و لكن مسلمي بورما لا بواكي لهم

في الكثير من المناسبات ومستجدات الأحداث التي يتقلب فيها الفرد المسلم أو الأمة - يتذكَّر أثرًا شريفًا منسوبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولكن حمزة لا بواكيَ له)).

ويروي الإمام موسى بن عقبة (ت 141هـ) في كتاب كامله "المغازي"[1] أن الرسول الكريم لما عاد من غزوة أُحُدٍ، وجد حالة من الحزن تملأ شِعْب المدينة صراخًا وعويلاً من نساء المدينة وجواريها، على مَن فقدن مِن الأزواج والأقارب؛ فصعُب عليه - صلى الله عليه وسلم - الأمرُ، وتذكَّرَ مجاهدًا مقدَّمًا في الإسلام والجهاد، من المهاجرين وينتمي لآل بيته الطاهر، لكن غربته في المدينة المنورة بطلعة الإسلام، جعلت النبيَّ المرسلَ - عليه الصلاة والسلام - المثقلَ بمخلَّفات حربٍ غيرِ متكافئة، يقول بملء فيه؛ ليضع حدًّا للحالة التي يستغلها مُرْجِفو المدينة ومنافقوها: ((ولكن حمزة لا بواكي له)).

تقول رواية موسى بن عقبة: "فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - أزِقَّة المدينة إذا النوح والبكاء في الدُّور، فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهم، قال: وأقبلت امرأة تحمل ابنها وزوجها على بعيرٍ قد ربطتهما بحبل، ثم ركبت بينهما، وحمل منهم قتلى فدفنوا في مقابر المدينة، فنهاهم رسول الله عن حملهم، وقال: ((وارُوهم حيث أُصيبوا))، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع البكاء: ((لكن حمزة لا بواكي له))، واستغفر له، فسمع ذلك سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبدالله بن رَوَاحة، فمشوا إلى دُورِهم فجَمَعوا كلَّ نائحة باكية كانت بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عمَّ رسول الله؛ فإنه قد ذكر أن لا بواكي له بالمدينة..."[2].

إن الدرس الذي يقدِّمه هذا الحَدَث - الذي تورده كتب السيرة، والذي يؤرِّخ لحالات إنسانية عاشها المجتمع المدني بعد موقعة أُحُد القاسية - هو محاولة التغلب على النرجسية، ومقاومة معاناة الذات، والانتقال إلى تقاسم معاناة الجماعة النفسية والمجتمعية، وحتى الإيمانية، فلا يعقل في منطق الدين الجديد الذي وحَّد أهل المدينة بإخوانهم المهاجرين، أن تتحوَّل لحظة مأساوية - أكد الزمن الذهبي للإسلام أنها عابرة - إلى شبه انقلاب على قيم التوحيد والإيمان، فعمَّ - بسبب التدخل النبوي بتلك المقولة الشريفة عن عمِّه أسد الإسلام - التضامنُ والمواساةُ والتعزيةُ لأهالي شهداء أحد، لا فرق بين أنصاريٍّ ومهاجر.

وسياق تذكُّرِ هذا الأثر النبوي الذي يرقى إلى درجة عالية من الصحة - كما يقول المحدِّثون - هو مأساة حمزة - رضي الله عنه - في دولة "ميانمار" البوذية، وحمزةُ هنا هو رمزٌ للموحِّدين من مسلمي "الروهينغيا"، المواطنين الأصليين لمملكة "أرَكان" القديمة، التي دخلها الإسلام منذ وقت بعيد جدًّا، وكأن القتلَ والفتك والتمثيل، الذي وصل حدَّ إخراج الكَبِد من قِبل "وَحْشِي" تنفيذًا لأوامر "هند" - يُعِيد المادة التاريخَ، ويكرر الصورةَ مع عصابة مؤمنة في أدنى الأرض، وتذكرت قوله الشريف - صلى الله عليه وسلم - وقلت في نفسي: "ولكن مسلمي بورما لا بواكي لهم"، أمام صراخ وعويل إعلاميين كبيرين من القوى العظمى ومنظمات حقوق الإنسان الدولية؛ ندبًا وتحسيسًا بقضايا أقليات مضطهدة من غير المسلمين في شتى مناطق العالم.

واليوم يتذكر المرء أقلية مسلمة مضطهدة اضطهادًا لا يمكن وصفُه؛ تقتيلاً وحرقًا، وتشريدًا ومحاصرة، وتجويعًا وإرهابًا، وتكتمل المأساة حينما تقوم دول الجوارِ بمحاصرة اللاجئين المضطهدين الهاربين، ويتم تركهم في وضعيات ومناطق معلَّقة لا تتوفر على أبسط مقومات الحياة الكريمة، ويصعب على المتتبِّع أن يُحصِي ألوان التضييق والحرب التي تستهدف السكَّان الأصليين "للأَرَكَان" في شتى مناحي الحياة، وكلها بالمناسبة تقارير معروفة، ومثبتة في أرشيف منظمات حقوق الإنسان، ومنظمة الأمم المتحدة، والمؤتمر الإسلامي، والاتحاد الأوربي؛ لكن القوى الضاغطة والمتحكمة في بوصلة التدخلات والضغط تتجاهلُ كليةً مأساةَ هذه الفئةِ من البشرية، التي تتوفَّر على كل معاني القيم البشرية، رغم التشويه الذي قد يُلصَق بها، فما رأتْ عيني ألطفَ وأندى وأرقَّ من مسلمي آسيا، خاصة مسلمي الصين الذين زرتُهم سنة الثانية001، فتذكَّرت قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتِي على أمتي زمانٌ، الصابرُ فيهم على دينه كالقابضِ على الجمر)).


وفعلاً حينما تولد وتحيا في ظل نظامِ "دكتاتورية مقرفة"؛ كالدكتاتورية الصينية، أو الديكتاتورية البوذية، المطوقتين بعولمة حداثية مزيفة لا تستطيع تحقيق العدالة الإنسانية - تعرف بحقِّ قيمة وطينةَ ومعدنَ الأقليةِ المسلمة في بلاد الصين والميانمار المجاورة لغرب الصين، وتتأكَّد من أن الإنسان هناك يحيا بحق وهو ممسك أوثقَ الإمساك بجمرة التوحيد العصية عن الاجتثاث.

وقد آن الأوان - إن لم يكن تأخَّر - أن تفتح عينَها المنظماتُ الحقوقية الدولية على هذا النوع من البشر، الذي تتحدث عنه وعن حقوقه ديباجاتُها وأدبياتُها الحقوقية، فهل يكفي أن تُصرفَ كُلفةٌ مالية سخية، وتُمارسَ ضغوطاتٌ على أنظمة معينة لتحسين التقدم في الحريات وحقوق الإنسان ضد كل أصناف التمييز العرقية والعَقَدية واللونية، وتضغط في اتجاهِ إلغاء عقوبة الإعدام لأخطر وأبشع أنواع الجرائم المرتكبة؛ بدعوى الحق في الحياة، في الوقت الذي يُعدم فيه أبرياء الأَرَكَان مسلمو بورما.

يقول الدكتور أحمد الريسوني - في حوار له، وهو يستهجن الدفاع غير المفهوم عن إلغاء عقوبة الإعدام في بعض الدول -: "في اعتقادي، معركة عقوبة الإعدام من المعارك المفتعلة؛ فالواقع يقول: إن هذه العقوبة ليس لها وجود يستحق هذه الضجة، وكان جديرًا بنا جميعًا أن نصرف أوقاتنا في البحث عن حلولٍ لمشاكل الملايين من المعذَّبين والمعرَّضين فعليًّا للموت في هذا المجتمع..."[3].
إن أهلنا الموحِّدين ببلاد الأرَكان (ميانمار) كجماعة بشرية كاملة الحقوق والمواطنة، كأي بشر أو أقلية تعيش عصر العولمة والحداثة والديمقراطية والثقافة الحقوقية - يتضرعون إلى الله استنجادًا بكلِّ مَن يملك أي وسيلة ضغط لإجبار الحكومة المعترَف بها بميانمار، أن تتحمَّل مسؤوليتها في حماية شعبها بمختلف مكوناته وأعراقه؛ حتى لا يستغل البوذيُّون المتوحِّشون هامش العزلة والبعد الجغرافي، وتهاون الحكومة في مقاومة الحقد الطائفي.

لقد بدأتْ بوادر التحسيس بمأساة مسلمي الروهينغا، وفي طليعة المبادرات الرائدة الزيارة الإنسانية للوفد التركي؛ ولكن الأمرَ جَلَلٌ، يستدعي تدخلاً إسلاميًّا عاجلاً؛ لحماية كرامة الإنسان المسلم في بورما؛ أطفالاً ورجالاً ونساءً وشيبًا؛ فهل إلى هذا الحد من التراخي والنسيان، استُرْخِصَت القيمُ، واستبيحت عقيدة التوحيد والتسامح؟!

بقلم : د. محمد سعيد صمدي





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©