هذا جزء من مقال أردت نقله لما فيه من فائدة في حقيقة عقيدة الأشاعرة المتقدمين ممن رجعوا عن اعتقاداتهم إلى عقيدة السلف


الفرق بين متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم :

لعل من الواضح لدى دارسي المذهب الأشعري أن ثمة تباين ظاهر بين ما كان عليه متقدموا الأشاعرة في بعض المسائل، وبين ما استقر عليه الرأي عند المتأخرين منهم في تلك المسائل، وهو ما يؤدي بنا إلى القول بأن الأشاعرة المتأخرين لم يكونوا متبعين تماما لأبي الحسن الأشعري - رحمه الله - وإنما خالفوه في مسائل من الأهمية بمكان، حتى قال بعضهم :

لو حدث الأشعري عمن له إلى رأيه انتماء لقال أخبرهم بأني مما يقولونه براء

ويمكن التمثيل لهذه المسائل بمثالين :

المثال الأول: القول في الصفات الخبرية كصفة الوجه واليدين والعينين، فقد كان رأي الإمام أبي الحسن رحمه الله في هذه الصفات موافقا لرأي الكلابية الذين يثبتون هذه الصفات لله عز وجل، وقد نص أبو الحسن رحمه الله على إثباتها في الإبانة 51-58 وفي رسالته لأهل الثغر 72-73 ، في حين ذهب متأخروا الأشعرية إلى تأويل تلك الصفات، يقول الإيجي 3/145 في صفة اليد : " الخامسة اليد : قال تعالى : { يد الله فوق أيديهم } { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين وعليه السلف وإليه ميل القاضي في بعض كتبه، وقال الأكثر إنها مجاز عن القدرة فإنه شائع، وخلقته بيدي أي بقدرة كاملة ".

المثال الثاني : صفة العلو والاستواء حيث أثبت الأشعري رحمه الله صفة علو الله واستوائه على عرشه، كما جاء في الإبانة 1/105 : " إن قيل ما تقولون في الإستواء ؟ قيل له : نقول : إن الله عز وجل يستوى على عرشه استواء يليق به .. كما قال : { الرحمن على العرش استوى }( طه : 5 )" وقال في مقالات الإسلاميين 1/290 : " جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله .. وأن الله سبحانه على عرشه، كما قال : { الرحمن على العرش استوى }( طه : 5 ) " أ.هـ ، بل إنه رحمه الله رد على من أوّل استواءه سبحانه بالقهر ، فقال في الإبانة 1/108 : " وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قول الله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } ( طه : 5 ) أنه استولى وملك وقهر وأن الله تعالى في كل مكان وجحدوا أن يكون الله عز وجل مستو على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله تعالى قادر على كل شيء " فهذا كان رأي الإمام الأشعري، أما متأخروا الأشاعرة ، فيقول الإيجي في مواقفه 3/150-151 : " الصفة الثالثة : الإستواء لما وصف تعالى بالإستواء في قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى }( طه : 5 ) اختلف الأصحاب فيه، فقال الأكثرون : هو الاستيلاء ويعود الاستواء حينئذ إلى صفة القدرة، قال الشاعر :

قد استوى عمرو على العراق من غير سيف ودم مهراق

أي استولى .. وقيل هو أي الاستواء ههنا القصد فيعود إلى صفة الإرادة نحو قوله تعالى { ثم استوى إلى السماء } أي قصد إليها وهو بعيد " فهذان مثالان يوضحان الفرق بين ما كان عليه الأشعري نفسه، وبين ما استقر عليه الرأي عند متأخري الأشاعرة.


الأفكار والعقائد :

من عقائد الأشاعرة المتأخرين التي عرفوا بها وصار العمدة في المذهب عليها:

[COLOR="rgb(255, 0, 255)"]1- تقديم العقل على النقل[/COLOR]: وهو منهج يقوم على افتراض التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية، ما يستدعي ضرورة تقديم أحدهما، فصاغ الأشاعرة للتعامل مع هذا التعارض الموهوم قانونا قدموا بموجبه العقل، وجعلوه الحكم على أدلة الشرع، بدعوى أن العقل شاهد للشرع بالتصديق، فإذا قدمنا النقل عليه فقد طعنا في صدق وصحة شهادة العقل، مما يعود على عموم الشرع بالنقض والإبطال .

2- نفيهم أن تقوم بالله أمور تتعلق بقدرته ومشيئته: أي نفي ما يتعلق بالله من الصفات الاختيارية التي تقوم بذاته،كالاستواء والنزول والمجيء والكلام والرضا والغضب، فنفوا كلام الله ورضاه وغضبه باعتبارها صفة من صفاته، وادعوا أن نسبة هذه الصفات لله تستلزم القول بأن الله يطرأ عليه التغير والتحول، وذلك من صفات المخلوقات.


3- إثبات سبع صفات لله عز وجل وتأويل أو تفويض غيرها، فالصفات التي يثبتونها هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي، أما غير هذه الصفات فهم يتأولونها كتأولهم صفة الرضا بإرادة العقاب، وصفة (جزائرية) الرحمة بإرادة الثواب، واستواء الله على العرش بقهره له واستيلائه عليه، إلى آخر تأويلاتهم لصفات الله.


4- حصرهم الإيمان في التصديق القلبي: فالإنسان – وفق مذهبهم - إذا صدق بقلبه، ولو لم ينطق بالشهادتين عمره، ولم يعمل بجوارحه أيا من الأعمال الصالحة، فهو مؤمن ناج يوم القيامة، يقول الإيجي في المواقف بعد أن ذكر معنى الإيمان في اللغة : " وأما في الشرع .. فهو عندنا وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، فتفصيلا فيما علم تفصيلا، وإجمالا فيما علم إجمالا "


من علماء الأشاعرة

يزخر المذهب الأشعري بأئمة أعلام، هم الذي رسخوا المذهب وقووا دعائمه، وقعَّدوا له القواعد، ووضعوا له المقدمات، ونشروا آراءه، ودافعوا عنه ضد خصومه، إلا أن كثيرا منهم - لسعة علمه - تبين له ضعف مسلك أهل الكلام، فرجع في آخر عمره إلى مذهب السلف، وعلم أن مذهبهم هو الأسلم والأعلم والأحكم، ونحن نذكر بحول الله وقوته بعض أشهر علماء الأشاعرة، ونبين رجوع من رجع منهم إلى مذهب السلف، فمن علمائهم:

1- أبو الحسن الطبري، توفي بحدود سنة الثالثة80هـ وكان من تلامذة أبي الحسن الأشعري رحمه الله - ذكر الأسنوي عن أبي عبدالله الأسدي أنه قال في كتاب كامل مناقب الشافعي : " كان شيخنا وأستاذنا أبو الحسن بن مهدي - الطبري - حافظا للفقه والكلام والتفاسير والمعاني وأيام العرب، فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله، مصنفا للكتب في أنواع العلم، صحب أبا الحسن الأشعري في البصرة مدة " ( طبقات الشافعية للأسنوي 2/398) .


2-أبو بكر الباقلاني ت 403هـ[/color] ، قال الإمام الذهبي في السير في ترجمته : " وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق فإنه من نظرائه، وقد أخذ علم النظر عن أصحابه " ويعده الباحثون المؤسس الثاني للمذهب الأشعري، فهو الذي قعد له القواعد ، ووضع له المقدمات الكلامية، وقد تتلمذ على تلامذة الأشعري، وفاقهم علما ومعرفة .


3- محمد بن الحسن بن فورك:
ت 406هـ، درس المذهب الأشعري على أبي الحسن الباهلي تلميذ أبي الحسن الأشعري ، وكان من كبار أئمة الأشعرية .

[COLOR="rgb(255, 0, 255)"]4-أبو المعالي إمام الحرمين عبدالملك بن عبدالله الجويني[/COLOR]
ولد سنة الرابعة19هـ وتتلمذ على يدي والده، وكان أحد أعلام الشافعية والأشاعرة، ويعد من المجددين داخل المذهب، وقد انتقد على الأشاعرة مسائل وردها عليهم، وتبحر في علم الكلام حتى بلغ الغاية فيه، إلا أنه رجع عنه أخيرا ، كما حكاه عنه غير واحد منهم أبو الفتح الطبري الفقيه، قال : دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال : اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور " ( سير أعلام النبلاء 18/474) وقد أوصى في كتاب كامل الغياثي - وهو من آخر كتبه - بالتزام مذهب السلف فهو المذهب الحق قبل نبوغ الأهواء وزيغان الآراء ، وذكر من حال السلف في الحرص على الطاعة والاجتهاد في أعمال البر، والابتعاد عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات، ما يُلزم المرء باتباع منهجهم، والسير على طريقتهم.


[COLOR="rgb(255, 0, 255)"]5- أبو حامد محمد بن محمد العزالي[/COLOR]
ت 505هـ، قال الإمام الذهبي وكان خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين - البخاري ومسلم - اللذين هما حجة الإسلام ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن " سير أعلام النبلاء 19/323-324


[COLOR="rgb(255, 0, 255)"]6- أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني[/COLOR]
ت 548هـ وقد رجع عن المذاهب الكلامية إلى دين الفطرة جاء في نهاية الإقدام ص4 قوله : " عليكم بدين العجائز فإنه من أسنى الجوائز "

7- أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسين الرازي
ويعرف بابن خطيب الري توفي سنة 606هـ جاء في لسان الميزان ( 4/427 ) : " وكان مع تبحره في الأصول يقول : " من التزم دين العجائز فهو الفائز " ، وقال ابن الصلاح أخبرني القطب الطوعاني مرتين أنه سمع فخر الدين الرازي يقول:" يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام وبكى، وروى عنه أنه قال: " لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ولا تشفي عليلا ، ورأيت أصح الطرق طريقة القرآن "



وقفة مع المذهب الأشعري

من العجيب أن يعترف الأشاعرة بأن مذهبهم في تأويل جل الصفات مذهب محدث، لم يكن عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ولهم في ذلك المقولة الشهيرة، "مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم" أي إن مذهب التأويل عند المتأخرين أعلم وأحكم مما نسبوه إلى السلف من التفويض الذي يعدونه المذهب الأسلم، بما يوحي بنوع انتقاص للسلف رحمهم الله في علمهم وفهمهم، وهو انتقاص لا يقوله إلا من جهل مقدارهم وموضعهم من العلم والفهم.

إن مناقشة أقوال الأشاعرة وعقائدهم التي خالفوا فيها مذهب السلف، تظهر بما لا يدع مجالا للشك مدى سلامة مذهب السلف من التناقض والاضطراب، واتصافه بالعلم والحكمة والسلامة .

ودعونا نناقش بعض عقائد الأشاعرة لنستبين على وجه التفصيل فضل علم السلف على علم الخلف، وصحة منهجهم على من جاء بعدهم ممن خالفهم، فنقول وبالله التوفيق:

أما تقديم العقل على النقل والقانون الذي صاغة الأشاعرة في ذلك، فنقول إن المسألة مصادرة من أساسها، فأهل السنة يقولون على وجه القطع: إنه لا يمكن أن يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح، فالمسألة غير واقعة أساساً.

ثم نرد عليهم بالقول : إن العقل قد شهد بصدق الرسول وصحة نبوته، فالواجب بناء على هذه الشهادة الحقة تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فإذا أخبر أن الله في السماء وجب تصديق خبره، وكان تقديم العقل على النقل طعن في شهادة العقل، وفي ذلك إبطال لشهادته بصدق الرسول، ونقض للدين.

أما نفيهم أن تقوم بالله أمور تتعلق بقدرته ومشيئته: فهو مبني على ما سبق من نفي التغير والتحول عن الله، وهو أصل فاسد والصحيح إثبات كمال قدرته سبحانه، فهو يفعل ما يشاء متى شاء، وعلى ذلك دلائل الكتاب كامل والسنة وإجماع السلف، قال تعالى : { كل يوم هو في شأن } وقال تعالى : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } .

أما حصرهم صفات الله في سبع صفات هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي، وتأويلهم غيرها، فغاية في الغرابة والتناقض، وإلا فما الذي جعلهم يؤولون صفة الرحمة مثلا ولا يؤلوون صفة السمع، فإن قالوا إن الأولى تدل على رقة القلب وهذا لا يليق بالله ، لأن فيه مشابهة للمخلوقين، قلنا وكذلك السمع فإن في إثباته مشابهة للمخلوقين، فإن قالوا نحن نثبت سمعا يليق به جل وعلا، قلنا فأثبتوا رحمة تليق به كما أثبتم سمعا يليق به.

أما القول بأن الإيمان في الشرع هو التصديق فمخالف للإجماع الصحيح ولأدلة الكتاب كامل والسنة، أما الإجماع فقد قال الإمام الشافعي : " وكان الإجماع من الصحابة ، والتابعين من بعدهم ممن أدركنا : أن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزيء واحد من الثلاثة عن الآخر " فكل من الاعتقاد والعمل الصالح والنطق بالشهادتين، ركن من أركان الإيمان لا يصح الإيمان إلا به. والأدلة النقلية على تأييد هذا الإجماع المأخوذ منها أكثر من أن تحصر .
[/size][/center][/FONT][/SIZE][/FONT]




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©