رُعْبُ «الوَهَّابيَّة»؟! أَوْ: حوارٌ مع إعلاميٍّ«ناقمٍ»!(02): فيما كتبه بعنوان: «حتَّى لا يحْتَلَّنا الوَهَّابيُّون»! الجزء الرّابع وهو الأخير

للشيخ سمير سمراد
تجدُ في الجزء الأخير مِنْ هذا المَقال العناوينَ الآتية:

روافدُ أجنبيَّة، وأخلاطٌ جاهليَّةٌ وَثَنِيَّة، تَسَرَّبتْ إلى الشَّريعةِ المحمَّديَّة!:

المالكيَّةُ يُنكرون بِدَعَ الطُّرُق والافتتانَ بالأضرحة والقبور!:

تَسْلِيَةٌ من «ابنِ الحاجّ المالكيّ» للمُصْلِحِين السَّلَفِيِّينَ:


روافدُ أجنبيَّة، وأخلاطٌ جاهليَّةٌ وَثَنِيَّة، تَسَرَّبتْ إلى الشَّريعةِ المحمَّديَّة!:
نعم! هذا الذي عَنْوَنْتُ به، هو مصدرُ الشّرّ الّذي دخل على الأُمَّة في دينها وفي أصل اعتقادِها، لقد مضى السَّلفُ الأَّولون لا يعرفون إلاَّ التوحيد، ولا يعتقدون في غير الله تعالى، فلمّا توسَّعت الفُتُوحات، ودخل الإسلام الجَبَلَ والوَعْرَ، مِن أرض إفريقيَّةَ وغيرها، كان بها أَخْلاطٌ من طقوس الرُّومان، والوثنيِّين من عُبَّادِ الأحجار والأشجار، ومُؤَلِّهِي الأرواح الغيبيَّة! وغير ذلك، فَتَسَرَّبَتْ هذه إلى الإسلام الّذي كان هؤلاء وأولئك حديثي عَهْدٍ به! ثمَّ استيلاء الدّولة الباطنيّة العُبَيْديَّة، الّتي تسمَّت زُورًا بالفاطميّة! فقد مَكَّنَتْ لعقائد الفرس المجوس، ووساوس الباطنيّة ودسائسها، فجَنَّدُوا لذلك «المُتَمَصْوِفَةَ» «المُتَمَفْقِرَةَ» الجُهَّال! فكانوا هم وسيلَتَهُمْ للوصول إلى أغراضهم، ونجحوا في ذلك!

1 ـ قال محمّد تقيّ الدّين الهلاليّ المغربيّ؛ وهو يتحدّثُ عن مواقف النّاس تُجاه الطَّرائق الصُّوفيَّة!:
«القسم الثّالث: قومٌ مكَرةٌ كائِدُون يتربَّصون بعدوِّهم الدّوائر فلا تسْنحُ لهم فرصةٌ لكيده وصيده إلاَّ اغتنموها. وهؤلاء قد وضعوا على أعينهم المِنْظار المكبِّر، وصاروا ينظرون بإمعانٍ إلى الأُمّة الّتي يريدون كيدها، إمّا ثأرًا، وإمّا طَمَعًا وصَيْدًا. والطَّرائقُ مِن أحسنِ الفُرَصِ لهؤلاء، فمتى رأوا لها مَنْبَتًا في أُمَّةٍ يُريدون إهلاكها، زرعوها على قاعدةِ:
صلَّى وصام لأمرٍ كان يطلبه لمّا قضى الأمر ما صلَّى ولا صام
و أوَّلُ مَن برع في هذا الفنّ وحاز فيه قصَبَ السَّبْق الفُرس المجوس وخُلُوفُهُم من الباطنية الملاحدة، فإنَّ لهم أعمالاً في هذا المضمار مدهشة، استطاعوا بها أن يجعلوا الأمَّةَ الإسلاميَّةَ شِيَعاً، يضربُ بعضها رِقَابَ بعضٍ، وصار بأسُهَا بينها، فمِن دهائهم أنّهم كانوا يُظهرون الإسلام ويُتقنون علومه ويُظهرون من الزّهد والعبادة ما يُصيِّرُ عامَّةَ المسلمين بين أيديهم سامعين مطيعين، ويُمكنهم مِن إيقاد نِيران الحروب بينهم، حتّى يفشلوا وتذهب ريحهم، وذلك ما قصد أعداؤهم الذِّئابُ اللاَّبسةُ جُلُود الضَّأن»اهـ[1].
وقال: «وقد كانت الزَّندقةُ في المتصوِّفة مِن القرن الخامس، كما بيَّن ذلك الإمام ابن عقيل وغيره، والله المستعان»اهـ.
2 ـ لقد صرَّح بعضُ المستشرقين والباحثين الغربيين الّذين كانت لهم سِياحاتٌ في شمال إفريقيّة، بالصِّلَةِ الّتي بين هذه الطُّقُوس الصُّوفيّة، وطُقُوس الأُمَم الوثنيَّة، ومنها: البربريَّة القديمة، والسُّودان الأفارقة، وكذا اليهوديّة والنَّصرانيّة-وهم وإن كانوا أهل كتاب كامل، فقد دخلتهم الوَثنيَّةُ وتأليهُ البَشَر!-:

ـ قَلَتْ صاحبةُ الدِّراسة المسمَّاة: «الإسلام الطُّرُقيُّ: دراسةٌ في موقعه من المجتمع...»، وهي تذكرُ «بعض الجوانب الخصوصيّة للطُّرقيّة بهذه المنطقة من العالم الإسلامي -تعني: الشّمال الإفريقيّ-»: «هناك مَن يرى في عبادة الأولياء بشمال إفريقيا تواصلاً لبعضِ الاعتقادات ولبعض الطُّقُوس البربريَّةِ القديمة» [2]، والشّيء نفسُهُ في الشّرق الإسلاميِّ، قالت: «أثبت[«غولد سيهير»]أنّ زيارة ضريح سيدي أحمد البدوي بطنطا بمصر تأخذ بالضَّبط مكان الزِّيارة الّتي كان يقوم بها المؤمنون إلى الآلهة «أرتيميس» بمصر القديمة، وذلك اعتمادًا على الوصف الّذي قدَّمه هيرودوت لهذا الحجّ، وأيضًا على ما قدَّمه المسافرون المعاصرون مِن شهادات حول هذه الزِّيارة» [3].
ـ وقالت(ص:24): «الكثير من الطُّقُوس ومظاهر الاعتقادات الشّعبيّة هي مرتبطةٌ بوجود السُّودان في المجتمع التّونسيّ والمغاربي بصفةٍ عامَّة»، «وهناك مَن كانوا شهود عيان في بداية القرن التّاسع عشر مسيحي، وكتبوا في صددِ تأثيرِ العنصر الأَسْوَد على الاعتقادات الشَّعبيّة مُستنكرين ذلك، منهم أحمد التَّنبكتيّ [ له مخطوط: «هتك السّرّ عمَّا عليه سودان تونس من الكفر»، وهي عبارةٌ عن رسالةٍ تَوَجَّهَ بها إلى حمودة باشا يَفضح فيها ما كان عليه هؤلاء السُّودان مِن ممارسةٍ خارجةٍ عن الدّين الإسلاميّ]...مؤرّخة في20نوفمبر1800 يَكشفُ فيها الأخطار الجسيمة الَّتي يقوم بها هؤلاء في إشاعةِ التّفسُّخ في المجتمع التّونسي. وقد كانت الطَّريقةُ الصُّوفيّة لهؤلاء السُّودان بتونس تُسَمَّى«الصتمبالي»، ووليُّهُم هو سيدي سعد الّذي له قُبَّةٌ بسَهْلِ مرناق، جنوب العاصمة[4]. ويَبدو أنَّ هؤلاء السُّودان الَّذين كانت لهم أنشطةٌ دينيّةٌ كبيرةٌ...في تونس منذ عهد علي باشا الأوّل(ت:1756)....ونظرًا إلى أنَّهُ كثيرًا ما كان إِسْلاَمُ هؤلاء السُّودان مجرَّدَ نتيجةٍ لسُقُوطهم في عبوديَّةِ الأَسْيَادِ المسلمين، فإنَّ اعتناقَهُم هذا بَقِيَ مَطْبُوعًا إلى حدٍّ بعيدٍ بالاِعتقاداتِ الدِّينيّة والطُّقُوسِ الأصليّةِ الّتي كانُوا يُمارسونها في بُلدانهم وفي إِطَارِ حضَارَاتهم الأصليّة» (ص:25).

قلتُ:
وهذا الَّذِي نَقَلَتْهُ الباحثةُ عن السُّودان، قد وَرَدَ ما يُماثِلُهُ في: «أجوبةِ المغيليّ على أسئلة الأَسْقِيا»؛ حيثُ وَصَلَ[COLOR="rgb(160, 82, 45)"] الشّيخُ محمّد بن عبد الكريم المغيليّ التّلمسانيّ[/COLOR] بلادَ كاغو[مِن بلادِ التَّكْرُور/ أو السُّودَان الغربيّ] واجتمعَ بسُلطانِهَا أَسْقِيَا الحاجّ محمّد، وأَلَّفَ لهُ تأليفًا أجابَهُ فيهِ على مسائلَ(سنة: 1502/1503)؛ وقد ذَكَرَ فيها الأَسْقِيَا عن طُقُوس السُّودان حَالَ كُفْرِهِم، وهو يَتَحَدَّثُ عن أحدِ سلاطينهم وأجدادِهِ مِن عَبَدَةِ الأصنام، ما يلي: «...وهم قومٌ كُفَّارٌ يَعبدون الأصنامَ مِن الأشجار والأحجار، ويَتَصَدَّقُون لها، ويَسألُون حوائجهم عندها، فإِنْ أَصَابُوا خيرًا زعموا أنّ تلكَ الأصنام هي الّتي أَعْطَتْهُم، وإن لم يُصيبوا، رأوا أنَّها مَنَعَتْهُم، فلا يَغْزُون حتَّى يُشاوروها، وإن قَدِمُوا من سفرٍ قصدوها ونزلوا عندها، ولتلك الأصنام سَدَنَةٌ يَخدمونها ويُتَرْجِمُون لها عنهم، وفيهم كهّانٌ وسَحَرَةٌ يقصدونهم كذلك....[ثمَّ تكلَّم عن الرَّجُل المسؤولِ عنه، بعد أن ذكر مِن صفته أنَّهُ يَنطقُ بالشَّهادتين ونحوها مِن ألفاظِ المسلمين، ولكن لا يَعرفُ لذلك حقيقةً، إنَّما يَقُولُ ذلك بلِسَانِهِ...ويصوم رمضان ويَتصدَّقُ كثيرًا مِن الذّبائح وغيرها عند المساجد ونحوها، ومع ذلك يَعْبُدُ الأصنام ويُصَدِّقُ الكُهَّان ويَستعين بالسَّحَرة ونحوهم فيُعَظِّمُونَ بعضَ الأشجار والأحجار بالذَّبْحِ عندها والصَّدَقَة والتّضرُّع والنَّذْر لها وطلب قضاء حوائجه، ويَسْتَعِينُ بها، وبالسَّحَرة والكُهَّان في الأُمُور كلّها، أو جُلِّها»(ص:34-35).
وكان مِن جوابِ المغيليّ[5] – بعدَ أن قَرَّرَ أنَّهُ لا يُكَفّر أحدٌ بذنبٍ مِن أهلِ القِبلة، وذَكَرَ أنَّ التَّكفير يكونُ بأحدِ أمور؛ وذكرَ منها: «عبادة الأوثان!»-: «إنّ الّذي ذَكَرْتُمُوه مِن حالِ «سِنِي علي» عَلَمٌ على الكفرِ بلا شكّ[6]، فإن كان الأمرُ كما ذكرتُم فهو كَافِرٌ، وكذلك مَن عَمِلَ بمثلِ عملِهِ، بل يجبُ التَّكفيرُ بما هو أَقَلُّ مِن ذلك...»(ص:39-40).
ثمَّ وصفَ لَهُ حالَ أهلِ البلاد الّتي اسْتَوْلَى عليها بعدُ: «سِنِي علي»، قال(ص:43-44):
«...فإذا هُم يَشْهَدُون ويقولون لا إله إلاّ الله محمّدٌ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، ويَعتقدون مع ذلك أنّ هناك مَن يَنفعُهُم ويَضُرُّهم غير الله جلّ وعلا، ولهم أصنامٌ، ويَقولون الثّعلب قال كذا، وسيكونُ كذا، وإن كان كذا سيكون كذا، ويُعظِّمُون بعض الأشجار ويَذبحون لها، ولهم بيوتٌ مُعظَّمةٌ عليهم، لا يُولُّون سلطانًا ولا يَقطعون أمرًا صغيرًا ولا كبيرًا إلاّ بِأَمْرِ سَدَنَةِ بُيُوتهم المعظَّمَة عندهم، فزَجَرْتُهُمْ عن ذلكَ كلِّهِ، فأَبَوا إِلاَّ بالسَّيْف، فهل هذا يُكَفِّرُهُم ويُحِلُّ قَتْلَهُم وأَخْذَ أَمْوَالِهِم إِن أَصَرُّوا عليهِ...».
وكان مِن جوابِ المغيلي(ص:45):
«...وأمَّا القومُ الَّذِين وصفتَ أحوالهم، فهُم مُشرِكُون بلا شكٍّ، لأنَّ التَّكفيرَ في ظاهرِ الحكم يكون بأقلّ مِن ذلك، كما بَيَّنَّاه في السُّؤال الّذي قبلَ هذا، فلا شكَّ أنَّ الجهادَ فيهِم أَوْلَى وأَفْضَل مِن الكفَّار الَّذين لا يقولون لا إله إلاّ الله محمّدٌ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، لأنَّ هؤلاء الَّذِين وصفتَ لَبسوا الحقّ بالباطل، بحيثُ يَضِلُّ بهم كثيرٌ مِن جهلةِ المسلمين حتَّى يَكْفُرَ وهُو لا يَشعر[7]، فهُم أَوْلَى بالجهادِ مِنَ الكُفَّارِ الّذين لا يَقْتَدِي بهم مسلمٌ...»اهـ.
علَّقَ مُحقِّق الأجوبة بقولِهِ:
«مِن هذا يَتَبَيَّنُ للقارئِ جانبٌ مِن الكيفيَّةِ الّتي كان عليها إِسْلاَمُ الكثيرين عَلَى أَيَّامِ الأَسْكِيَا محمّد، وليسَ هُناكَ مِن شكٍّ، في أنَّ أسبابَ التَّباعدِ عنِ الإسلام في بعضِ التَّصرُّفات إنَّما تَعُودُ إلى بَقَاءِ العاداتِ القديمةِ الّتي ظَلَّ السُّكَّانُ يُحافظون عليها لا بِسببِ تفريطِهِم قي قضيَّةِ الانسجامِ مع الإسلام، ولكن لقِلّةِ توفّرهم على ما يُمكنهم مِن التّعمُّق في فهمِهِ...ولذا ظَلَّ في إسلامهم حتَّى القرن السَّادس عشر كثيرٌ مِن أَوْجُهِ السَّذَاجَةِ واختلاطِ العاداتِ القديمةِ بالدِّيانةِ الجديدة»اهـ.

ـ وقالت(ص:25): «...الاعتقادُ في الأولياء، نجدُهُ في الدِّينِ العِبريّ والمسيحيّ، مثلَمَا نجدُهُ في ظاهرةِ «ساحر القبيلة» وزعيمها الرُّوحيّ عندَ الشُّعُوب البِدَائيَّة. وأكثرُ مِن ذلك يُمْكِنُ أن نجدَ اشتراكًا بين يهود ومسلمين في زيارةِ نفسِ الوليِّ مثلما هو الحالُ بالنِّسْبَةِ لسِيدِي محرز بتونس[...وتفسيرُهُ أنّ محرز بن خلف قد وضع اليهود تحت حمايته عندما قامت انتفاضاتٌ شعبيّةٌ عارمةٌ ضدّ الحكم الفاطميّ الشِّيعيّ...] أو لسيدي يعقوب بتلمسان[8]»اهـ.

وقد أشار ابنُ الحاجّ المالكيّ إلى أَثَرِ مُخالطَةِ المسلمين لغيرِهِم، في بَثِّ مثلِ هذه البِدع والمحدثات؛ قال في«المدخل»(3/95):
«...مع قِلَّةِ العلم والتّعلُّم في الغالب، فَأَنِسَتْ نفوسُهُم بعَوَائِد مَن خَالَطُوهُ فنَشَأَ مِن ذلك الفساد، وهو أنَّهم وَضعوا تلكَ العَوَائِد الّتي أَنِسَتْ بها نفوسُهُم مَوْضِعَ السُّنَن حتَّى إذا قُلْتَ لبعضِهِم اليومَ: السُّنَّةُ كذا، يكونُ جوابه على ذلك على الفَوْر: عَادَةُ النَّاسِ كذا، أو طريقةُ المشايِخِ كذا، فإِنْ طَالَبْتَهُ بالدَّلِيلِ الشَّرعيِّ، لم يَقدر على ذلك، إلاّ أنّه يقولُ: نَشَأْتُ على هذا، وكان والدي وجدِّي وشيخي وكلُّ مَن أعرفُهُ على هذا المنهاج، ولا يُمكِنُ في حقِّهِم أن يَرتكبوا الباطل أو يُخالِفُوا السُّنّة، فيُشَنِّعُ على مَن يَأمرُهُ بالسُّنَّة، ويَقولُ لهُ: ما أَنْتَ أَعْرَفُ بالسُّنَّة ممّن أَدْرَكْتُهُم مِن هذا الجَمِّ الغفير. وقد تقدَّمَ إِنْكَارُ بعضِ العلماءِ على الإمامِ مالكٍ (رحمه الله) في أَخْذِهِ بعَمَلِ علماءِ المدينةِ -على ساكنها أفضلُ الصّلاة والسّلام- فكيفَ يَحتجُّ هذا المسكين بعَمَلِ أهلِ القرنِ السّابع، مَعَ مُخالطتهم لغير جِنْسِ المسلمين من القِبْطِ والأعاجم وغيرهما، نَعُوذُ بالله من الضَّلال»اهـ كلامُ ابنِ الحاجّ.

المالكيَّةُ يُنكرون بِدَعَ الطُّرُق والافتتانَ بالأضرحة والقبور!:
ـ ولا يزالُ كثيرٌ من أئمَّةِ المالكيّةِ وكبارِ فقهائهم في القرون القريبة مِن قرنِ ابنِ الحاجّ وبعده، يَرُدُّونَ على معاصِرِيهم مِن المالكيّة؛ فأين الإجماع المزعوم؟ وأين إِطْبَاقُ المالكيّةِ على هذه البدع والرُّسُوم الطّرُقيّة وغير الطُّرُقيّة؟!
وأسوقُ هنا نقلاً عن أبي العبّاسِ أحمد النّاصريّ:
ـ ورد في جريدةِ «الصِّراط»[العدد(2)،(ص:4)]، تحت عنوان: «بدعةُ الطَّرِيقِ في الإسلام» ما يلي:
«قال العلاَّمة المؤرِّخ أبو العبّاس أحمد النّاصريّ في كتاب كامله«الاستقصاء» في مادة التاريخ المغرب الأقصى ما نَصُّهُ:
«قد ظهرت ببلاد المغرب وغيرها منذُ أعصارٍ مُتطاولة، لا سيَّما في المئة العاشرة وما بعدها بدعةٌ قبيحةٌ، وهي اجتماعُ طائفةٍ مِن العامَّةِ على شيخٍ مِن الشُّيُوخ الّذين عاصروهم، أو تَقَدَّمُوهم ممَّن يُشارُ إليه بالوَلاية والخُصُوصيّة ويَخُصُّونهُ بمزيدِ المحبَّةِ والتَّعظيم، ويَتمسَّكون بخِدْمَتِهِ والتّقرُّب إليه قَدْرًا زَائِدًا على غيرِهِ من الشُّيوخ، بحيثُ يَرْتَسِمُ في خَيَالِ جهلهم أنّ كلَّ المشايخ أو جلّهم دُونَهُ في المنزلةِ عند الله، ويَقولون: نحنُ أتباعُ سيدي فلان وخَدَمُ الدَّار الفلانية، لا يَتحوَّلُون عن ذلك ولا يَزُولون خَلَفًا عن سَلَفٍ، ويُنادُون باسمه، ويَستغيثون به، ويَفزَعُون في مُهِمَّاتهم إليهِ، مُعْتَقِدِين أنّ التّقرُّب إليه نافعٌ والانحرافَ عنه قيد شِبْرٍ ضَارٌّ، مَعَ أنَّ النَّافعَ والضّارّ هو اللهُ وحده، وإذا ذُكِرَ لهم شيخٌ آخر ودَعَوا إليهِ صَاحُوا صَيْحةَ حُمْرِ الوَحْش مِن غيرِ تَبَصُّرٍ في أحواله، هل يَستحقُّ ذلك التَّعظيم أم لا؟ فصارَ الأمرُ عَصَبِيًّا، وصارت الأُمَّةُ بذلك طرائِقَ قِدَدًا؛ ففِي كلِّ بلدٍ أو قريةٍ عدّةُ طوائف، وهذا لم يكن معروفًا في سَلَفِ الأُمَّةِ الّذين هُمُ القُدْوَةُ لمن بعدهم» اهـ[9]. هذه الحالةُ هي نفسُهَا الموجودةُ في المغرب الأوسط والمغرب الأدنى، وهؤلاء هُمُ الّذين تَكَرَّرَ إِنكارُ العلماءِ عليهم مِن عهدٍ بعيد، وهُم أَصْلُ كثيرٍ مِن البلايا الّتي يُعانيها المسلمون اليوم. ثُمَّ بعدَ هذا كُلِّهِ يَزعُمُ قومٌ أنَّهم رجالُ التَّصوُّف، وأنَّهم ما أَنْكَرَ عليهم إِلاَّ علماءُ اليوم! »اهـ.
ـ وأسوقُ كلامًا مطوَّلاً لباحثٍ ومُثقّفٍ مغربيّ معاصر، عَالَجَ فيهِ بأسلُوبِهِ العصريّ الصِّرَاعَ الدَّائرَ بين السَّلفيَّةِ والنِّظامِ الطُّرُقيّ، و قالَ مُؤلِّفُ «الخطاب الإصلاحيِّ في المغرب: التّكوين والمصادر»(ص:144-147):
«اسْتَشْنَعَ العَقْلُ السَّلفيُّ[10] البدعةَ بقوَّةٍ، ولم يُوَقِّرْ أصحابَهَا. وكثيرًا –بل الأغلبُ- ما كان الخوضُ في السِّجالِ ضدَّها تشنيعًا على الزَّوايا والطُّرُق، ورجمًا في ما أَتَتْهُ مِن «التَّخرُّصات» والأساليب. فهذا أحمدُ بن خالد النّاصريّ-أحد شيوخ السَّلفيّة المغربيّة مِن الجيلِ الأوّل في القرن التّاسع عشر-كتبَ يَصِفُ حالة انفلاتِ «العَقْلِ المبتدِع» مِن كلِّ عِقَالٍ دينيّ قائلاً: «قد ظهر ببلاد المغربِ منذُ أعصارٍ مُتطاولة-لا سيّما في المائة العاشرة وما بعدها.....-وساقَ الفقرةَ الّتي نقلناها آنفًا عن جريدةِ «الصّراط»، وتَتِمَّتُها:- وهذا لم يكن مَعروفًا في سلفِ الأُمّة الّذين هُمُ القُدوة لمن بعدهم؛ وغَرَضُ الشّارِع إنّما هو في الاجتماع وتمامِ الأُلْفة واتِّحاد الوِجهة... ثمّ اسْتَرْسَلَ هؤلاء الطَّغَام في ضلالهم، حتَّى صارت طائفةٌ تَجتمعُ في أوقاتٍ معلومةٍ في مكانٍ مخصوصٍ...على بِدعتهم الَّتي يُسَمُّونها الحَضْرَة! فمَا شِئْتَ مِنْ طَسْتٍ وطَارٍ! وطَبْلٍ ومِزمارٍ وغِناءٍ ورَقْصٍ وخَبْطٍ وفَحْصٍ! وربَّما أضافوا إلى ذلك نارًا أو غيرها، يَسْتَعْمِلُونَهُ على سبيلِ الكرامةِ بزعمهم! ويَسْتَغْرِقُونَ الزَّمَن الطَّويل... ولا تجدُ في هذه المجَامِع الشَّيطانيَّةِ غالبًا إلاَّ مَن بَلَغَ الغَايَةَ في الجَفَاءِ والجَهْل....».
ويُهاجِمُ النّاصريُّ البدعةَ في تَجَلِّيها الطُّرقيّ على جُمْلةِ مُستوياتٍ: على مُستوى الادِّعاءِ بوَلاَيةِ[11] شيوخِ الطُّرُق وخُصُوصيَّتِهِم؛ وعلى مُسْتَوى تَأْلِيهِهِمْ «الاستغاثة» هؤلاءِ الشُّيُوخ؛ وعلى مُسْتَوى إِجْرَائِهِم طُقُوسَ«التَّعبُّد» على مُقْتَضَى التَّبْدِيع التَّطْرِيبِيّ«الحَضْرَة»؛ وعلى مُسْتَوَى جَهْلِ المُنْخَرِطِين في الطَّرِيقة واسْتِلاَبِ وَعْيِهِم«الشَّيْطَانيّ»؛ ثمّ على مُستوى إِحْدَاثِهِم الثُّلَم والفُرْقَة في وحدةِ الجماعةِ الإسلاميّة بابْتِدَاعِهِم الوحدات الطَّائِفِيَّة بديلاً مِن التّوحيد المِلِّي للجماعة. وبالجُمْلَةِ، فهو يَصِمُهُم بالاِنْحِرَافِ عمَّا سَارَ عليهِ السَّلَفُ، والإِحْدَاث فيما لا يَجُوزُ فيه إِحْدَاث «العقيدة».
وإِذْ يَقِفُ المثقَّفُ السُّنِّيُّ المصلِحُ أَمَامَ هذه الظَّاهرة«الطُّرُقيّة» الّتي اجْتَاحَت الاِجْتَمَاعَ المغربيَّ وأَخَذَتْ بأَلْبَابِ النَّاس، يَسْتَطْرِدُ في إِحْصَاءِ مَظَاهِرِ وأَمَارَاتِ الاِنحرافِ فيها، النَّاجِمِ عن فِعْلِ الاِبتداع، فيَذْكُرُ أنَّ: «مِن بِدعهم الشَّنِيعة مُحُاكَاتُهُم أَضْرِحَةَ الشُّيُوخ لبيتِ اللهِ الحَرَام، مِنْ جَعْلِ الكِسْوَةِ لها وتَحْدِيدِ الحَرَم... واتِّخَاذِ المَوْسِمِ كلّ عامٍ! وهَذَا وأمثالُهُ لم يُشْرَع إلاَّ في حَقِّ الكعبة»، ثمّ يَذْكُرُ أنَّ:
«مِن جَهَالاتهم الفَظِيعة جَمْعُهُم بينَ اسمِ اللهِ تعالى واسمِ الوَلِيِّ في مَقَامَات التَّعْظِيم»، وأنَّ:
«مِن مَنَاكِرِهم الجَدِيرة بالتَّغْيِير: اجتماعُهُم كلَّ سنةٍ للوُقُوفِ يومَ عَرَفَةَ بضرِيحِ الشّيخ عبد السَّلام بن مشِيش...! ويُسَمُّونَ ذلكَ حجّ المسكين!». ثمّ إنَّ:
«مِن اخترَاعَاتهم: تَسْمِيَتُهُم لبِدْعَتِهِم بالحَضْرَة...أَخْذًا مِن اسْمِ حَضْرَةِ اللهِ تعالى...، فَأَوْهَمَ هؤلاءِ الشَّيَاطين بهذِهِ التَّسمية أنَّهُم يَكُونون في حالِ اشتغالِهِم بتلكَ البدعةِ في حَضْرَةِ اللهِ تعالى! ثمَّ يَذهبُون فيُسَمُّونَ جُنُونَهُم وتَخَبُّطَهُم عَلى تِلْكَ الطُّبُول والمزامِير بالحال!» [12].
ثمّ يقولُ الباحث:
«يُمثِّل النّاصريّ نموذج مقترحًا للمثقَّف السّلفيّ الَّذي لم يَحتفِل كبيرَ احتفال بما يُمكِنُ أن يَكونَ هُناك مِن تمييز أو تمايز بين الطّرقيّة والتّصوّف. ومع أنَّهُ لا يُصرِّح بموقفٍ سلبيٍّ خاصٍّ مِن التّصوّف، إلاَّ أنّه لم يَعِ ظاهرةَ الطُّرقيّة إلاَّ بما هي تمثُّلٌ للاعتقاداتِ الصّوفيّة الباطنيّة وتَعبيرٌ عنها. ذلك ما نقرأُهُ-مثلاً- في هذا النّصّ الّذي يقولُ فيهِ مُنْتَقِدًا ادِّعاءَ الطُّرُقيِّين للوَلاية، على شاكلةِ ما ادَّعَاه المتصوِّفةُ ممّن زَعَمُوا أنَّهم مِن أهلِها:
«....وكَثُرَ هذا وشَاعَ حتَّى ادَّعَاهُ مَن ليسَ مِن أهلِهِ. فلمَّا رأى الإِباحيَّة والملاحِدَة ذلك، انتهزُوا الفُرْصَةَ في تَرْوِيجِ بِدْعَتِهِم، وإِظهار ضلالتهم، فدَخَلُوا في غِمَارِ الصُّوفيّة وتَزَيَّوْا بِزِيِّهِم، وخَاضُوا في اصطلاحهم حتَّى عَرَفُوا بعضَ الشَّيء، ثمَّ فَاهُوا بالعَظَائِمِ وصَرَّحُوا بالحُلُول والاتِّحاد في حالِ حضورٍ وسُكُون، وقالُوا بإِسْقَاطِ التَّكاليف الشَّرعيّة، وزعموا أنَّ للشَّريعةِ ظاهرًا وباطنًا، وأنَّهُما مُتَغَايِرَانِ، وأنَّ الظَّاهِرَ منها للعامَّةِ والباطنَ للخَاصَّة، إلى غيرِ ذلك مِن أنواعِ كُفْرِهم وضلالتهم، ففَتَنُوا العامَّةَ وكثيرًا مِن الخاصَّة بذلك. فإذا أَنْكَرْتَ عليهِم شَيْئًا مِن ذلك، قالُوا: نحنُ أَرْبَابُ أحوالٍ وأَصحابُ أَذْوَاق، وسِرُّنَا لا يَطَّلِعُ عليهِ غيرُنا...» [13]..»اهـ.

تَسْلِيَةٌ من «ابنِ الحاجّ المالكيّ» للمُصْلِحِين السَّلَفِيِّينَ:
ـ ونختمُ بهذه الكلمات؛ وهي تَسْلِيةٌ من ابنِ الحاجّ المالكيّ في أوائل القرن الثّامن، إلى كُلِّ مُصْلِحٍ سُنِّيٍّ سلَفِيٍّ، لا سيَّما في هذه الأيّام، الّتي تَكَالَبَ فيها أنصارُ الخُرافة، والمقَدِّسُونَ للقبور! وأَرَادُوهَا حَرْبًا على السُّنَّةِ وأهلِهَا:
قال في«المدخل»(3/211): «...مَن مَشَى على لِسَانِ العِلْمِ واتَّبَعَ الحَقَّ والسُّنَّةَ المحمَّديَّةَ واقْتَفَى آثَارَ السَّلَفِ الماضِين (رضي الله عنهم)، سِيَّمَا إِنْ أَنْكَرَ عليهم ما هُم فِيهِ مِن عَوَائِدِهم الذَّمِيمة المخالِفَةِ للسُّنَّةِ، فالغَالِبُ مِن حالِ هذا الزَّمَانِ النُّفُورُ مِنْهُ؛ لأنَّهم يَزعُمُون أنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ علَيْهِم، وهُوَ إِنَّمَا تَرَكَ العَوَائِدَ والاِبْتِدَاعَ واتَّبَعَ السُّنَّةَ َالمحمَّديَّةَ وتَمَسَّكَ بها، وعَادَةُ النُّفُوسِ في الغَالِبِ النُّفُورُ مِن الحُكْمِ عَلَيْهَا. وقد قالَ عمرُ بن الخطّاب (رضي الله عنه): «يا حَقُّ! مَا أَبْقَيْتَ لي حَبِيبًا». وقد كانَ السَّلَفُ (رضي الله عنهم) على عَكْسِ هذا الحال، مَن اتَّبَعَ السُّنَّةَ أَحَبُّوهُ واعْتَقَدُوهُ وعَظَّمُوهُ ووَقَّرُوهُ واحْتَرَمُوهُ، ومَن كان على غَيْرِ ذلك، تَرَكُوهُ وأَهْمَلُوهُ ومَقَتُوهُ وأَبْغَضُوهُ، حتَّى مَن كان يُرِيدُ الرِّفْعَةَ عندهم والتَّعظيمَ ممَّن لا خَيْرَ فيهِ يُظْهِرُ الاِتِّبَاعَ، حتَّى يَعْتَقِدُوهُ على ذلك. وأمَّا اليومَ فيَعْتَقِدُونَ ويَحْتَرِمُونَ مَن يَفعلُ العَوَائِدَ المُحْدَثَةَ ويَمْشِي عليها، ولا يُنْكِرُ على أَحَدٍ ما هُوَ فِيهِ، فمَن أَرَادَ التَّخْرِيبَ في هَذا الزَّمَانِ فلْيَتَّبِعِ السُّنَّةَ المطهَّرَةَ، فإنَّهُم يَنْفِرُونَ عَنْهُ، ولا يَعْتَقِدُونَهُ غالبًا، لإِنْكَارِهِ ما هُم فيهِ، حتَّى قَدْ يَنْفِرُ عنهُ أَبَوَاهُ وأَهْلُهُ وأَقَارِبُهُ، لمُخَالَفَتِهِ ما هُمْ عليهِ...»اهـ، والحمدُ لله رب العالمين.


[1] - انظر: «تلبيس إبليس»(ذكر تلبيس إبليس على الباطنيَّة)، (ص:99 و104)، وفيه: «الباطنيَّةُ قومٌ تَسَتَّرُوا بالإسلام ومَالُوا إلى الرَّفْضِ وعقائدُهُم وأعمالُهُم تُبايِنُ الإسلامَ بالمرَّة...».
[2] - (ص:20)[عن مصدرٍ أجنبيٍّ: (doutte.e:notes sur l،islam maghrebin،les marabouts-extraits de la revue de l،histoire des religions-paris 1900.p.10-11.)].
[3] - ترجمة الباحثة: doutte.e.p.cit.p/7-8..
[4] -e.dermenghem: le culte des saints dans l.islam maghrebin. gallimard-paris 4e edition،1945 p.255. /ترجمة الباحثة.
[5] - وهو على العقيدةِ الأشعريَّةِ الخَلَفيَّة.
[6] - المَغيليُّ يُقرٍّرُ هذا على العقيدةِ الأشعريَّةِ الخَلَفيَّة، وهي في بابِ الإيمانِ والتَّكفير مَبنيَّةٌ على: بدعةِ الإِرْجَاءِ.
[7] - قارِن هذا بما كانَ من الشّيخِ محمّد بنِ عبدِ الوهَّاب (رحمه الله تعالى)، في قتالِهِ المشركين والكُفَّارَ من أهلِ البَوَادي، وانظر -على سبيلِ المثال- ما قالَهُ بإيجازٍ في رسالته: «»شرح مفصل ستَّة مواضعِ من السَّيرَة».
[8] - e.doutte: op.cit.p.68-69.
[9] - التَّسْطِيرُ والتَّشديد الأخير مِن محرِّر «الصِّراط».
[10] - السَّلفيَّةُ لا تَنْسَاقُ وراءَ العقلِ المُجرَّدِ، بل هيَ دعوةُ اتِّباعٍ للوَحْيِ المُنزَّلِ المعصُوم، والعقلُ عاضِدٌ وتابِعٌ، وآلةٌ لتلقِّي الوَحْيِ، ووسيلةٌ للفَهْمِ والتَّمْيِيز.
[11] - الكلماتُ باللَّون الأزرق في هذا النّصّ، جعلَهَا المُؤلِّفُ باللَّونِ القاتِم.
[12] - «الاِستقصا... »، الجزء الأول، ص.ص:144-145.
[13] - النَّاصريّ: «تعظيم المنّة بنُصرةِ السّنّة». مخطوط مصوّر-الخزانة الصّبيحيّة-سلا، رقم5906، ص28
0.





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©