حِوارٌ شيِّقٌ بين العلاّمة ابن أبي شنب والأديب الزَّاهريّ عن المخطوطات الجزائريَّة:







هذه فوائدُ مختصرَةٌ أَنقلُها عن الأستاذ المؤرِّخ عبد الرّحمن الجيلاليّ (رحمه الله) مِن كتاب كامله: «محمّد بن أبي شنب حياته وآثاره»، أُتْحِفُ بها القُرَّاء الكرام يُفِيدُون مِنها ويَعيشُون مِن خلالِها مع رجلٍ عظيمٍ مِن عظماء الجزائر ونُبلائها ونُبغائِها:


مَن هو ابن أبي شنب؟:

هو العلاّمة محمّد بن أبي شنب (رحمه الله) الّذي توفّي سنة (1347هـ=1929م) مَأْسُوفًا عليهِ، انتُخِب في سنة (1920م) عضوًا في «المجمع العلميّ العربيّ» بدمشق، وكتب في مجلّته العلميّة بحوثه اللّغويّة والتّاريخيّة والأدبيّة، وأحرز في هذه السّنة (1920م) على «الدّكتوراه» في الآداب مِن جامعة الجزائر بدرجة ممتازة، وعُيّن في سنة أولى924م أستاذًا رسميًّا بكلّيّة الآداب الكبرى بجامعة الجزائر، كان محافظًا على هندامه القوميّ في سائر مواقفه في حِلِّهِ وتِرْحَالِهِ وحتّى بالبلاد الأوروبّاويّة؛ بعمامته و«قنّوره» وبرنوسه وسراويله العريضة وعباءته تارةً، وكان لا يتكلّم بالفرنسيّة مع بني وطنه بل كان يتجاهلها أحيانًا، ولم يكن ممّن تُلهيهم وتمليهم مناظر هذه الحضارة الغربيّة الخلاّبة ولا ممّن تستحوذ على عقولهم زخارفُها وبهرجةُ قُشورها، ولا ممّن يغلبهم تلاطم أمواج تيّارها السّيّار، وإنّما كان يأخذ منها بمقدار ما يُعطى الطّعام مِن الملح، وهذا رغم ما عرفه مِن عواصم الغرب المتمدّن ومَن تعرّف بهم مِن رجاله العصريِّين.

وكان في حالة فراغه لا يبرح مكتبته الغنيّة في داره وقد اجتمع عنده مِن الكتب ما لم يتّفق لآخرَ غيرِهِ، وفيها مِن الكتب المخطوطة النّادرة كثيرٌ، ومَن علم رُتبة صاحبها أدرك حقيقة منزلتها العالية.

حِوارٌ بين الأستاذ السّعيد الزّاهريّ والعلاّمة ابن أبي شنب:

نقل الأستاذ عبد الرّحمن الجيلالي(ص97-105) مقالَ الأستاذ الأديب الشّاعر محمّد السّعيد الزّاهريّ (رحمه الله)، وهو فصلٌ مسهبٌ كتبه لمناسبة وفاة ابن أبي شنب، حَلَّلَ فيه نفسيّةَ الفقيد، نُشر بمجلّة «المقتطف» المصريّة في عددها الصّادر في غرّة نوفمبر سنة أولى929م وعنوانه: «الأدب والعلم في الجزائر: محمّد بن أبي شنب»، وممّا جاء فيه:

«هو مسلم جزائريّ وجزائريّ مسلم في كلّ شيء: في عقله وأدبه وأخلاقه وعاداته، في لباسه وهندامه، تراه فترى على رأسه عمامة جزائريّة، وتراه فترى على كتفيه (برنوسًا) جزائريا وعلى صدره غلائل جزائرية، ومعطفه معطف جزائري وسراويله سراويل جزائرية عريضة، وحذاؤه حذاء جزائريّ، وبالجملة فهو بقيّة سلف صالح مضى في عاصمة الجزائر...».

وقال:

«كان مُولعًا بجمع الكتب القديمة ونفائس الآثار فقد خلف في خزانته مجموعة نفيسة غالية من الكتب اليدويّة المخطوطة».

وقال:

«منذ عشرة أشهر ركبتُ القطار السّريع مِن تلمسان إلى وهران، فإذا الشيخ المرحوم يَركبُ القطار نفسه، فقطعنا الطّريق في محادثةٍ وحوارٍ، ... وتكلّمنا في الكتب اليدويّة المخطوطة، فقال: إنّ تلمسان كانت دار علم، ولا بدّ أن تبقى فيها بقايا من أثر السّلف الصّالح، فإذا عثرتَ فيها على كتاب كامل قديم أو أثر من الآثار العلميّة فإنّي أرجو أن تكتب إليّ به، وهنالك جمعيّات من الألمان والأميركان قد أرسلت في مدائن هذه البلاد حاشرين يشترون لها الكتب العربيّة القديمة، ويقتنون لها نفائس آثار أجدادنا. فقلت: بلغني أنّ «فلانًا» و«فلانًا» من أشياخ الطّرق الصّوفيّة في مرّاكش قد قاما بسياحةٍ واسعة في شمال إفريقيا ظاهرُها «الطَّواف» على أتباعهم بُغية النُّذور ولكنّهما كانا يقتنيان الكتب المخطوطة، ويبذلان المبالغ الطّائلة الباهظة من المال في شرائها ونسخها، حتّى ظفرا منها بشيءٍ كثير، فهل لهذين «الشّيخين» علاقة بهؤلاء الأميركان أو الألمان؟... فقال: هما بلا شكّ من أعوانهم الّذين بعثوا بهم لجمع الكتب المتناثرة المبعثرة في أيدي عامّة المسلمين الّذين لا يفرطون فيها إلاّ بمثل هذه الوسيلة. فقلت: وقد سمعتُ أنّ حكومة مرّاكش قد أصدرت «ظهيرًا» يَمنعُ إصدار الكتب المخطوطة إلى الخارج. فقال: وأنا الآخر سمعت بهذا، ولكنّه غير مفيد، فلو أنّ الحكومة اشترت هذه الكتب، واقتنت هذه النّفائس وحفظتها في «دار الكتب» لكان ذلك خيرًا وأنفع، لأنّ هؤلاء الّذين بذلُوا أموالاً طائلةً في سبيل الحصول على هذه الآثار والكتب والنّفائس لا يعجزهم أن يجدوا حيلةً لتهريبها والفوز بها. وأردت أن أتكلّم، ولكنّ القطار وقف بنا على مفرق الطّرق فودّعني الشّيخُ وودّعتُه، فأخذَ طريقه إلى الجزائر، وأخذتُ طريقي إلى وهران، وكان هذا فراق بيني وبينه، وكان ذلك آخر لقاء...».



ثمّ قال الزّاهريّ يُحدّث عن صديقٍ لهُ: «في تلمسان؛ فذكر لي أنّ في خزانته كتاب كاملًا مخطوطًا لا يدري ما اسمه؟ ولا ما موضوعه؟ ولا مَن مؤلّفه؟ قد كُتبت على الصفحة الأولى منه أحرفٌ قال كاتبها عنها إنّها إذا كتبت على أوّل كتاب كامل فإنّه لا يندثر ولا يبلى!... فرغبت إليه أن يُريني هذا الكتاب كامل فتفضّل فأَعارنيه، فسهرتُ عليه ليلة أطالعه فإذا الأحرف هي هذه: «كب كيكج كيكج» وإذا كاتبُها قد جلد الكتاب كامل، واحتفظ به احتفاظًا شديدًا، فما بلي ولا اندثر، وإذا الكتاب كامل صفحةٌ ماجدة من مادة التاريخ الجزائر، بل من مادة التاريخ الإسلام والشّرق، وإذا موضوع الكتاب كامل في سياسة الملوك وتدبير الممالك، وإذا مؤلّفه عالم غزير العلم، مطّلع واسع الاطّلاع، وسياسيّ مجرّب حكيم، وهو السّلطان موسى أبو حمو أشهر [ملوك] بني زيّان «بني عبد الواد» ملوك تلمسان في التّاريخ، وهنا ذكرتُ الشّيخ المرحوم، وذكرتُ ما كنتُ عاهدته عليه يوم اجتماعنا في القطار مِن أن أكتب إليه بكلّ ما أعثر عليه في تلمسان من الكتب القديمة والآثار النّفيسة وهممتُ أن أكتب إليه عن هذا الكتاب كامل النّفيس، فإِذا به قد تُوفّي إلى رحمة الله...»اهـ.
http://www.ilmmasabih.com/index.php/maktouthat/item/
مصابيح العلم





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©