الحمد لله الذي أنزل القرآن على رسوله محمد ليكون للعالمين نذيرًا، والصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد: فقراءة القرآن من أعظم الطاعات، وأجل القربات، وأشرف العبادات، قال عثمان بن عفان t: " لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لَأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر في المصحف..". فهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وحامله من أهل الله وخاصته، قال r: ((إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: ((هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ؛ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ)). وقد أخبر النبي r أن الخيرية والرفعة لمن تعلَّم القرآن وعلَّمه، فقال r: (( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)). وإن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين، كما قال r، وهذا محسوس ومشاهد بين الناس. ويأتي شفيعًا لصاحبه يوم القيامة، ويجعله مع السفرة الكرام البررة، قال r: ((الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ )).وقال: ((مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ)) متفق عليه .
ومن شغله القرآن عن الدنيا عوضه الله خيرًا مما ترك، ومن ليس في قلبه شيئًا من القرآن كالبيت الخرب، فكم هي البيوت الخربة، والقلوب الخربة التي أدمنت اليوم على الغناء والرقص و(الفيديو كليب) وغيرها، وهجرت القرآن كلام الرحمن؟!.
وأما الأجر والثواب للقارئ فالقرآن يشفع لصاحبه وقارئه، وله به في كل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، إلى أضعاف مضعفة، وتنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة، ويذكره الله فيمن عنده، سبحان الله! ما أعظمه وأجلّه، أحقًّا يذكر جبار السموات والأرضين العبدَ الضعيفَ الذي خلق من ماء مهين؟ نعم يذكره كما أخبرنا به الصادق الأمين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ )). وقال r: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)).
وقال r: (( اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِصَاحِبِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَسورةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ -أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ-، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ )).
ولكن ليس المقصود من تلاوة القرآن مجرد تلاوة اللفظ فحسب، بدون فهم أوبيان، قال تعالى: ] كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [. وقال تعالى: ]وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ[
قال الشوكاني: "الأماني: التلاوة، أي لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر".
وقال ابن القيم: " فذم سبحانه وتعالى المحرفين لكتاب كامله، والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة؛ وهي الأماني ".
ولما راجع عبدُ الله بن عمرو بن العاص النبيَّ r في قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال: ((لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ )). فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود بتلاوته لا مجرد التلاوة .
قال ابن القيم: "..والمقصود التلاوة الحقيقية، وهي تلاوة المعنى واتباعه، تصديقًا بخبره، وائتمارًا بأمره، وانتهاءً بنهيه، وائتمامًا به، حيث ما قادك انقدت معه، فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه، وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة؛ فإنهم أهل تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا ".
وروى حذيفة t أنه صلَّى مع النبي r ذات ليلة فكان (( يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا؛ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ )).
قال ابن مسعود t في تفسير قوله تعالى: ]الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ..[: "والذي نفسي بيده إن حق تلاوته، أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله ".
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " كان الفاضل من أصحاب رسول الله r في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورُزِقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يُرزقون العمل به".
وفي هذا المعنى قال ابن مسعود t: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به".
ولهذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- لا يتجاوزون العشر آيات حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل، كما قال التابعي الجليل أبو عبد الرحمن السلمي.
وهذا يدل على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتعلمون من النبي r التفسير مع التلاوة، فبين r لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه: ]وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[. فكان البيان منه r بالألفاظ والمعاني، فلم لا نعتني بالمعاني، ليخالط القرآن اللحم والدم، ويستنير القلب، وينشرح مفصل الصدر، ونذوق حـلاوة التلاوة؟ فحقيقة التلاوة، إنما هي بالتأمل والتدبر عند القراءة؛ ]أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[، ]كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ[.
وفي موطأ مالك أنه بلغه:" أن ابن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها".
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا ". هذا هو منهج السلف في قراءة وحفظ القرآن، فهل نراجع أنفسنا ونصحح المسار؟.
والكلام في هذا يحتاج لبسط وتفصيل ليس هذا مقامه، لكني أختمه بكلام جميل نفيس لأحمد بن أبي الحواري حيث يقول: " إني لأقرأ القرآن، وأنظر في آية، فيحير عقلي بها، وأعجب من حفاظ القرآن؛ كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا ، وهم يتلون كلام الله ؟! أما إنهم لو فهموا ما يتلون ، وعرفوا حقه، وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة به، لَذهب عنهم النوم فرحًا بما قد رُزِقُوا".
ويؤكد هذا الزركشي بقوله: " من لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر، لم يدرك من لذة القرآن شيئا ".
ويقول ابن جرير الطبري: " إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته! ". ويقول أيضًا: " وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن ".
وأقول: بل هي اليوم أحوج ما تكون لفهم القرآن، وإن علماء الأمة وطلاب العلم ودعاتها وأخيارها أولى من غيرهم لفهم القرآن؛ لينيروا للأمة طريقها بنور القرآن.
ومن أعظم ما يعين على فهم القرآن، وفهم المراد منه، النظر في سياق الآيات، مع العلم بأحوال الرسول r وسيرته مع أصحابه وأعدائه، وقت نزوله، خصوصًا إذا انضم إلى ذلك معرفة علوم مادة اللغة العربية على اختلاف أنواعها.
تدبر القرآن دواء القلوب: قال إبراهيم الخواص: " دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين "
وقال مالك بن دينار: " يا حملة القرآن! ما ذا زرع القرآن في قلوبكم؟! فإن القرآن ربيع المؤمنين كما أن الغيث ربيع الأرض ".
يقول ابن القيم: "..فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه،كررها ولو مائة مرة ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن... فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب".
إذًا فليكن هم المسلم عند التلاوة للسورة إذا افتتحها: متى أفهم هذه الآية؟ متى أتعظ؟ متى أعتبر؟ وليس مراده: متى أختم السورة ؟.
قال ابن مسعود t: " لا تهذوا القرآن كهذّ الشعر، ولا تنثروه كنثر الدقل؛ قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة ".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال r: ((إنَّ أحسنَ الناسِ قراءةً الذي إذا قرأَ رأيتَ أنهُ يَخشَى اللـهَ)).
إذًا فلسنا على شيء حتى نفهم القرآن، ونعمل به. قال الحسن البصري -رحمه الله-: " ومن أحب أن يعلم ما هو فليعرض نفسه على القرآن ".
وإن من كان قبلنا رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار، فهل نحن كذلك؟ هل نحن نقرأ وننفذ، وكيف سننفذ وربما لم نفهم المعنى؟ فلا بد من التدبر للمعاني . ومما يعين على ذلك :
1- مراعاة آداب التلاوة؛ من طهارة، وإخلاص، واستعاذة، وبسملة .
2- محاولة تفريغ النفس من شواغلها، وحصر الفكر مع القرآن، والخشوع والتأثر .
3- التلاوة بتأنٍ، وتدبر، وانفعال، وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة، بل الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية، فاحصة مكررة، ومن ثم العودة المتجددة للآيات.
4- النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها، معناها، نزولها، غريبها، دلالاتها.
5- ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقًا لعلاج حياته وواقعه .
6- العودة إلى فهم السلف للآية، والاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية...
7- الثقة المطلقة بالنص القرآني، وإخضاع الواقع المخالف له، مع الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة لفهم أوسع .
8- القراءة في الكتب المتخصصة في أصول التفسير وقواعده، مثل كتاب كامل: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي وغيره.

د . إبراهيم بن عبد الله الدويش





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©