قال العلامة ابن قيم الجوزية [ت751] في كتاب كامل (( إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان )) (2/279-282):

.

ولعل الجاهل يقول: إنا تحاملنا عليهم فى نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم. وليس هذا من جهلة بمقالات القوم، وجهلة بحقائق الإسلام ببعيد.

.

فاعلم أن الله - سبحانه وتعالى عما يقولون - عندهم كما قرره أفضل متأخريهم، ولسانهم، وقدوتهم الذى يقدمونه على الرسل: أبو علي بن سينا: هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به، ولا يفعل شيئا باختياره البتة ولا يعلم شيئا من الموجوادت أصلا، لا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئا من المغيبات. ولا له كلام يقوم به، ولا صفة.

.



ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر فى الذهن، لا حقيقة له، وإنما غايته أن يفرض رائعه الذهن ويقدره، كما يفرض رائع الأشياء المقدرة، وليس هذا هو الرب الذى دعت إليه الرسل وعرفته الأمم، بل بين هذا الرب الذى دعت إليه الملاحدة وجردته عن الماهية، وعن كل صفة ثبوتية، وكل فعل اختياري، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل به، ولا مباين له ولا فوقه ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله - وبين رب العالمين وإله المرسلين، من الفرق ما بين الوجود والعدم، والنفي والإثبات.

.

فأي موجود فرض رائع كان أكمل من هذا الإله، الذى دعت إليه الملاحدة، ونحتتْه أفكارُهم، بل منحوت الأيدي مِن الأصنام له وجود، وهذا الرب ليس له وجود، ويستحيل وجوده إلا في الذهن.

.

هذا، وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم الأول إرسطو. فإن هؤلاء أثبتوا وجودا واجباً ممكنا، هو معلول له وصادر عنه صدور المعلول عن العلة، وأما إرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة، وعلة غائية لحركة الفلك فقط، وصرح بأنه لا يعقل شيئا، ولا يفعل باختياره.

.

وأما هذا الذى يوجد فى كتب المتأخرين من حكاية مذهبه، فإنما هو من وضع ابن سينا. فإنه قرب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده، وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين فى التجهم، فهم فى غلوهم فى تعطيلهم ونفيهم أشد مذهبا وأصح قولا من هؤلاء.

.

فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل.

.

وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم. وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبى بزعمهم فى نفسه من أشكال نورانية، هي العقول عندهم، وهى مجردات ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السماوات، ولا تحتها، ولا هى أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل، ولا تدبر شيئًا، ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العبد، ولا لها إحساس ولا حركة البتة، ولا تنتقل من مكان إلى مكان، ولا تَصُفُّ عند ربها، ولا تصلي، ولا لها تصرف فى أمر العالم البتة، فلا تقبض نفس العبد، ولا تكتب رزقه وأجله وعمله، ولا عن اليمين وعن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة.



وأما الكتب، فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئا، ولا يقول، ولا يجوز عليه الكلام. ومن تقرب منهم إلى المسلمين يقول: الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعانى، وتشكلت فى نفسه بحيث توهمها أصواتا تخاطبه، وربما قوى الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه، وربما قوى ذلك حتى يخيلها لبعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك فى الخارج.

.

وأما الرسل والأنبياء، فللنبوة عندهم ثلاث خصائص، من استكملها فهو نبي:

.

أحدها: قوة الحدس، بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة.

.

الثانية: قوة التخيل والتخييل، بحيث يتخيل فى نفسه أشكالا نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويخيلها إلى غيره.

.

الثالثة: قوة التأثير بالتصرف فى هيولى العالم. وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات، من العقول والنفوس المجردة.

.

وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب. ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين، وابن هود، وأضرابهما. والنبوة عند هؤلاء صنعة من الصنائع، بل من أشرف الصنائع، كالسياسة، بل هي سياسة العامة، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة: نبوة الخاصة. والنبوة: فلسفة العامة.

.

وأما الإيمان باليوم الآخر، فهم لا يقرون بانفطار السماوات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السماوات والأرض فى ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه.

.

فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولا نبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحى من الله تعالى.

.

فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير وأهون من دين هؤلاء.

.

وحسبك جهلا بالله تعالى، وأسمائه، وصفات جزائريةه، وأفعاله، من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب، واستكمل بغيره. وحسبك خذلانا وضلالا وعمي: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أولو العقول.

.

وحسبك عجبًا من جهلهم، وضلالهم: ما قالوه فى سلسلة الموجودات، وصدور العالم عن العقول والنفوس، إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة، لا علم له بما صدر عنه ولا قدرة له عليه، ولا إرادة، وأنه لم يصدر عنه إلا واحد. فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطل ما أصَّلوه، وإن لم يكن فيه كثرة البتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله، وتكثر الموجودات وتعددها يكذب هذا الرأى الذى هو ضحكة للعقلاء وسخرية لأولى الألباب، مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا، وإرادته تقريب هذا المذهب من الشرائع، وهيهات. وإلا فالمعلم الأول لم يثبت صانعا للعالم البتة.



.

والرجل معطل مشرك، جاحد للنبوات والمعاد، لا مبدأ عنده ولا معاد، ولا رسول ولا كتاب كامل.

.

[انتهى النقل من كلام ابن القيم رحمه الله]





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©