لقد تميزت الأمة الإسلامية بخاصية منفردة لم تكن لأمة من الأمم السابقة وهي ميزة الوسطية التي جعلها الله – سبحانه وتعالى – خصيصة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم في قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (سورة البقرة : 143) .

ولفظ ” وسطا ” يعبر عن معنى جديد في الأديان وخلق سام في الدين الإسلامي .
وقد وردت كلمة الوسط ومشتقاتها في ذات المعنى تقريبا مرات عديدة في القرآن الكريم ، منها :

قوله تعالى : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ )(سورة البقرة : 238) .


ومن تفاسير هذه الآية أن المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة العصر لأنها واقعة بين صلاتي النهار وصلاتي الليل .

وقوله – تعالى – في كفارة اليمين فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) (سورة المائدة : 89) .


يفسر العلماء ” أوسط الطعام ” هنا بأنه لا مغالاة في جودته أو في رداءته ، وكذلك في ثمنه ما بين غلو في الارتفاع أو نزول في الانخفاض .


وقوله تعالى : (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) ( سورة القلم : 28) .

وأوسطهم أى : أعدلهم ، ولفط الوسط لغة بمعنى أنه ما يكون بين طرفين ، وسط الشيء ما بين طرفيه وأعدله . والتوسط بين النقيضين ، والأوسط بمعنى الاعتدال والأبعد عن الغلو ، وكذلك يأتي بمعنى الأفضل ، إذ الوسط بطبيعة الحال محمي من العوارض والآفات التي تأتي أطراف الشيء . ويستعمل الوسط في الفضائل ثم صار الوسط وصفا للمتصف بالفضائل . . . يقال : رجل وسط وأمة وسط .

ويقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) أي إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم ، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل ، والوسط هنا الخيار والأجود . . . ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب .


ومعنى الأمة الوسط أنها أفضل الأمم وأعدلها وأكملها وأبعدها عن الغلو ، فمثل هذه الأمة تحميها وسطيتها مما يلحق بأخواتها – إذا جانبت الوسطية- من النقائص والعيوب من جميع النواحي .

ولن نعني بوسطية الإسلام أو وسطية الأمة الإسلامية وسطية مادة التاريخية ولا جغرافية ولا ثقافية ولا عرقية لأن معيار الصلاح والتقوى هو المقياس الذي وضعه الإسلام منهجا تقاس به أفضلية الأمم والأفراد وكمالها . قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (سورة الحجرات : 13) .

والأمة الإسلامية لكونها أمة وسطا وسط لها مسؤولية ربانية مكلفة بأن تحمل أكمل منهج وأقومه في العقيدة والأخلاق والتشريع إلى بقية المجتمعات الإنسانية ، مكلفة بدعوة الأمم الأخرى إلى الصراط المستقيم ، منهج الله الذي يضمن للإنسان والمجتمع الحق والخير ويحقق له السعادة .
وذلك بالأساليب والطرق الحكيمة الرشيدة التي أرشدها الله سبحانه وتعالى في قوله ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (سورة النحل : 125) .

وكذلك بالقدوة بأن يصبح المجتمع الإسلامي مجتمعا سليما يحقق لأهله وللبشر جميعا الحق والخير والسعادة والاستقرار ، خصوصا في الأوقات والظروف التي يزداد فيها الانحراف والبعد عن المنهج الرباني ويكثر فيها العنف والتطرف وتشويه صورة الإسلام الحقيقية والنيل منه .

ولله در القائل : ضاع هذا الدين (أي الإسلام ) بين الغالي فيه والجافي عنه ، هذه المقولة تفصح عن خطورة الابتعاد عن الوسطية التي هي أبرز سمات الأمة الإسلامية ، الإسلام وسط فلا إفراط ولا تفريط ، وسط فلا طغيان ولا نقصان ، وسط فلا تشدد ولا ترخص ، وسط بين رعاية حقوق الفرد على حساب الجماعة ، أو العناية بمصالح الجماعة على حساب الفرد ، فالوسطية تعنب العدل ، فلا يظلم جانب على حساب جانب آخر ، والوسطية تعني التوازن فلا يختل أمر على حساب آخر ويريد الله – سبحانه وتعالى – للمسلمين أن يحملوا للعالم رسالة الحب والخير

والعدل لتحقيق وسطية هذه الأمة ، وكذلك يريد منهم أن يزيلوا الظلم والطغيان ، فلم يحمل المسلمون السيف في وجه الجاهلية إلا لأنها طغت وتجبرت ووقفت في وجه الدعوة الإسلامية ، ولم يشن المسلمون حربهم ضد الفرس والرومان والغدر اليهودي إلا بتجنيهم على القيم الإنسانية العالية التي يعتز بها بنو البشر .

فالإسلام دين وسط واسع الأفق قابل لكل تجديد في سبيل الرقي والتقدم والبناء ويرفض الجمود والتعصب والعنف والهدم .

فوسطية الإسلام تسعى إلى تحقيق منهج في الحياة لإيجاد التوازن في حياة الإنسان الروحية والمادية وفق فطرة الله التي فطر الناس عليها ، منهج يلتقي فيه عالم الشهادة بعالم الغيب ، لأن الإسلام دين عقيدة ترتكز على المادة والروح معا .


فتلك وسطية اكتملت أصولها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كما رسمها القرآن الكريم ، ولم تحدث ظاهرة زيادة شيء جديد لها من بعد ، وليس فيها سر ولا نقصان ولا ما يصدم العقل أو العلم أو الفطرة . فالوسطية مزية فريدة للإسلام حتى يطمع كثير من الناس أن تحقق للبشرية عملا مهمًا ، يقول هاملتون جب : أؤمن بأن الإسلام لا تزال له رسالة يؤديها إلى الإنسانية جمعاء حيث يقف وسطا بين الشرق والغرب ، وإنه أثبت أكثر مما أثبت أي نظام سواه مقدرة على التوفيق والتأليف بين الأجناس المختلفة ، فإذا لم يكن بدّ من وسيط يسوي ما بين الشرق والغرب من نزاع وخصام فهذا الوسيط هو الإسلام .











©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©