة المستعملة وأسلوب التوقيع والختم ونوع المعدن للتأكد من مشابهتها أو مخالفتها لطرق الكتاب كاملة في ذلك العصر،وأن هذه الآثار تنتسب بالفعل إلى تلك الفترة. لذا فالمؤرخ مضطر إلى الاستعانة ببعض العلوم المساعدة: علم مادة التاريخ اللغة، وعلوم الخط وعلم الكيمياء، وعلم الاجتماع...
* النقد الداخلي:وينصب على مضمون الروايات في الغالب حيث يقوم المؤرخ بالمقارنة بين الروايات حيث لا يعتمد المؤرخ إلا على تلك الروايات التي أكدها مجموعة كبيرة من الرواة ،ثم يقوم بتحليل مضمونها بإسنادها إلى الواقع ،فما كان متفقا معه قبله وما كان مخالفا معه رده،ويعتمد المؤرخ في هذه الخطوة على علم النفس حيث يدرس نفسية الراوي ويتأكد من صدقه بالمقارنة بين ماكتبه ووقائع عصره،ويجب أن يدقق البحث عن مدى صدق المؤلف وكفاءته العلمية وظروف معيشته وعلاقته بالحادث المدروس مفصلة،وهل هي قائمة على مشاهدة شخصية أم على روايات والصلة الزمنية بين الراوي والحادثة.ولابد أن يفسر ظاهر النص ومعناه الحرفي ومعرفة غرض المؤلف من وضعها وهذه العملية سماها ابن خلدون1332-1406 من قبل بعملية التعديل والتجريح، فالتعديل هو التحقق من عدالة الراوي وصدقه ،والتجريح يعني نقد الراوي وكشف عيوبه،وهو منهج كان مستعملا عند جامعي الأحاديث النبوية وقد طبقه ابن خلدون في نقد رواية المسعودي واقعة عين جالوت.
د/ عملية التركيب والبناء: تلي عملية النقد المادة التاريخي عملية البناء ويقصد بها إعادة تنظيم وتنسيق وقائع الحادثة وترتيبها كرونولوجيا في جدول مادة التاريخي، حتى يكون صورة كلية وواضحة،ويقوم أيضا بعملية تصنيف الوقائع حيث يقسم الحادثة موضوع الدراسة إلى مجموعة من الأحداث الاجتماعية ،الاقتصادية ،الفكرية،السياسية.....
وفي هذه العملية يعتمد على خطوتين:
*الاصطفاء: بحيث يتعذر على المؤرخ تسجيل كل وقائع الحادثة التي تقع في فترة زمنية معينة لأنها كثيرة لذا لابد أن ينتقي منها وفق درجة أهميتها،ويختار الحوادث التي أثرت في مسار الحادث المادة التاريخي.
*ملء الفجوات:إن المادة التاريخ مملوء بالفجوات والثغرات المادة التاريخية نظرا إما لعدم وجود مصادر مادة التاريخية، وإما الذاكرة الإنسانية بطبعتها معرضة للنسيان،فيلجا المؤرخ إلى تخيل وتصور تلك الوقائع والربط المنطقي بين الحوادث السابقة على أنها أسباب والحوادث اللاحقة على أنها نتائج.
ه/التعليل: بعد البناء يلجا المؤرخ إلى استنباط واستنتاج الأسباب، ويعتبر الوصول إلى الأسباب بمثابة القانون العلمي لأن التعليل في المادة التاريخ يبقى تعليل جزئي، فلا يمكن الوصول إلى قوانين عامة لأن الحوادث المادة التاريخية ليست متشابهة.
نقد: من خلال هذا المنهج حاول العلماء الاقتراب بدراستهم إلى مستوى العلمية أكثر بالتزام النقد المادة التاريخي الموضوعي،لكن ما دام هناك تدخل لذاتية المؤرخ عملية التخيل، فلا يمكن الوصول إلى الموضوعية التي تميز العلوم الطبيعية ومن جهة أخرى ليس هنا ك قوانين عامة في المادة التاريخ،وعلى الأقل فإن هناك غاية من دراسة المادة التاريخ هو الاستفادة منه في الحاضر لبناء المستقبل ومحاولة عدم تكرار أخطاء الماضي
./الاستاذة سويحي إيمان/تانوية سيدي لعجال / ديزاد باتنة![]()
©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©