بسم الله الرحمن الرحيم



[المقال نُشر في جريدة الشروق ليوم الثلاثاء05 فيفري 2014م / الموافق 24 ربيع الأول 1434هــ / العدد (3917)]




نشرت جريدة الشروق اليومي ملفا هاما في عددها (3911) بعنوان :"سلفيون يستهدفون الأضرحة ...ومتصوفة يهددون بالموت دفاعا عنها" ، وقد عرضت مختلف الآراء حول هذه المسألة

والذي لفت انتباهي هو رأي الدكتور بن بريكة الذي لا يرتقي تدخله لمستوى الشهادة التي يحملها ، فقد جاء رأيه متناقضا خاليا من الأدلة الشرعية رغم أن المسألة هامة جدا تتعلق بالتوحيد والشرك ، وقبل مناقشة رأي الدكتور بن بريكة ، أنبه إلى أمر هام جدا يخلط البعض فيه بسبب سوء الفهم أو سوء القصد ، والمقصود هنا هو : وجوب التفريق بين المنهج السلفي وسوء صنيع من ينتسب أو ينسب إليه ، إذ من مسلمات العقيدة السلفية : حرمة بناء الأضرحة والقباب على القبور فذلك من أعظم المنكرات – بل هو أعظمها – لأنه بريد الشرك ، لكن الاعتقاد السلفي هذا لا يبيح للسلفيين تغيير هذا المنكر باليد ، فالمسؤول عن ذلك إنما هو ولي الأمر الحاكم ، ومن غير بيده من أفراد الأمة فقد افتأت على حق الحاكم الشرعي
فلا يفهم من إنكار السلفيين لبدعة "الأضرحة والقبور" دعوتهم لهدمها باليد ، إنما هي دعوة منهم لهدمها من قلوب العباد ، لذلك كان من الظلم أو ننسب للمنهج السلفي تصرفات طائشة تحدث هنا أو هنالك سواء تعلق الأمر بسلفي رسما قصر فهمه واعتد برأيه دون رجوع لأهل العلم ، أو تعلق الأمر بمغرض هدفه تشويه المنهج السلفي ، ونرجع الآن لمناقشة ما ذكره الدكتور بن بريكة في هذه المسألة فنقول :
إن المتأمل المنصف لكلام بن بريكة ابتداء ، أن الدكتور افتقد في مداخلة لأبجديات البحث العلمي ومسلمات النقاش الفكري العقدي ، فقد استدل ببيت شعري من قصيدة "الهمزية" ، ليثبت مشروعية بناء الأضرحة والقباب على القبور
وهي مسألة عقدية يدرجها العلماء في كتب العقائد إذ أنها من أصول الدين ، كما قد يبحثها الفقهاء في بعض جزئياتها ، لكن إيرادها في كتب العقائد أكثر ، لأنها بها ألصق ، وللتوحيد أقرب ، ذلك أن مخالفة الحق فيها بالغلو في ساكنيها ، مفتاح لباب الشرك المناقض للتوحيد أصل أصول الدين
ومسألة بهذه المنزلة كان حريا بالدكتور بن بريكة أن يحشد لها الأدلة الشرعية من الكتاب كامل والسنة والإجماع ، لينصر رأيه ويقنع قارئه ، لا أن يستدل ببيت شعري يتيم ، لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا ، وإليكم ما قاله بن بريكة بحرفه :"... إن رفع القبور وتشييد الأضرحة هو عمل كان عليه الأوائل ، ويدل عليه ما قاله البوصيري صاحب البردة في الهمزية عند زيارته للحرمين الشريفين : "أي نور أي نور شهدنا ... لما أدت لنا القباب قباء" ، ثم شد بن بريكة عضد دليله البيت الشعري !!؟ بدليل آخر أعرج بسند مجهول نسبة للسيوطي عن بعض الصحابة بأنهم رفعوا الضريح ، تنبيها لفضل صاحبه وعلو مقامه !؟ ، هكذا ذكره ، فلا سند لبعض الصحابة معلوم ، ولا صاحب الضريح معروف !!؟ وصدق من قال :
لقد هزلت حتى بدا من هزالها /// كلاها وسامها كل مفلس

لقد عجز بن بريكة عن الإتيان بدليل واحد يؤيده فيما ذهب إليه من جواز بناء الأضرحة والقباب على القبور ، وقد ذكرني صنيعه باستدلاله بالبيت الشعري بما استدلت به الجهمية والمعتزلة ومن بعدهم متأخرو الأشاعرة الذين حرفوا معنى صفة استواء الله تعالى في قوله تعالى :"الرحمن على العرش استوى" هو الاستيلاء ببيت شاعر نصراني الأخطل القائل:
قد استوى بشر على العراق /// من غير سيف أو دم مهراق
فحرفوا بذلك معنى الاستواء الحق الواجب لله تعالى فرارا منهم بزعمهم من تشبيه استواء الله تعالى باستواء المخلوق على دابته ، فوقعوا شر ما فروا منه ، كالمستجير من الرمضاء بالنار ، لأن لازم تحريفهم أنه كان لله تعالى مغالب على العرش ، فغلبه الله تعالى ، ثم استولى على العرش !!!؟ ، تعال الله عن ذلك علوا كبيرا ، فلو أنهم وقفوا عند النص الشرعي وفهموه كما فهمه السلف الصالح لكان ذلك لهم ، أسلم وأعلم وأحكم ، ولكنه الهوى يهوي بصاحبه في مهاوي الردي

وقد نتفهم افتقاد الدكتور بن بريكة لنص الشرعي ينصر به رأيه ، مما جعله يلجأ للبيت الشعري ، إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه !؟ ويستحيل على بن بريكة ومن ذهب مذهبه أن يجد في كلام الرحمن وصحيح سنة النبي العدنان دليلا يناقض الأصل الذي لأجله خلق الإنسان وهو إفراد العبودية للكبير المتعال في الأقوال والأفعال ، فتشييد الأضرحة والقباب على قبور الصالحين سبيل الإشراك بالله تعالى ، وهل أصل ابتداء الشرك في بني آدم إلإ بسبب هذا الصنيع الشنيع !!؟ أو لم يتدبر الدكتور بن بريكة معنى قول الحق جل وعلا : "وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" فليستعن في تدبره للآية بما ورد في أصح كتاب كامل بعد كتاب كامل الله تعالى وهو صحيح البخاري (4920) عن الصحابي الجليل الذي دعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله : "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" والمقصود هو ابن عباس رضي الله عنه القائل في تفسير الآية : "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ ، أما وُدّ كانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سوع كانت لهذيل ، وأمَّا يغوث فكانت لـمُرَادٍ ثمَّ لبني غُطيف بالجُرُفِ عند سَبَا ، وأمَّا يعوق فكانت لهمدان ، وأمَّا نسر فكانت لِحِمْيَرَ ، لآل ذي الكَلاَع ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلمَّا هَلَكُوا أوُحِي الشَّيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تُعبد حتَّى إذَا هَلَكَ أولئك وتَنسخَ العلم عُبدت"
فالتفسير واضح جلي ، لمن ظهر من قلبه التعلق بغير الله تعالى ، وصفا ذهنه من أوهام الخرافة ، فالأصل المنهي عنه ، "مسمى واحد باسمين مترادفين ، ناسب كل اسم زمنه ولغة فاعله" ، فتعظيم الصالحين بالوجه غير المشروع ، كان على صورة الأنصاب سابقا وصورة الأضرحة لاحقا فــ "الوجهان لعملة واحدة!!؟"
أما تشبث بن بريكة في استدلاله بخيط العنكبوت الثاني ، وهو نسبته بواسطة السيوطي لبعض الصحابة :"جواز بناء الأضرحة !!؟"
فيقال له هنا : أثبت العرش ثم انقش ! ، ذلك أن إلقاء الكلام على عواهنه وإثبات الأحكام الشرعية بالأسانيد المجهولة ، أمر بسيط سهل يليق بالحكواتيين والقصاصين ، لا بالدكاترة الأكادميين !!؟
والذي ثبت في السنة عند مسلم (3/61) من حديث أبي الهياج الأسدي : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له : " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" وكان أبو الهياج رئيس الشرطة ، فهذا هوا المنهج السلفي في هذه المسألة ، تحريم بناء الأضرحة والقباب على القبور ، وإزالة ما شيد منها بيد الحاكم ومن يقوم مقامه ، وعن عبد الله بن شرح مفصلبيل بن حسنة قال : "رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور فقيل له : هذا قبر أم عمرو بنت عثمان ، فأمر به فسوي " رواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/138) ، وأبو زرعة في مادة التاريخه (66/2،121/2) بسند صحيح
ونشير هنا إلى مناقضة الدكتور بن بركية لنفسه في بضعة أسطر ؟؟؟ ، حيث إنه قال ابتداء : "إن رفع القبور وتشييد الأضرحة هو عمل كان عليه الأوائل" ، ثم قال بعدها : "إلا أن السلف لم يرفعوا القباب !؟؟ ، ولكن الأمة لم تنكر رفعها حتى جاءت طائفة في القرن الثامن عشر ورفضت ذلك وشنعت عليه وجعلته من الشرك"
فنقول للدكتور بن بريكة أجبنا بصراحة : من هم أوائل الأمة الذين نسبت إليهم جواز رفع الأضرحة ؟؟ أليسوا هم ذاتهم السلف الذين لم يرفعوا القباب ؟؟ حسب قولك الآخر !!؟ ، أليس في هذا يا بن بريكة دليل على تناقضك وبرهان على تهاوي حجتك ، وبالتالي بطلان اعتقادك بجواز بناء الأضرحة والقباب على القبور !!!؟؟
ويكفي لإبطال مذهبك بغض النظر عن تناقضك ، ما سقته لك من حديث علي وأثر عثمان بن عفان رضي الله عنهما ، أما بخصوص استدلالك بعمل الأوائل ، فباطل من جهة الأحكام الشرعية إنما تثبت بنص شرعي أو إجماع الأمة ، ولا شيء من ذلك هنا ، ورد ما يناقض قولك ، ويؤيد النص الشرعي وهو ما ذكره النووي في شرح مفصله لمسلم (3/391) : "قال الشافعي في الأم : ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يُبنـي ، ويؤيد الهدم قوله "ولا قبرا مشرفا إلا سويته"
وليعلم بن بريكة ومن على مذهبه أن تحريم بناء الأضرحة والقباب على القبور هو مذهب جماهير علماء الأمة ، لأنه المعتقد الذي ينصره الدليل الشرعي ، وما أجمل ما ذكره الإمام الشوكاني في كتاب كامله "نيل الأوطار" عند شرح مفصله لحديث على السابق إذ يقول : " .... قوله : ولا قبرا مشرفا إلا سويته" فيه أن السنة أن القبر لا يُرفع رفعا كثيرا من غير فرق بين من كان فاضلاً ومن كان غير فاضل ، والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم ، وقد صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك ، ومن رفع القبور الدَّاخل تحت الحديث دخولاً أوليًّا ، القبب والمشاهد المعمورة على القبور ، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد ، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك ، وكم قد سَرَى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام منها ، اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضُّر ، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج ، وملجأ لنجاح المطالب ، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم ، وشدوا إليه الرحال ، وتمسحوا بها واستغاثوا ، وبالجملة أنهملم يدعوا شيئًا ممَّا كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلاَّ فعلوه ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع ، لا نجد من يغضب لله ويغار حميَّةً للدين الحنيف ، لا عالما ولا متعلما ، ولا أميرًا ولا وزيرًا ولا مَلِكًا ، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشكُّ معه أن كثيرًا من هؤلاء القبورين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه ، حلف بالله فاجرًا ، فإذا قيل له بعد ذلك احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني ، تلعثمَ وتلكأَ وأبَي واعترف بالحقِّ ، وهذا من أبين الأدلة الدَّالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة ، فيا علماء الدين ، ويا ملوك المسلمين ، أي رزء للإسلام أشدُّ من الكفر ، وأيُّ بلاء لهذا الدين أضرُّ عليه من عبادة غير الله ، وأيُّ مصيبة يصاب بها المسلمون تعدلُ هذه المصيبة ، وأيُّ منكرٍ يجبُ إنكاره أن لم يكن إنكار هذا الشِّرك البيِّن واجبًا ؟
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا /// ولكن لا حياة لمن تُنادي
ولو نارًا نفخت بها آضاءت /// ولكن أنت تنفخ في الرَّمادِ " انتهى كلام الشوكاني .


وحماية لجناب التوحيد ، وسدا لسبل الشرك ، جاء عن الإمام مالك وبعض أتباعه رحمهم الله النهي عن كل ما هو من وسائل الشرك ، مما هو متعلق بمسألة القباب والقبور ، فقد ورد عنهم : "النهي عن تجصيص القبور وتعليتها ، والكتاب كاملة والبناء عليها واتخاذها مساجد واستقبالها للدعاء ، والسجود والصلاة عليها ، وشد الرحال إلى غير المساجد ثلاثة " ولمزيد من فقه مالك وأتباعه في هذه المسألة ، يستحسن الاطلاع على أقوال في كتبهم التالية :
المدونة (1/189) ، الكافي لابن عبد البر (1/283) ، تنوير المقالة (3/40) ، الثمر الداني (230) ، المعيار المعرب :1 ، تفسير القرطبي (10/380-381) ، التمهيد : (1681/45) ، المنتقى (7/195) ، شرح مفصل الموطأ للزرقاني (4/233) ، "3512" ،"2241"

ويقول الإمام القرطبي المالكي في تفسيره (10/381) بعبارة واضحة لا لبس فيها : "وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كان في الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما ، فذلك يهدم ويزال ، فإن استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها"
ذلك هو مذهب أئمة المالكية الموافق لمذهب السلف الصالح ، فلا يتعب بن بريكة نفسه ويلبس على الناس توحيدهم الموافق لفطرتهم بالادعاء المرة تلو الأخرى دون كلل أو ملل بأن "الوهابية" هي وحدها من يعتقد هذا المعتقد ، وقد قال عنها هنا : " ... حتى جاءت طائفة في القرن الثامن عشر ورفضت ذلك وشنعت عليه وجعلته من الشرك!!؟ "
فقد قرأت يا بن بريكة بأم عينك وعرفت مذهب المالكية في هذه المسألة ، وللعلم فالمذهب المالكي هو المذهب الرسمي المعتمد في الجزائر ، ولطالما نادى بن بريكة بضرورة جعله المرجعية الوحيدة التي ينبغي الالتزام بها ، فلماذا يخالف بن بريكة مذهب أئمة المالكية في أصل الدين !!!؟؟
فإن كان لا يعرفه وهو الدكتور فتلك مصيبة !!؟ ، وإن كان يعرفه وتعمد مخالفته والتدليس على أتباعه فإن مصيبة أعظم !!!؟؟؟
وصدق القائل :
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة /// وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم


وليعلم بن بريكة ومن ذهب مذهبه ، بأن ما ذكرته له من أدلة وبراهين على بطلان مذهبه ، وكذا بيان مذهب أئمة المالكية المحرم لبناء الأضرحة والقباب ، والموافق لمذهب السلف الصالح ، إنما ذكرته على سبيل التنبيه والتذكير ، وليس الغرض استقصاء الأدلة الشرعية ، وأقوال العلماء المرعية ، ولعل فيما سطرته هنا كفاية للمبتدي وتذكرة للمنتهي ، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل ، وآخر دعائنا أن الحمد لله رب العالمين


الكاتب : أحمد يوسفي-وفقه الله





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©