من عقائد النصارى كما يلخِّصها العلامة محمود شاكر
معاني الألفاظ الأربعة التي يدين بها النصارى على معتقدهم ومعانيها التي جاءت بها اللغة مادة اللغة العربية:
وترتيب هذه الكلمات الأربعة في دلالتها عند القوم يأتي هكذا الخطيئة ثم الفداء ثم الصلب ثم الخلاص.
وتلخيص هذه الألفاظ الأربعة في العقيدة المسيحية:
أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم من تراب وقال له: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}، فأزلهما الشيطان عنها. فبهذه المعصية كما نقول نحن، وهي الخطيئة عند النصارى، أصبحا هما وذريتهما تحت سلطان هذه الخطيئة، لا ينفكون منها، واستحق البشر جميعا، بخطيئة والديهم، عقاب الآخرة وهلاك الأبد، وهذا هو ناموس العدل الذي لا يتغير، يستحقه من عصى الله سبحانه عندهم، ومن ورث خطيئة آدم وزوجه، فإن عاقب الله آدم وذريته على خطيئتهم بهلاك الأبد، فذلك ما يوجبه ناموس عدله في حكمه، ولكن ناموس رحمته يستوجب العفو عنهم، فناقضَ ناموس العدل، ناموسَ الرحمة، فتطلب الأمر شيئا يجمع بين الرحمة والعدل، فكانت الفدية التي يتم بها ناموس العدل، ويتحقق بها ناموس الرحمة.
ولكن ينبغي أن تكون الفدية طاهرة غير مدنسة. وليس في الكون ما هو طاهر بلا دنس إلا الله سبحانه وتعالى.
ولكن تعالى الله عن أن يكون فدية، فأوجبت المشيئة أن يتخذ جسدا يتحد فيه اللاهوت والناسوت، فاتحدا في بطن امرأة من ذرية آدم هي مريم، فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث هو ولدها، وكان الله =تعالى عن ذلك علوا كبيرا=، في الجسد إلاها كاملا، ثم احتمل هذا الإنسان الكامل والإله الكامل، أن يقدم ذبيحة، ليكون ذبحه تمزيقا لصكِّ الدَّينونَة المُصلَت على رأس بني آدم، فمات المسيح على الصليب.
فاستوفى ناموس العدل بذلك حقه، واستوفى ناموس الرحمة بذلك حقه، وهذا هو ''الصلب''. وكان احتمال ذلك كله كفارة لخطايا العلمين، تخلُّصهم من ناموس هلاك الأبد، وهذا هو ''الخلاص''.
ولما كان البشر كلهم خُطَاةً بخطيئة أبيهم آدم وأمهم، فهم هالكون هلاك الأبد، ولا ينجيهم من عقاب الالشريعة الاسلامية الإلهية العادل المخيف، سوى إيمانهم بالمسيح الفادي، وبحضوره في كل وقت في قلوب المؤمنين، في الفرح والحزن، والشقاء والسعادة، فهو الذي يؤازرهم بما يحتاجون إليه من العون والحكمة ويخلصهم من ثقل الخطيئة، وينجيهم من العقوبة المستحقة عليهم منذ كانت الخطيئة الأولى.)169-170[أباطيل وأسمار]
(وهذه الألفاظ الأربعة لا تعامل معاملة أشباهها، من جهة دلالتها على عقيدة متكاملة.
فالخطيئة في لغة العرب الجاهلين، ثم لغة المسلمين، لا تحمل شيئا من معانيها ولوازمها في لغة النصارى، وإن كان اللفظ واحدا. ومعصية آدم عندنا كسائر المعاصي، تمحوها التوبة، وخطيئة كسائر خطايا الناس، تغسلها المغفرة ممن يملك المغفرة، وهو الله سبحانه. وقد بين الله ذلك في قوله:{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}.
فكانت توبة آدم ماحية لمعصيته في الدنيا والآخرة، لا تستتبع عقوبة باقية، وأن الله سبحانه كتب في صحف إبراهيم وموسى:{ ألا تزر وازرة وزر أخرى}. فلا يرث مولود خطيئة وارث{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى}. فهذا ينقض على المسلم استعماله لفظ ''الخطيئة""، بمدلولها في الديانة المسيحية لأن هذا الضرب من الخطيئة لا أصل له في عقيدته، بل هو منهي أن يعتقد توارث الخطيئة، لأنه إذا اعتقد ذلك كذب خبر الله في كتاب كامله، بأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وتكذيب خبر الله واعتقاد خلافه كفر مجرد. لا يختلف في ذلك أحد من المسلمين، ولا العقلاء عامة، مسلمين أو غير مسلمين.
وإذا بطل أن يكون للفظ الخطيئة عند المسلمين معنى يحمله، كالذي هو عند النصارى، بل أن تحتاج معصية آدم إلى فدية تتطلبها ضرورة الجمع بين الرحمة والعدل. و''الفداء'' بالمعنى الذي تدل عليه عقيدة النصارى، غير مفهوم عند أحد من المسلمين، ولا يرى ما يستوجبه، إذ لم تكن الخطيئة متوارثة عندهم في الذرية.
وأما ما استوجب معنى الفداء من ألوهية المسيح وبنوَّته لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فإن الطفل الصغير يقرأ في أول ما يقرأ:{ قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد}. ثم يتعالى حتى يقرأ بعد ذلك:{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا}، إلى آيات كثيرة بهذا المعنى، فاستحال أن يكون ذلك من عقيدة أحد من المسلمين، وإذا استحال هذا استحال ما يوجب معنى ''الفداء''، ولا يبقى لهذا اللفظ سوى المعنى اللغوي العربي المشهور.
وإذا بطل هذان المعنيان لهذين اللفظين: ''الخطيئة''، و''الفداء''، على الوجه الذي هو من عقيدة النصارى وديانتهم، واستحال أن يقولها المسلم وهو يعتقد فيهما ما يعتقده النصارى، لم يكن للفظ الصلب بعد ذلك أي معنى، سوى المعنى اللغوي المشهور، سواء كان المسيح قد صلب كما يعتقد النصارى، أو لم يصلب، كما يعتقد المسلمون، بما أنبأهم الله سبحانه وتعالى، إذ يقول في كتاب كامله الكريم، حين ذكر اليهود وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق:{ وقولهم إنا قتللنا المسيح عيسى ابن مرسم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما}.)170-171
[أباطيل وأسمار]





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©