قال الشيخ حفظه الله:
"فإنَّ الواجب على المسلم أن لا يظهر في غيرِ مظهرِه، ولا خلافَ ما يُبطِن، ولا خلافَ حاله، ولا يحكم على نفسه بعُلُوِّ مرتبته وسُموِّها، ولا يتكلَّف ما ليس له، فإنَّ هذا الخُلُقَ من صدق الحال، وقد قال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «الْمُتَشَبِّعْ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ»(1)، وقد جاء من أقوالهم:
وَمَن يَدَّعِي بِمَا لَيْسَ فِيهِ *** فَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الامْتِحَانِ
لذلك لا يجوز أن يَدَّعي العلمَ فيما لا يَعلم، والإتقانَ فيما لا يُتقِن، ولا أن يتصدَّر قبل التأهُّل، فإنَّ ذلك آفةُ العلم والعمل، لذلك جاء في أقوالهم: «من تصدَّر قبل أوانه؛ فقد تصدَّى لهوانه»، وقد جاء –أيضًا- عن بعض الأندلسيِّين قولهم:
نَعُـوذُ بِاللهِ مِنْ أُنَاسٍ *** تَشَيَّخُوا قَبْلَ أَنْ يَشِيخُوا...."
إلى أن قال:
"...ثمَّ ينبغي –أيضًا- توقيرُ العلماء، وأنَّ توقيرَهم وتقديرَهم واحترامَهم من السُّنَّة، وأنَّهم بَشَرٌ يخطئون، لكنَّ الواجب على المؤمن أن يظنَّ بأهل الإيمان والدِّين والصلاحِ الخيرَ، وعلى الطالب أن يترك الاعتراض على أهل العلم والأمانة والعدل، ويتَّهم رأيه عندهم، ولا يسعى بالاعتراض والمبادرة إليهم في موضع الاحتمال والاجتهاد قبل التوثُّق، ودون تثبُّتٍ وتبيُّنٍ؛ ذلك لأنَّ اتِّهامهم به غيرُ صحيحٍ، وإن ورد من غير عالِمٍ فهو لا يعرف خطأ نفسه، فأنَّى له أن يحكم عليه بالخطإ، فضلاً عن انتقاصهم، والاستدراكِ عليهم، بل الواجب أن يضع الطالبُ أو المسلم ثقتَه في أهلِ العلم، ويصونَ لسانه عن تجريحهم أو ذمِّهم، فإنَّ ذلك يُفقدهم الهَيبةَ، ويجعلهم محلَّ تُهمَةٍ، كما عليه أن يتحلَّى برعاية حُرمتهم، وتركِ التطاولِ والمماراة والمداخلات، وخاصَّة مع ملإٍ من الناس، فإنَّ ذلك يوجب العُجْبَ، ويورث الغرورَ.. نعم، إن وقع خطأٌ منهم أو وَهْمٌ، نَبَّهَ عليه من غيرِ انتقاصٍ منهم، ولا يثير البلبلةَ والهرج عليهم، ويفرحُ بالحطِّ فيهم، وما يفعل ذلك إلاَّ متعالِمٌ، «يريد أن يكحِّل عَيْنَه فيعميها»! أو «يريد أن يُطِبَّ زكامًا فيحدث جذامًا»!"
وقال أيضا:
"وعلى المسلم أن يتعامل مع الناس بالحُسْنَى، ويعترف بحقوقهم، ويكفَّ الأذى عنهم بعدم ارتكاب ما يضرُّهم، أو فعل ما يؤذيهم خاصَّةً إذا كانوا أكبر منه سِنًّا وعِلمًا وشرفًا، أو كانوا سببًا في توجيهه، أو لحقه منهم شيءٌ من فضلهم، فلهم الفضل عليه فهم بمثابة والديه، والواجب نحوهما البرّ وإيصال الخير لهما، وكفُّ الأذى عنهما، والدعاء، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، فإنَّ ذلك كلّه من الإحسان، والإحسان -كما لا يخفى- جزءٌ من عقيدة المسلم، وشَقْصٌ كبيرٌ من إسلامه، ذلك لأنَّ مبنى الدِّين على ثلاثة أصول، وهي الإيمان، والإسلام، والإحسان، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام المتَّفق عليه، حيث قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فيه عقب انصراف جبريل عليه السلام، قال: «هَذَا جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ»(5)، فجعل الإحسانَ من الدِّين، أمَّا العبارات التي يأتي بها غالبًا هؤلاء الطلبة في غاية القبح، من السبِّ، والفزاعة، والفحش، وغيرها من الكلمات، واللَّمز، والطعن، ومختلف آفات اللِّسان؛ فليست من الإحسان في شيء، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[البقرة: 83]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[النحل: 90]، وأهل الصلاح والدِّين يتحاشون مثل هذه الكلمات، وقد قال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الفَاحِشِ، وَلاَ البَذِيءِ»(6)، بل إنَّ الإسلام نوَّه بالخُلُق الحسن، ودعا إلى تربيته في المسلمين، وتنميته في نفوسهم، وأثنى الله سبحانه وتعالى على نبيِّه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بحسن الخلق، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وأمره بمحاسن الأخلاق، فقال: ﴿اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصّلت: 34]، ورسالة الإسلام كُلُّها حُصِرت في هذا المضمون من التزكية والتطهير، فقد قال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الحديث: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ»(7)، ومنه نعلم أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قد أتمَّ هذه التزكية منهجًا وعملاً؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أتمَّ دينَه ونعمتَه على رسوله وعلى المؤمنين، فالتزكية التي هي غاية الرسالات وثَمرتُها تُعَدُّ من أصول الدعوة السلفية، وإحدى أركانها الأساسية.
والذي يمكن أن أنصحه –أخيرًا- هو أنَّ الإسلام ليس عقيدةً وعبادةً فَحَسْب، بل هو أخلاقٌ ومُعامَلة، فالأخلاقُ المذمومة في الإسلام جريمةٌ مَمقوتةٌ، والممقوتُ لا يكون خُلقًا للمسلم، ولا وصفًا له بحالٍ من الأحوال؛ ذلك لأنَّ الطهارةَ الباطنية مكتسبةٌ من الإيمان والعمل الصالح، وهي لا تتجانس مع الصفات الممقوتةِ، ولا تتفاعل مع الأخلاق الذميمة، التي هي شرٌّ محضٌ، لا خيرَ فيها، فعلينا أن نجتنب الشرَّ، ونقترب من الخير، وعلينا أن نتحلَّى بالصلاح والتقوى، فهو مقياس التفاضل، وميزانُ الرجال.
اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من كلِّ خُلُقٍ لا يُرضي، وكلِّ عمل لا يَنفع، واللهُ من وراء القصد، وهو يهدي السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
- موقع الشيخ حفظه الله -





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©