قاومت الطرق الصوفية الاحتلال الفرنسي الذي أشعلت ضده عدة ثورات، كانت أولاها المقاومة البطولية التي قادها أبناء الطريقة الرحمانية على أسوار الجزائر المحروسة (العاصمة) ضد جنود الاحتلال الفرنسي؛ حيث استشهد 17.000 (سبعة عشر ألف مجاهد)، كلهم جاءوا براياتهم وأسلحتهم من منطقة القبائل ليدافعوا عن الجزائر، ومن بعد ذلك جاءت ثورة الأمير عبد القادر وهو من الطريقة القادرية، ثم جاءت عشرات الثورات والانتفاضات الأخرى التي قادها الصوفية، من بينها ثورة لالة فاطمة نسومر الشريفة ابنة الطريقة الرحمانية، والتي هزمت وحدها سبعة جنرالات فرنسيين.
لذلك لا يمكننا أن نقبل بحكاية تواطؤ الزوايا والطرق الصوفية مع الاحتلال الفرنسي. وحتى الطريقة التجانية التي يركّز عليها البعض في هذا الجانب، نجد عند البحث الدقيق أنها ساهمت في المقاومة الشعبية وحتى في الثورة التحريرية الكبرى، حيث انتسب إليها مجموعة من وجوه المقاومة الشعبية أمثال المقدم سيدي الطاهر بوطيبة وتلاميذه (ت 1878)، والشيخ حماه الله بن محمد، والشيخ يعقوب سلا، والشيخ أحمد بوعزة البكوش، والشيخ سيدي العيد الثاني، والمقدم سيدي العيد بن يامة. كما انتسب إلى التجانية عدد من كبار علماء الجزائر الذين كانوا يرفضون الاحتلال جملة وتفصيلا بل ويعملون على مقاومته، أمثال العلامة الشيخ عبد الحليم بن سماية، والعلامة الشيخ حمدان لونيسي، والعلامة الشيخ أحمد بن رابح طالب الندرومي، والشاعر محمد العيد آل خليفة، وعميد الصحافة الجزائرية المقدم عمر بن قدور. ذكرت هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر.
استمرت المرجعية الدينية الجزائرية (ممثّلة في الزوايا والطرق الصوفية) ثابتة على خط المقاومة بعد الاحتلال الفرنسي، الأمر الذي جعل المحتل ينطلقُ في أكثر من أسلوب من أجل تشويه صورة الطرق الصوفية التي أذاقته الأمرّين حتى تمكّن من إخماد نار المقاومة. ومن المؤسف حقا، أن هذه المهمة قامت بها جزئيا الحركة "الإصلاحية" ممثلة في "جمعية العلماء" من حيث تدري أو لا تدري، عندما استوردت لنا الخطاب الوهابي السلفي الغريب تماما عن المرجعية الدينية الجزائرية التي وصفها ابن عاشر بقوله: "في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك"؛ حيث نجد أن خط "الإصلاح" انطلق ضد مفردات العقيدة الأشعرية والتصوف، وميدانيا عمل على هدم المرجعية الصوفية الأصيلة ولم يُنتج في المقابل أي بديل. "الإصلاحيون" شكّكوا الجزائريين في مرجعيتهم الدينية، ولم يطرحوا البديل المؤسس لتلك المرجعية (حيث لم يكونوا يملكون سوى خطابات، وما يزالون هكذا حتى اليوم) تاركين الساحة فريسة سهلة ونهبا للوهابية المتوحشة التي دخلت لتكرّس ذهنيات التعصب والوثوقية والإطلاقية والتكفير والإقصاء، التي بالنتيجة تنتج العنف الاجتماعي بشكل حتمي، وهو ما شهدناه وعايشناه واكتوينا بناره في مرحلة التسعينيات الدموية سيئة الذكر. ومع ذلك كله، نلاحظ أنه كان للجزائر مفت واحد لكل مذهب على عهد الاحتلال الفرنسي.
هذا الإشكال الذي ظهر قبل الاستقلال، لم يكن ليهز الصرح الديني المرجعي في الجزائر، لو تركت حرية النشاط للطرق الصوفية بعد الاستقلال. لكن ما حدث، هو أن الدولة الوطنية تبنت الخطاب الإصلاحي في نصوصها الرسمية وإعلامها وبرامجها التعليمية والثقافية، وذلك من باب المناورة السياسية ومحاولة استمالة المعارضة الإسلامية الأصولية الراديكالية ممثلة في جناح من بقايا "جمعية العلماء".
في المقابل قمعت السلطة الخطاب الصوفي ومؤسسة الزاوية التي تمثله، ما فتح المجال واسعا أمام الاختراق الوهابي السلفي للفضاء الديني في الجزائر، وهو ما حدث من خلال ملتقيات الفكر الإسلامي والبعثات التعليمية (مدفوعة التكاليف بنسبة مائة بالمائة من طرف السفارة السعودية) نحو المشرق وبخاصة الحجاز أي المملكة مادة اللغة العربية السعودية، والكتب والمجلات الدينية التي تموّلها المملكة وتوزعها الدولة الجزائرية دون حسيب أو رقيب؛ حيث قوي الخط السلفي الوهابي، وبدأنا نشهد ما سُمي آنذاك (مطلع الثمانينيات) المساجد الحرة التي يُفتي المدرّسون فيها على خلاف الفتوى المالكية، لتنطلق حرب الفتاوى حول مفردات التوحيد والصلاة والصيام وصندوق التوفير والحجاب والموسيقى والعادات والتقاليد والسُنة والبدعة وغيرها، ومن بعدها حرب المساجد التي دارت رحاها بين الحركات الإسلامية حول من يسيطر على الفتوى والتدريس والتوجيه في المساجد الحرة.
لهذا كله أقول: إن العداء المادة التاريخي بين "جمعية العلماء" وبين الطرق الصوفية هو عداء سياسي لا علاقة له بالدين، وإنما اتُخذت المسألة الدينية (في قضية ما يسمى السنة والبدعة) غطاء لهذا العداء السياسي. لأن "جمعية العلماء" التي تقول نصوصها التأسيسية "إنها لا تشتغل بالسياسة"، هي في الواقع كانت غارقة في السياسة، يؤكد ذلك المرحوم مالك بن نبي في مذكرات 2014ه وغيرها من كتبه. ولا يتسع المجال للدخول في تفاصيل هذه المسألة، وقد فصلتها في العديد من مقالاتي وأبحاثي المنشورة في الصحافة الوطنية. وعندما نبحث وندقق في الجانب الديني من المسألة، نجد أن "العلماء" لا يملكون الحجة الدينية على الصوفية بالمعنى المطلق. وإنّ أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الجانب، هو أن لـ"العلماء" رأيٌ، وللصوفية رأيٌ، وكلاهما يملك الشرعية الدينية. هذا أقصى ما يمكن أن يقال في المسألة. لذلك أدعو التيار الإصلاحي ممثلا في "جمعية العلماء" إلى اللمراجعة شاملة الجدية والعميقة لمواقفه من التصوف والطرق الصوفية، بهدف الرجوع إلى المرجعية الدينية الأصيلة للجزائر، وتحصين البلد ضد التيارات الأصولية المتطرفة.


http://www.annasronline.com/index.ph...1-00&Itemid=50




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©