جاء في كتاب كامل ( منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين ) للدكتور مصطفى حلمي هذا المبحث المتعلق بتوصيف نظرية المعرفة عند شيخ الإسلام ابن تيمية فلتتفضلّوه مشكورين :


نظرية ابن تيمية في المعرفة

الفطرة الإنسانية وطرق المعرفة :

لا يمكن فهم عملية المعرفة الإنسانية إلاّ بالنظر إلى الإنسان ومكوناته ، ذلك أنّ تضخيم أحد جوانبه على الجوانب الأخرى يؤدي إلى أخطاء في التصورات ناشيء عن إنحراف الفهم .
ويعد تعريف ابن تيمية للإنسان مدخلا للنظر إلى تفسير كيف تتم عملية المعرفة ، لأنّ الاختلاف الأساسي في رأيه بين الفلاسفة والمتكلمين من ناحية والصوفية والفقهاء من ناحية أخرى يرجع إلى تجزئة القدرات الإنسانية وعدم التصور الصحيح للإنسان كما خلقه الله تعالى . ومن ثم فإن الإسلام جاء مخاطبا الفطرة الإنسانية كما خلقها الله تعالى باعتبار أن الإنسان حي حساس متحرك بالإرادة - أو أنه علم وعمل ، عقيدة وعبادة ، معرفة وسلوك ، فأثبت ابن تيمية أن الإسلام جاء موافقا لهذه الثنائية في خلقه الإنسان ، فيعلمه بكل ما هو حق ويأمره باتباع المعروف ، ويلفت أنظاره إلى الآيات الكثيرة الدالة على وجود الله عز وجل ، وعلى حكمته وعدله ورحمته وقدرته وسائر الصفات والأسماء الكاملة له سبحانه ، كما أنه لا يأمره إلاّ بالمعروف ، ولا ينهاه إلاّ عن المنكر . ويهتم ابن تيمية ببيان الصلة التي ينبغي أن تكون بين العبد وربه حتى تستقيم الحياة ويسعد الإنسان فيقول : (أما النفس فإن لها قوة الإرادة مع الشعور وهما متلازمان ، والنفس تتقوم بمرادها ، وهو المعبود ، والله سبحانه هو المقصود المعبود وحده لا بمجرد ما تشعر به ) (1) .
ويستند ابن تيمية إلى النصوص ويفسرها ويشرح مفصلها ، فالإنسان قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (أصدق الأسماء حارث وهمام) فهو دائما يهم ويعمل ولكنه لا يعمل إلاّ ما يرجو نفعه أو يدفع مضرته ، وينطبق ذلك الوصف على من صحت فطرته ، فالفطرة السليمة تعرف الحق وتحبه وتطمئن غليه وتكذب الباطل وتبغضه وتنكره ، كما قال تعالى : (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) [الأعراف ، الآية : 157] (2) .
ولكن المشاهد في أحوال كثيرة من الناس يعلم أن شيئا يضره ومع ذلك يفعله ، ويعلم أن شيئا ينفعه ومع ذلك يتركه ، فما تعليل ذلك ؟
ويرى شيخ الإسلام أن ذلك عارض ما في نفسه من طلب لذة أخرى أو دفع ألم آخر ، فأصبح جاهلا ، حيث قدم هذا على ذلك ولهذا قال أبو العالية (متوفى 90ه) (وهو من كبار التابعين) سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : (إنّما التوبة على الله الذين يعملون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب) [النساء ، الآية : 17] (3) فقالوا : كلّ من عصى الله فهو جاهل ، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب .
وإذا عدنا إلى مبدأ الثنائية في خلق الإنسان ، وعرفنا حقيقة العداء بينه وبين الشيطان ، استطعنا الوقوف على أسباب أخرى للمفاسد والمعاصي لأنّ مبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك ، ومبدأ الإعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان ، وذلك تفسير قول الله تعالى : (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) [البقرة ، الآية : 268] وقال تعالى أيضا : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) [آل عمران ، الآية : 175 ] أي يخوفكم أولياءه
الاصل غذن أن الله تعالى خلق عباده على الفطرة التي إن تركت على سجيتها عرفت الحق وعملت به - لأنها جلبت على الصحة في الإدراك وفي الحركة (2) لذلك يأتي دور الرسل عليهم السلام بتكميل الفطرة الإنسانية لا بتغييرها . قال تعالى (سنريهم ءايتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّه الحق) [فصلت ، الآية : 35]
وهذا التطابق والتوافق بين آيات الله تعالى في الآفاق والأنفس يأتي متطابقا مع الآيات القرآنية السمعية (لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق ، فتطابق الدلالة البرهانية القرآنية والبرهانية العيانية ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول) .
ومما يساعد الإنسان في الوصول إلى معرفة الحق أن يهتدي بالطرق العقلية التي إستخدمها القرآن الكريم والتوافق بين آيات الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس - أي العيانية والعقلية وكذلك السمعية .
وينتقد ابن تيمية الفلاسفة القائلين بأنّ العبادات التي أمرت بها الرسل مقصودها إصلاح النفس لتستعد للعلم الإلهي وهي الحكمة النظرية في تعريفهم الذي زعموا أنه كمال النفس ، أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة أي الحكمة العملية .
ويظهر تميز ابن تيمية في نقده للمناطقة والفلاسفة عندما يربط في مناقشته لهم بين العلم الإلهي عندهم وعند المسلمين - فالعلم بالله هو (العلم الأعلى) ويتحقق هذا العلم على الوجه الصحيح باكتمال ناحيته النظرية والعملية ، ولا يقتصر الأمر على أن النفس تكمل بمجرد العلم به فقط كما زعموه ، لأن النفس لها قوتان : قوة علمية نظرية ، وقوة إرادية عملية ، فلا بد لها من كمال القوتين بمعرفة الله تعالى ، وعبادته .
وبناء على هذا التفسير يسقط زعم الفلاسفة ويقصد ابن سينا خاصة بأن العبادات التي أمرت بها الرسل مقصودها إصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس ، فيجعلون العبادات وسيلة محضة إلى ما يدعونه من العلم ( ولهذا يرون ذلك ساقطا عمن حصل المقصود ، كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية ، ومن دخل في الإلحاد أو بعضه ، وانتسب إلى الصوفية ، أو المتكلمين ، او الشيعة ، أو غيرهم) (4) .
ويبدع ابن تيمية في تحليله لمكونات النفس الإنسانية واشتمالها على القوة العلمية والقوة الإرادية العملية لكي يعطي العبادات مكانتها الصحيحة ودورها الفعال في العلاقة بين الإنسان وربه ، فغن عبادته - سبحانه وتعالى - تجمع بين محبته والذل له .
تتميز إذن نظرية ابن تيمية بنظرة شمولية جامعة ، فالنفس لها قوة نظرية علمية ، وقوة إرادة عملية ، وهي مفطورة على معرفة الله عزّ وجلّ كذلك تعرف المعروف وتنكر المنكر ويؤيدها الملك بالعلم والحق والإرادة الصالحة ، بينما الإعتقاد الباطل و الإرادة الفاسدة من هواتف الشيطان .
وإزاء هذا التصور للإنسان ومكوناته ودوافعه النفسية ، لا تكفي المعرفة ؛ لأنها تتصل فقط بالقوة النظرية العلمية ، بل لكي يقف الإنسان على قدميه مقاوما الأهواء وهواتف الشيطان ومعوقات سيره نحو الله تعالى لا بد له من عبادة الله وحده لا شريك له (والعبادة تجمع معرفته ، ومحبته ، والعبودية له . وبهذا بعث الله الرسل ، وأنزل الكتب الإلهية : كلها تدعو غلى عبادة الله وحده لا شريك له ) (5) .

الهدى والبينات :

تحدثنا من قبل عن نقد ابن تيمية للمتكلمين لا سيما في ظنّهم بأنّ الصحابة لم يكونوا أهل نظر ، واستخدامهم لأساليب كلامية بدعية مخالفة لأساليب القرآن في النظر والإستدلال العقلي .
بينما استدل القرآن الحكيم بالهدى والبيان والادلة والبراهين وهي تغني عن مناهج النظر التي اسسها اهل الكلام ، فغن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، وأرسله بالآيات والبينات ، ومن الممتنع أن يرسل الله رسولا يامر الناس بتصديقه ولا يكون هناك ما يعرفون به صدقه .
وقال تعالى : (إنّ الّذين يكتمون مآأنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّنّه للناس في الكتاب كامل ألئك يلعنهم الله ويلعنهم اللّعنون) [البقرة : 109]
ويفصّل ابن تيمية المعاني القرآنية لكلمات البينات والهدى والفرقان كما يلي :
أ - فإن البينات جمع (بينة) وهي : الأدلة والبراهين التي هي بينة نفسها أي :
بديهيات ، وأولويات وضروريات وكلها ألفاظ مترادفة تطلق منهجيا على القواعد الأساسية للمعارف والعلوم ، وبها يتبين غيرها ، يقال : بين الأمر أي تبين في نفسه ويقال بين غيره ، فالبين اسم لما ظهر في نفسه ولما أظهر غيره ، وكذلك المبين كقوله فاحشة مبينة : أي متبينة . ومقدمات الأدلة تكون معلومة بنفسها كالمقدمات الحسية والبديهية ، وبها يتبين غيرها فيستدل على الخفي بالجلي والهدى أيضا هو بيان ما ينتفع به الناس ويحتاجون إليه وهو ضد الضلالة ، فالضال يضل عن مقصوده وطريق مقصوده وهو سبحانه عرفهم ان الله هو المقصود المعبود وحده وأنه لا يجوز عبادة غيره .
ويوضح الصلة بين البينات والهدى فيذكر أن البينات فيها بيان الأدلة والبراهين وعلى ذلك فليس ما يخبر به ويأمر به من الهدى قولا مجردا عن دليله ليؤخذ تقليدا واتباعا للظن ، بل هو مبين بالآيات والبينات - وهي الادلة اليقينية والبراهين القطعية .
ثم يخطو خطوة أخرى فيذكر أن الهدى التام لا يكون إلاّ مع الفرقان ، ولهذا قال تعالى : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة ، الآية : 185] فالفرقان هو المفرق بين بين الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب والمأمور والمحظور والحلال والحرام ، وأيضا فإن الأدلة تشتبه كثيرا بما يعارضها فلا بدّ من الفرق بين الدليل الدال على الحق وبين ما عارضه ليتبين أن الذي عارضه باطل ، فالدليل يحصل به الهدى وبيان الحق لكن لا بد مع ذلك من الفرقان وهو الفرق بين ذلك الدليل وبين ما عارضه (6) .
ويضرب الأمثلة على ما يقصده بالفرق بين الهدى والفرقان ، فالهدى مثل أن يأمر بسلوك الطريق إلى الله كما يؤمر قاصد الحج بسلوك طريق مكة مع دليل يوصله ، والفرقان أن يفرق بين ذلك الطريق وغيره وبين الدليل الذي يسلكه ويدل الناس عليه وبين غيرهم ممن يدعي الدلالة وهو جاهل مضل ، وهذا وأمثاله مما يبين أنّ في القرآن الأدلة الدالة للناس على تحقيق ما فيه من الأخبار والأوامر الكثيرة (7) .
والله سبحانه أنزل في كتبه البينات والهدى ، فمن تصور الشيء على وجهه فقد اهتدى غليه ، ومن عرف دليل قبوله فقد عرف البينات ، فالتصور الصحيح اهتداء وهو سبحانه - إذا ذكر الأنبياء - نبينا وغيره - ذكر انه أرسلهم بالآيات البينات ، وهي الأدلة والبراهين المعلومة علما يقينا إذا كان كلّ دليل لا بد أن ينتهي إلى مقدمات بينة بنفسها قد تسمى بديهيات وقد تسمى ضروريات وقد تسمى أوليات ، وقد يقال هي معلومة بأنفسها ، فالرسل صلوات الله عليهم بعثوا بالآيات البينات (8) .
أيحتاج الناس بعد ذلك إلى أقيسة وأدلة المتكلمين والفلاسفة ، إنّ الكتب المنزلة وآخرها القرآن الحكيم - كلها بذاتها - آيات بينة لأنها كلام الله تعالى أوحى به إلى أنبيائه ورسله ، كذلك اتجه الوحي إلى مخاطبة الفطرة التي فطر الناس عليها ، ومنها تمييزها الموازين العقلية بين الحق والباطل إذا حافظت على فطرتها ولم تنصت إلى هواتف الشيطان أو تجنح مع هوى النفس .

.................................................. ..........

1 - ابن تيمية : النبوات ص 90 - 91
2 - ابن تيمية : نقض المنطق ص 29
3 - ابن تيمية : نقض المنطق ص 29 - 30
4 - ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ج 1 ص 83 - النبوات ص 303
5 - ابن تيمية : الردّ على المنطقيين ص 145
6 - ابن تيمية : الردّ على المنطقيين ص 144 - 145
7 - ويلحظ الباحث أن ابن تيمية يشتد في خصومته للجهمية ويحملهم مسؤولية الإنحرافات كلها وأنهم اصل البلاء الذي حدث بتفرق المسلمين شيعا وأحزابا ويصفهم بقوله : فهؤلاء الجهمية من أعظم مبتدعة المسلمين ، بل جعلهم غير واحد خارجين عن الثنتين وسبعين فرقة كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك ، ويوسف ابن اسباط ( الرد على المنطقيين ص 146)
8 - النبوات ص
[/quote]




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©