ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر، ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق، لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم، لكان متصفا بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق، لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده.
فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. قيل: لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنيا فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعا، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو: إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجل وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين. وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصا، ولا يوجب محذورا، ولا يخالف كتاب كاملا ولا سنة ولا إجماعا، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به الشريعة الاسلامية أصلا. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتاب كامله وبما جاء به رسوله -: إلا بذلك ؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعا:
أحدها: التصريح بالفوقية مقرونا بأداة"من"المعينة للفوقية بالذات، كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}.
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}.
الثالث: التصريح بالعروج [إليه] نحو: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم».
الرابع: التصريح بالصعود إليه. كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}.
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}. وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}.
السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلو، ذاتا وقدرا وشرفا، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب كامل منه، كقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}، {حم}{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}{أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}.
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ}. ففرق بين"من له"عموما وبين"من عنده"من ملائكته وعبيده خصوصا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب كامل الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: «أنه عنده فوق العرش».
التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون" في "بمعنى "على"، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره.
العاشر: التصريح بالاستواء مقرونا بأداة" على" مختص بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحبا في الأكثر لأداة "ثم" الدالة على الترتيب والمهلة.
الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا.» والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط - باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع. كما يأتي إن شاء الله تعالى.
الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل.
الثالث عشر: الإشارة إليه حسا إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم بربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: «أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون ؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعا لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلا: «اللهم اشهد». فكأنا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع أصبعه إليه: اللهم اشهد، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين.
الرابع عشر: التصريح بلفظ "الأين" كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بيانا عن المعنى الصحيح، بلفظ لا يوهم باطلا بوجه:"أين الله"، في غير موضع.
الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال إن ربه في السماء - بالإيمان.
السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء، ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}. فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته فهو موسوي محمدي.
السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم: أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه ثم يعود إلى موسى عدة مرار.
الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى، من الكتاب كامل والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، فلا يرونه إلا من فوقهم، «كما قال صلى الله عليه وسلم: بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}، ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم». رواه الإمام أحمد في المسند وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه. ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية. ولهذا طرد الجهمية الشقين، وصدق أهل السنة بالأمرين معا، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذبا بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك !
وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جدا: فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب كامله: الفاروق، بسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى، لا من أسفل. انتهى.
ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم، مخالفون له في كثير من اعتقاداته. وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم. وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي، لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش - مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره.
... ثم قال رحمه الله:
الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته، والأول باطل: أما أولا: فبالاتفاق، وأما ثانيا: فلأنه يلزم أن يكون محلا للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والثاني: يقتضي كون العالم واقعا خارج ذاته، فيكون منفصلا، فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه - غير معقول.
الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه -: يقتضي نفي وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجودا إما داخله وإما خارجه. والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة.
ثم قال:
فإن قلتم: أكثر العقلاء يقولون بقولنا ؟ قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم ليس هو فوق العالم [وليس فوق العالم شيء موجود] ، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم -: طائفة من النظار، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم بن صفوان وأتباعه.

واعترض على الدليل الفطري: أن ذلك إنما كان لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض ؟.
وأجيب على هذا الاعتراض من وجوه:
أحدها: أن قولكم: إن السماء قبلة للدعاء - لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو إن له قبلتين: إحداهما الكعبة والأخرى السماء - فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.
الثالث: أن القبلة: هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء، والذكر والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون، ولذلك سميت"وجهة"، والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى"قبلة"، لا حقيقة ولا مجازا، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى"قبلة"، لا حقيقة ولا مجازا، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقبل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك.
ومعلوم أن [التوجه] بالقلب، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري، يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة، وأمر [التوجه] في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده.





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©