سلسلة كتب الأمة
عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية

مصطفى محمد حميداتو
الفهرس
تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه مصطفى
محمد حميداتو
الفصل الأول : المجتمع الجزائري في عصر ابن باديس العرب والبربر في الجزائر
مقدمـة الفصل الثاني : حياة الشيخ ابن باديس
المبحث الأول : التعريف بالشيخ ابن باديس
الحالة الثقافية والفكرية العوامل الثقافية والدينية التي أثرت في فكر ابن باديس
المبحث الثالث : شيوخ ابن باديس
المبحث الثاني : نشأة ابن باديس وطلبه للعلم الفصل الثالث ابن باديس والعمل الجماعي
المبحث الأول: العمل الجماعي في نظر ابن باديس
المبحث الرابع : مكانة ابن باديس العلمية
المبحث الثالث : جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
المبحث الثاني : جمعية التربية والتعليم الإسلامية البـاب الثـاني الفكر التربوي عند ابن باديس الفصل الأول دعائم الفكر التربوي عند ابن باديس
المبحث الأول : حالة التعليم في زمن ابن باديس
المبحث الرابع : من مواقف جمعية العلماء
المبحث الثالث : طلب العلم في نظر ابن باديس
المبحث الثاني: أهمية العلم والتعلم عند ابن باديس
الفصل الثاني إصلاح التعليم عند ابن باديس
المبحث الأول : إصلاح المناهج
المبحث الرابع : سمات ابن باديس الشخصية وأثرهـا علـى منهجه التـربـوي
المبحث الثالث : المعلم في نظر ابن باديس
المبحث الثاني : إصلاح التعليم في جامع الزيتونة
المبحث الخامس : رعاية الطلبة الموهوبين
المبحث الرابع : تعليم المرأة في نظر ابن باديس
المبحث الثاني: ميزات مدرسة ابن باديس التربوية
الفصل الثالث مجالات ومميزات مدرسة ابن باديس
التربوية المبحث الأول : الوسائل المادية للتربية عند ابن باديس
خاتمة المبحث الثالث: الهدف التربوي عند ابن باديس

مصطفى محمد حميداتو
* ولد عام 1956م، بالجزائر
* حصل على شهادة التقنية العليا في ميكانيك البترول من المعهد الجزائري للبترول
* حصل على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية، ودرجة الماجستير في اللغة مادة اللغة العربية، من جامعة البنجاب، لاهور، باكستان
* نال درجة الماجستير في التفسير والحديث من الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، باكستان
* رسالته لنيل شهادة الدكتوراة، في الحديث النبوي الشريف


تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي أورثنا النبوة والكتاب كامل، وجعل الرسالة الإسلامية هي خاتمة الرسالات، واللبنة الأخيرة في البناء النبوي، فكان عندها الاكتمال وفيها الكمال، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ً)(المائدة:3)، وناط بالأمة المسلمة، حاملة الرسالة الخاتمة، الشهادة على الناس والقيادة لهم، إلى يوم الدين، وأَهَّلَها لذلك بما تمتلك من الخطاب الإلهي السليم والبيان النبوي المعصوم، اللذين يشكلان المعيارية التي تمكّن من الشهادة، ويمنحان الخصائص التي تؤهل للقيادة، وإلحاق الرحمة بالعالمين، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) (البقرة:143). وقال: (ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحــج:78). وقــال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب كامل بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب كامل ومهيمنًا عليه) (المائدة:48).
لقد استحقت الأمة المسلمة هذا الموقع، بما تمتلك من قيم سماوية سليمة، وبما أوقفها الله عليه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، وتجارب الدعوة إلى الله مادة التاريخيًا، ومراحل وأقدار التدين هبوطًا وصعودًا، وخطأ وصوابًا، وانحرافًا وتوبة، وما لحق بالتدين وأتباع النبوات السابقة من علل وإصابات في تدينهم، لتكون على بينة من أمرها، ودراية لواقعها، ووقاية لمستقبلها.. ولم يكن القصص القرآني من باب سرد المادة التاريخ والحكايات الغابرة، بعيدًا عن بيان الأسباب والسنن الاجتماعية، وإنما كان صورة بشرية كاملة الأبعاد لتعامل الإنسان مع التكليف السماوي في حالاته المتعددة، والسنن التي تحكم هذه المسيرة البشرية، أو القوانين والأقدار التي يخضع لها الفعل المادة التاريخي، الذي يعتبر دليل صدقية هذه السنن ومختبرها، بعيدًا عن الأماني والرغبات.. فالأمة المسلمة بذلك، تقف على قمة التجربة البشرية، بمواقعها المختلفة وحالاتها المتعددة، الأمر الذي يبين خطورة الأمانة وعظيم المسؤولية، ويمنحها القدرة على التجدد والتجديد الذاتي.

والصلاة والسلام على النبي القدوة، الذي تمثلت في شخصيته كمالات الأنبياء، وانتهت إلى رسالته أصول الرسالات السماوية، وجُمعت في أمته الشعوبُ والقبائلُ والأقوامُ، وتحققت النقلة النوعية من دولة اللون والجنس والأرض، إلى أمة ودولة الفكر والعقيدة، حيث أصبح الكسب والاختيار هما معيار التفاضل وتحقيق كرامة وإنسانية الإنسان، القائل صلى الله عليه و سلم: (إن اللهَ يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها ) (رواه أبو داود).

وبعـد :

فهذا كتاب كامل الأمة السابع والخمسون: (الشيخ عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية)، للأستاذ مصطفى محمد حميداتو، في سلسلة (كتاب كامل الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة التشكيل الثقافي والوعي الحضاري، ذلك أن الحال التي نحن عليها بحاجة إلى الكثير من اللمراجعة شاملة، والتفاكر، والتشاور، والفحص، والاختبار رائع، وإعادة المعايرة بقيم الكتاب كامل والسنة، والإفادة من تجارب النبوة، والتعرف بدقة على علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، والتي أصبحت تتسلل إلينا ونعاني الكثير منها، ومحاولة اكتشاف الأسباب التي أورثتنا هذا الواقع الذي نحن عليه، ذلك أن عدم اللمراجعة شاملة والفحص والاختبار رائع لأفكارنا المطروحة ووسائلنا، يعني فيما يعني -إلى جانب العجز والتخاذل- القبول بهذا الواقع تحت الشعار المميت للفاعلية والتطلع صوب المستقبل: (ليس في الإمكان أفضل مما كان).. وهذا لا يتحصل ما لم نتعرف إلى قدراتنا وإمكاناتنا، أو بتعبير آخر: التعرف إلى استطاعاتنا، ومن ثم تربية الإرادة القادرة على وضع هذه القدرات في مواقعها الصحيحة.
ولعل من أخص خصائص التفكير الاستراتيجي: استشراف الماضي، والتوغل في العمق المادة التاريخي، واستيعاب التجارب، واكتشاف العلل الحضارية أو علل التدين، وجوانب القوة والنهوض، وأسباب الضعف والسقوط، وتحديد السنن الاجتماعية الفاعلة في الحياة والأحياء، والإحاطة بالقضايا المطروحة، وتحليل جوانبها المتعددة، وسننها أو قوانينها، والنظر في نتائج هذا الماضي، المتمثلة في الحاضر بكل معاناته، ومحاولة وضع هذا الحاضر في موقعه المناسب من مسيرة الأمة، وبناء الخطة المستقبلية بحيث تكون واضحة الأهداف الاستراتيجية والأهداف المرحلية، ودراسة الاحتمالات والتداعيات الممكنة، لأخذها بالاعتبار والاستعداد لها، والتعرف إلى الأولويات، واعتماد سنة التدرج وعنصر الزمن كوعاءِ حركةٍ وقيمةِ إنجاز في الوقت نفسه، والتعامل مع المتاح، وعدم خلط الأهداف بالوسائل، والإمكانات بالأمنيات، والحماس بالاختصاص، والإحساس بالإدراك، وتجنب عثرات دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير، والتخلص من حالة الانطفاء الثقافي، الذي يبعثر القدرة، ويعطل الإرادة، مستعينين بالله في كل أحوالنا -اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام- من العجز الذي يشل القدرة، والكسل الذي يميت الإرادة، حيث كان من دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم المأثور والدائم: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل )(متفق عليه).
وقد يكون من القضايا الأساسية المطلوب أن نعرض لها، ونحن بسبيل الكلام عن رائد من رواد الحصانة الحضارية والثقافية والتحضير للإصلاح والتغيير، أن نلقي بعض الأضواء على قضية ملامح دعوات الإصلاح والتغيير بشكل عام، لأنها من أهم القضايا، فيما نرى، وتكاد تكتسب أهميتها أكثر فأكثر من خلال معاناتنا، وعجزنا عن الإفادة من تجاربنا، والاقتصار على مدحها والافتخار بها فقط، دون القدرة على تمثلها وتحليلها، وبيان صوابها وخطئها، لستر عجزنا ومعالجة مركب النقص في نفوسنا.

وأية دراسة تقويمية في هذا الميدان، لابد لها من الإحاطة الكاملة بدعوات الإصلاح والتغيير، ودراسة ظروفها وطروحاتها ووسائلها، وما واجهها من عقبات، وما أصابها من عثرات، وما لحقها من تداعيات، في ضوء منهج واضح ومدروس مفصلة.
ولعل من أهم القضايا المطلوبة في هذا الإطار، دراسة الظروف التي عملت فيها تلك الدعوات، ومناقشتها بجرأة وأمانة، سواء على مستوى التنظير أو على مستوى الممارسة والتطبيق، وإلى أي مدى خرجت من داخل الأمة، وتشكلت في رحمها، وتجاوبت مع معادلتها الاجتماعية ؟ وقد يكون المطلوب كذلك عدم الاقتصار على دراسة دعوات التغيير والإصلاح والتجديد، التي خرجت من الداخل الإسلامي، وإنما أيضًا دراسة تيارات التغريب والاستلاب الحضاري، ورصد تأثيرها وأثرها، وكيفيات التعامل معها، وتحديد موطن الصواب والخطأ.
وأعتقد أن المنهج المعتمد في دراسة دعوات الإصلاح والتغيير في الداخل الإسلامي، لابد أن يكون من عطاء النبوة، ومنطلقًا من معرفة الوحي الخاتم، التي وفرت لها جميع التجارب المادة التاريخية، وأوقفت عليها وقدمت لها النماذج المتعددة، لاختصار التجربة والبدء من حيث انتهى الآخرون، وعدم السقوط بالحفر نفسها، حتى (لا يُلْدَغ المؤمن من جُحْرٍ مرتين).. فالرسول صلى الله عليه و سلم على الرغم من أنه خيار من خيار من خيار، من حيث المؤهلات والمزايا الشخصية، وأنه محل الرسالة الخاتمة -والله أعلم حيث يجعل رسالته- وأنه معصوم، مسدد بالوحي ومؤيد به، قدمت له النماذج والتجارب النبوية، التي سارت وفق السنن، وطلب إليه أن يتعرف على هذه التجارب، ويقتدي بالجوانب الإيجابية، ويَحْذَر ويُحذِّر أمته من علل التدين التي كانت سبب السقوط الحضاري، قال تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )(الأنعام:90).
والمنهج النبوي أكد على أن عمليات الإصلاح ومحاولات التغيير، تبدأ من تحرير الإرادة، وتحرر الضمير.. تبدأ من داخل النفس.. ذلك أن القيام بأي عمل مؤثر في الواقع الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي، غير ممكن قبل تحرير الإرادة وانعتاق الضمير من رواسب ذلك الواقع وتأثيراته، الأمر الذي يمكِّن من إعادة صياغة الإنسان، وإعادة تشكيله، باعتباره أداة التغيير وهدفه في وقت واحد، وعلى الرغم من أن الإنسان نفسه يتأثر بالواقع، لكنه في ذات الوقت يؤثر به.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى إرادة الإنسان هي مفتاح التغيير والإصلاح، فقال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد:11)، وكأن سياق الآية -وكل شيء عند الله بقدر- جعل إحداث التغيير من الله منوط بإرادة التغيير من الناس.. فهو بقدَره أراد لهم أن يريدوا ذلك، لإحداث التفاعل والوصول إلى الأهداف.

وإرادة التغيير، لا تنافي القَدَر -ولا تصادمه- الذي بات يشكل تُكَأَةً ومسوِّغًا للقاعدين والمنسحبين وأصحاب المذاهب الإرجائية، ومن ينتسبون إلى القَدَر، ويدّعون الإيمان به، بل هي من القَدَر، حيث إن الله هو الذي أراد لنا أن نريد -كما أسلفنا- وأن ندفع الأقدار بأقدار أحب إلى الله منها، كما يقــول ابن القيم رحمه الله، بفهمه الدقيق ورؤيته الذكية: (ليس المسلم الحق هو الذي يستسلم للقدر (والاستسلام غير الرضا)، وإنما هو الذي يدفع القَدَر بقَدَر أحب إلى الله منه).
وهذه المدافعة للأقدار بالأقدار، التي هي من أمر الله أيضًا، لا تتأتى إلا بإدراك سنن الله الاجتماعية في الأنفس، وسننه الكونية في الآفاق.. فهي ليست أمنية عائمة بمقدار ما هي إيمان بصير، وإرادة ومعرفة بالإمكان، وعلم بالسنن الفاعلة، يمنح القدرة على إدراكها وفاعليتها، ومن ثم المداخلة في مسارها وتسخيرها.
ولعلنا نقول هنا: بأن الارتكاز إلى معرفة الوحي (قيم الكتاب كامل والسنة)، هو وحده الذي يحقق الانتشال الحقيقي للإنسان من تحكم العادات والتقاليد والإرث الآبائي في التشكيل الثقافي وإرادة التغيير، وهو الذي يشكل معايير التغيير والإصلاح، ويمنح الاطمئنان وقوة العزيمة على الانعتاق من البيئة المتحكمة، والبدء بإصلاحها.
وعمليــة التغييـر والإصـلاح -كما هو معروف- لابد أن تُسْبَق باكتشـاف الواقــع، والإدراك الكـامـل له، وتحليـلـه، والمفارقـة بينـه وبين ما يجب أن يكون، ومن ثم التفكير في الكيفيات والمناهج والبرامج التي تعيد مسيرة هذا الواقع إلى الجادة الصحيحة، في ضوء السنن التي تأخذ بالاعتبار الإمكانات المتاحة، والظروف المحيطة، والميراث الثقافي والحضاري، وعقيدة الأمة، ومعادلتها الاجتماعية، وحالتها الثقافية.
ذلك أن أية دراسة لدعوات الإصلاح، أو للواقع الذي تريد تغييره، تتطلب عملية نقدية جريئة، لأنها ضرورة لأية دعوة إصلاحية تغييرية، تريد أن تقوم على خطة استراتيجية ومنهج ونظام يسعى إلى تحقيق أهداف معينة، وإلى تسجيل غايات كبرى في الواقع المادة التاريخي، وتنبيه الأذهان إلى العيوب المنهجية في دعوات الإصلاح السابقة، التي أدت إلى الإحباط والفشل رغم توفر الطاقات المادية والإمكانات النفسية.
وعملية النقد للدعوات الإصلاحية والتغييرية، لا يمكن أبدًا أن تُصَنَّف في خانة الحط من قدرها أو بخسها حقها، وإنما تعني تقديرها والعناية الكاملة بها، ومحاولة الإفادة منها، وذلك بامتلاك القدرة على استصحابها وحسن الإفادة منها، وإضافة رصيدها من الصواب، والخطأ الذي تقود معرفته إلى الصواب، لدعوات الإصلاح والتغيير الحديثة أو المأمولة.
والمحزن حقًا أن أغلب مَنْ كَتَبَ ويكتب في مادة التاريخ الدعوات الإصلاحية والتغييرية، لا يحاول أبدًا أن يوجه نقدًا، أو يقدم تقويمًا، وإنما يسلك منهجًا أقل ما يوصف به بأنه عاطفي يغلب عليه التبسيط وأحيانًا التسطيح، قد يتجاهل الداء أو يخفيه، ظنًا منه أن النقد يرادف التجريح والغيبة المنهي عنها، الأمر الذي يسمح للداء بالتكرار والامتداد ويزيده تمكنًا.. ذلك أن جوهر التغيير والإصلاح النفسي والخلقي والاجتماعي والسياسي، يقوم على أساس النقد والتقويم، واستشعار التناقض بين الواقع الذي نعيشه، والمثال الذي نسعى إليه.
ولعل من المهم أن نشير إلى أن مبدأ النقد أو منهج النقد له أصوله وأخلاقه وآدابه، فلا يجوز أن يتعرض للأشخاص وشؤونهم الذاتية إلا بالأقدار الضرورية التي تخدم الموضوع، لأنه بذلك يتحول عن غايته الإصلاحية ويصبح عامل هدم وجلد، وتشهير وإساءة، وإنما يتوجه صوب الأعمال والمسالك التي تمس شؤون الحياة العامة، اقتداء في ذلك بمنهج النبوة: (ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا وكذا)، بلا بَخس ولا تطفيف.. مع مراعاة أن النقد لجانب من جوانب دعوات الإصلاح، لا يعني الإلغاء لإنجازاتها وفضلها وكسبها الطيب، واختزال مادة التاريخها في عمل خاطئ أو موقف عاجز متخاذل، والحكم عليها من خلاله، وإنما يعني التوازن، وضبط النِّسب، وإعطاء كل شيء حقه من الحكم، صوابًا أو خطأ، في ضوء معايير معرفة الوحي، بعيدًا عن الذاتية والنرجسية والمعايير الشخصية، وتقديم هذا الرصيد من تقويم الخطأ والصواب للقادمين على الطريق.

وقد يكون من المحزن أيضًا، ضمور وانكماش الأدبيات النقدية لدعوات الإصلاح والتغيير الحديثة والمعاصرة، على الرغم من الشكوى المرة من أنها جميعًا تكرر التجارب نفسها ولا تفيد من أخطائها أو أخطاء مَن سبقها.
ومن اللافت للنظر حقًا أنه على الرغم من الإخفاقات الكبيرة والخيبات الكثيرة، والورطات الغريبة التي دُفعت لها بعض الحركات الإسلامية، التي تمت تصفية الحسابات الدولية والإقليمية بدمائها، لم نقف منها على اعتراف واحد بالخطأ أو التقصير أو سوء التدبير، وكأن كل ممارساتنا كانت محض صواب، وكأن غيرنا من الأمم والحضارات وحركات ودعوات الإصلاح والتغيير الأخرى، أولى بهذا الاعتراف بالخطأ، وهذه الشجاعة في العودة إلى الحق منا، لذلك جاءت النتيجة: أن تتراكم المعرفة والخبرة عندهم، وتتكدس الأخطاء وتتكرر عندنا، وتسلمنا هزيمة إلى هزيمة، على الرغم من امتلاكنا القيم السليمة والتجربة الأنموذج مقترح، التي وضعناها في خانة التبرك والعزلة عن الحياة.
والملاحظ أن الكثير من الكتاب كاملات المتوفرة حول دعوات الإصلاح والتغيير، إما أنها تذهب كليًا للمديح والفخر بالإنجاز، وإما أنها تقدم دراسات وصفية سردية تفسيرية، بعيدًا عن أي تحليل ودراسة موضوعية خاضعة لمنهج واضح في التناول والمعايرة، للوصول إلى نتائج يمكن أن تفيد في متابعة الطريق.. لذلك فمعظمها كتاب كاملات هي أقرب للتكديس والتكرار والتلقين، منها إلى إثارة التفكير والملاحظة والاستنتاج والتعرف إلى جوانب الخطأ والصواب.
ولا أدري كيف يمكن أن نستفيد من أخطاء مَن سبقنا وصوابه، إذا لم نمتلك الجرأة الكافية في بيان الصواب والخطأ، والكشف عن أسباب الإصابات، ذلك أن الكثير من الدعوات الإصلاحية والتغييرية للواقع، لم تبلغ أهدافها، كما هو معروف، وإن حققت بعضها، ولا يمكن بحال أن نعزو ذلك كله إلى العامل الخارجي الذي كان ولايزال مستمرًا وقائمًا، ليشكل لنا ذلك مهربًا ومبررًا ومشجبًا نعلِّق عليه أخطاءنا، لأننا لو سلمنا بذلك فلابد أن نعترف بما هو أدهى وأمر: بأننا قيادات قاصرة وعاجزة عن التفكير الاستراتيجي، ودون سوية العصر، والتعامل مع الظروف المحيطة في ضوء الإمكانات المتوفرة.. وأكثر من ذلك، ومصرة على الادعاء بعدم التقصير والخطأ.. لذلك قد يصبح من أعدى أعدائها، أولئك الذين يقدمون لها المناصحة، ويكشفون لها بعض جوانب التقصير، ويبصِّرون الأجيال ببعض الإصابات لتجنبها، وكأن قيادات بعض دعوات الإصلاح والتغيير، فوق مراتب الأنبياء المؤيَّدِين بالوحي والمسدَّدين به، الذين عاتبهم الله على بعض أعمالهم، وبيَّن الوحي خطأ بعض اجتهادهم، وغفر الله لهم ذنوبهم التي وقعوا بها بطبيعتهم البشرية، ليعلِّموا الناس أن المناصحة والتقويم والنقد واللمراجعة شاملة، هي سبيل الطريق الصحيح والسبيل القويم لصواب العمل وبلوغه أهدافه.
أو كأنهم فوق مرتبة الصحابة الذين بيّن القرآن خطأهم، وهم في أعلى مراتب الجهاد، وأخطر المآزق العسكرية، وأشد مراحل الهزيمة في أُحُد، والنصر في بدر، وكشف عن طوايا نفوسهم، ونشرها على الدنيا، إلى يوم الدين، في آيات تُتلى ويُتَعَبَّد بتلاوتها، وتُصَوَّب المسيرة بتدبرها، وتُهدى الأجيال بها، إلى يوم القيامة: (قل هو من عند أنفسكم )(آل عمران:165).. (منكم من يريد الدنيا )(آل عمران:152).. (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) (الأنفال:17).. (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) (الأنفال:1).. (لولا كتاب كامل من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم )(الأنفال:68) ...إلخ.
إضافة إلى أنه لولا النقد والتقويم واللمراجعة شاملة والجرح والتعديل، لاختلط الصحيح بالموضوع، والغث بالسمين في ميراثنا الثقافي، والتبست معرفة الوحي بكلام الناس.. تلك العمليات النقدية، هي التي نتميز بها ونفخر، وتشكل لنا في كل عصر إمكانية النهوض.
إن غياب منهج النقد والتقويم والجرح والتعديل، عن الواقع المتحرك لدعوات الإصلاح والتغيير، أوقعها بالكثير من الحفر، وفوَّت عليها الكثير من الأهداف.. وليس ذلك فقط، وإنما ساهم ولايزال بتضليل الأجيال عن البصيرة الصحيحة، والتفكير بالعواقب والمآلات، والإعداد لها بالقدر نفسه للتفكير بالوسائل، وتقديم التضحيات والاقتصار عليها.. ولا أعتقد أن المباهاة والتفاخر بامتلاكنا لمناهج متقدمة للنقد وميراثنا المتميز من الجرح والتعديل، وإعلانه على المنابر فقط، يغيّر من الأمر شيئًا، حيث إن واقعنا يشكل شاهد إدانة على ذلك.
إن أخطاءنا هي التي تحيط بنا، وتدمرنا، وتقضي على أهدافنا وطموحاتنا، وتُمكِّن للعامل الخارجي أن يمتد في داخلنا، ويعمل فينا عمله الذي نراه.. والادعاء بأن النقد والتصويب يشوش الصفوف ويخلخلها، ويبصر العدو بمواطن الضعـف ليتسلل منها، مــردود بأن الصفــوف التي لا تحتمل النقد، لا ثقة بها للقيام بأي عمل، وأن العدو -كما هو ملاحظ- أعرف بنا وبأخطائنا منا، وقد يكون وراء صناعة الأخطاء وتكريسها، والإغراء بالتستر عليها، ليحاصرنا ويشل حركتنا.. وما أعتقد بأنه كان -في مادة التاريخنا- أسوأ من هزيمة أُحُد للمسلمين، وانتفاخ عدوهم، ومحاولته إعلاء الوثنية على الإيمان، ومع ذلك عوتبوا وخُطئوا على الملأ، وما ادعى أحد بأن ذلك كان سبيل الأعداء إليهم، لأنهم كانوا يدركون أن ذلك سبيلهم إلى الأعداء في الجولات القادمة.
وفي تقديري أن شيوع الروح الحزبية المتعصبة، والانغلاق على الذات وعن الآخر، وحماية الضعف والعجز والتخاذل، وراء الأسوار الحزبية السميكة، هو الذي سمح بوصول بعض الناس من غير المؤهلين إلى مواقع القيادة، وجعل مهمة الحفاظ على استمرارهم هو الهدف، بعيدًا عن الامتحان شامل والاختبار رائع، وكان ذلك أهم سبب في تكريس الخطأ ومطاردة ومحاصرة أي توجه نقدي أو إصلاحي.. ونخشى أن تتحول الأمور إلى ضروب من الجاهلية، مغلفة بشعارات إسلامية.
ومن المفيد أن نذكر هنا أن خطورة الحضارة القائمة الغالبة وامتدادها، يكمن في قدرتها على اكتشاف أمراضها وأخطائها، ومعالجة نفسها بنفسها، حتى نرى أن خصومها من أمثالنا، الذين يعيشون في غرف الانتظار ويتمنون سقوطها، يبرهنون على فسادها بالعلل والأمراض التي كشفتها هي، واستنفرت للتحذير من خطورتها، والعمل على علاجها.. حتى العلل لا نستطيع إدراكها إلا من خلال دراساتهم وإحصاءاتهم!! أما نحن فلا علل ولا أخطاء لنا، على الرغم من واقعنا المتردي، وكأننا فوق مرتبة البشر!!
وهنا قضية قد تكون جديرة بالملاحظة والانتباه، ونحن بصدد إلقاء بعض الأضواء على دعوات ومحاولات الإصلاح والتغيير والتجديد، في الداخل الإسلامي، وهي أن دعوات الإصلاح والتجديد التي نبتت في التربة الإسلامية، وعلى الرغم مما أدركها من الخطأ والنقص والتقصير، الأمر الذي حال دون بلوغها أهدافها كاملة، إلا أنها تركت رصيدًا طيبًا في ضمير الأمة، وجددت ذاكرتها تجاه واقعها الأليم، وبصّرتها بأعدائها الذين كادوا يلبّسون عليها، ومكّنتها من الاحتفاظ بقيمها، والاستشعار بأن القيم الإسلامية في الكتاب كامل والسنة، هي سبيل الخروج وسفينة النجاة، وإن لم تستطع أن تفلح بشكل كامل في تقديم الأوعية المطلوبة لحركة الأمة في اتجاه عودتها للإسلام، وتحويل المبادئ إلى برامج والسياسات إلى خطط وممارسات.
لقد نجحت هذه الدعوات في أن تعزل الفساد ومؤسساته عن ضمير الأمة، وتحد من استشراء الشر، وتترك بصماتها في العمق المادة التاريخي لمسيرة الأمة، وتجديد ذاكرتها تجاه عدوها.
وعلى النقيض من ذلك، نجد أن دعوات التغيير وادعاء الإصلاح والثورة على التقاليد والواقع الاجتماعي، التي جاءت من خارج الأمة، وحاولت أن تفرض رائع نفسها وأفكارها وتغري بها، بالمال والسلطان والإعلام، والإكراه، ومساندة الاستعمار بكل أنواعه، عاشت على هامش ضمير الأمة، وإن أوقعت بعض الضحايا لتضليلها الفكري وعمالتها الثقافية، وتحولت لتصبح شاهد إدانة مادة التاريخي على محاولات النيل من عقيدة هذه الأمة وتفتيتها وتضليلها، باسم إصلاحها والنهوض بها، بل لعلها كانت من عوامل النجاح لدعوات الإصلاح الإسلامية بصورة أو بأخرى، بسبب استفزازها وتحديها.
وقد يكون السبب الأساس في ذلك، أن أية محاولة أو دعوة للإصلاح والتغيير، تأتي من خارج الأمة وعقيدتها ومعاناتها ومشكلاتها ومخزونها الثقافي وتقاليدها الاجتماعية السليمة، سوف تبوء بالفشل، لأنها دخيلة، وأقل ما يقال فيها: إنها تحاول التجديد لواقع أمة ومعايرته من خلال أصول حضارية وثقافية ودينية غير أصولها وحضارتها وثقافتها ودينها.
ولعل الكثير من الارتكاسات والصراعات وصور العنف، التي تعاني منها مواقع كثيرة في العالم العربي والإسلامي، في مرحلة ما بعد الاستعمار، إنما هي بسبب عدم قدرة دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير على الامتداد بدعوتها، والحفاظ على إنجازاتها، وتنميتها وحمايتها، وتحقيق أهدافها، الأمر الذي مكّن الآخر من السطو ومحاولة العبث، وسوء التعامل، والتنكر للأهداف، في مراحل ما بعد الاستقلال.. تلك الأهداف التي دفعت الأمة ثمنها غاليًا من دمائها وأوقاتها، وبات من الصعب جدًا التنازل عنها، لذا يتحول بأس الأمة الشديد إلى ما بينها، وتبدأ مرحلة التآكل والتناكر والتنافر والخلاف والدخول في الأنفاق المظلمة، التي يسودها عمى الألوان، وممارسة البطش في الاتجاهات كلها، ومن الجهات كلها، وتبدأ لغة القوة والعنف تفرض رائع نفسها، وتستدعي مزيدًا من السلاح نفسه لجميع أطراف النزاع، ويسود شعار: الخوف على الديمقراطية من الديمقراطية!!
وبعد هذه الملامح الرئيسة لدعوات الإصلاح والتغيير والتجديد، نعرض لبعض جوانب النجاح التي أصابها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، رائد الإصلاح والتجديد والتغيير، ورئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، ونسارع إلى القول: بأن الشيخ -وإلى حد بعيد- حاول أن يستوعب الواقع بكل مكوناته، سواء في ذلك الداخل الإسلامي (واقع الشعب الجزائري)، أو على مستوى المحاولات الاستعمارية في طمس الهوية وممارسة عملية التذويب، عن طريق الثقافة والسياسة والتربية والتعليم، وتشكيل الطابور الخامس الملحق بفرنسا والمروج لها، سياسة وثقافة وحضارة.. كما أنه لم ينس الأساليب السياسية والثقافية المستمرة في السيطرة على العالم الإسلامي، المتمثلة بسياسة: (اقطع الشجرة بأحد جذوعها)، وذلك باحتواء واختراق بعض الفئات والتجمعات التي ترفع الشعارات الإسلامية، لتصبح ظهيرة للاستعمار بأنواعه المتعددة، ولِتُوهِمَ بأن فرنسا ليست ضد الإسلام كدين، وإنما ضد بعض الأنشطة الإسلامية، ولعل هذا أوضح ما يكون في مادة التاريخ الجزائر، ابتداءًا من التحضير للثورة وقيام القيادات الشعبية الإسلامية.. ولا نرى أنفسنا بحاجة إلى ذكر بعض الأسماء والعناوين، وإشاعة الفهوم المعوجة والتدين المغشوش، الذي مارسته بعض الجماعات الصوفية المنحرفة، صنيعة الاستعمار، لدرجة وصلت محاولاتها إلى التفكير في اغتيال زعماء الإصلاح والتغيير والتحرير.
لقد سيطرت الطرق الصوفية على الفكر الإسلامي والمجتمع في القرن التاسع عشر سيطرة مذهلة، فبلغ عدد الزوايا في الجزائر 349 زاوية، وعدد المريدين أو الإخوان 295.000 مريدًا.. والفقهاء الذي عرفوا بمعارضتهم الصوفية، أصبحوا بدورهم (طرقيين)، فساد الظلامُ، وخيّم الجمود، وكثرت البدع، واستسلم الناس للقدر، بمفهومهم المتواكــل، وأصبحـــوا إذا سئل أحدهـــم عن حاله، أجاب: (نأكل القوت ونستنى' الموت).. وهذه الظاهرة الاجتماعية أدت إلى تعطيل الفكر، وشل جميع الطاقات الاجتماعية الأخرى (انظر: ابن باديس حياته وآثاره، جمع ودراسة الدكتور عمار الطالبي، ص18).
ولقد لخص الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ذلك بقوله: أما ابن باديس، فقد جاء في فترة جددت فيها النزعة الصوفية، وهنا موضع الخطورة، ذلك أن الحلقة لم تُستأنف بالفقه والرباط، بل بالتميمة والزاوية.
ويرى الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد قام بتلك الثورة الفكريـة على أحسن وجـه، وبدد ما كـان مخيمًا على الجزائر من تقاليد ثقيلة تتمثـل في تلك الطـرق الجامـدة المخـدرة للشعب (ابن باديس، حياته وآثاره، ص9).
وقد يكون من المفيد أن نثبت رؤية الأستاذ الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله للواقع الذي بدأ العملَ فيه الشيخُ ابن باديس وجمعيةُ العلماء، يقول واصفًا الحال التي عليها الناس: (فهذا يرنوا إلى المذهب الكمالي... وذاك ينزع إلى التمدن الغربي، ومنهم من انحدر إلى مذهب المادة... ونرى من بين هؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح تدلنا على منهاج آخر، يقوم على عقيدة صحيحة، ورجـــوع إلى السلف الصالح، وتغييـــر ما بالنفـس من آثــار الانحطـــاط). (آثــار ابن باديس، ص67).
ويجعل حركة العلماء المسلمين أقرب الحركات والقيادات إلى النفوس ولكنها -حسب رأيه- ما لبثت أن انحرفت منهجيًا عن أهدافها، وأعطت القيادة للانتهازيين السياسيين في سنة أولى936م في المؤتمر الجزائري الإسلامي، فأخفق المؤتمر ودب الشقاق في صفوف الجمعية، كأن مركب النقص هو الذي جعلهم يسلمون الزعامة لرجل اللغة الأجنبية، فسايروا قادة السياسة في تلك الفترة، ظنًا منهم أنهم سيحمونهم ويدفعون عنهم شر الحكومة المادة الفرنسية، باعتبار أن التغيير الاجتماعي الذي يبدأ في تغيير النفس هو الأساس في المشكلة لا الذهاب إلى باريس، والتعلق بسراب ووعود الجبهة الشعبية، وهذا ما تأكد لهم فيما بعد، حيث عبر ابن باديس عن ذلك بوجوب الاعتماد على أنفسنا والاتكال على الله (آثار ابن باديس، ص68).
ويوجه مالك من ناحية أخرى نقدًا للحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي بشكل عام، التي وإن أخذت بفكرة الإصلاح الديني، الذي يعتبر نقطة انطلاق في كل تغيير اجتماعي، إلا أنها ابتدأت بمرحلة علم الكلام، وتخطت المرحلة الأخلاقية التي تؤدي إلى أول تغيير للقيم الاجتماعية، فهذا يعتبر مزلقة لا تؤدي إلى الوعي بقدر ما تؤدي إلى علم الجدليات، لكنه يستثني حركة الإصلاح في الجزائر، ويعود الفضل في ذلك إلى شخصية الشيخ ابن باديس في بداية الأمر، حيث كانت الحركة تنطوي على جذوة روحيـــة، لكـن ما لبثت أن أضحت تكــوّن متخصصين بارعين أكثــر مما تعمل على تكوين دعاة مخلصين (آثار ابن باديس، ص69).
وأعتقد أن مثل هذه النظرات النقدية القويمة، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا حول بعض جوانبها، تمثل ظاهرة صحة، وتشكل علامات مضيئة على الطريق، حتى لا نقع بالخطأ نفسه، فنستفيد من الخطأ لنتجنبه، كما نستفيد من الصواب فنتلمسه، خاصة وأن أخطاءنا تتكرر اليوم على المادة الجغرافيا نفسها.
نعود إلى القول: بأن الشيخ ابن باديس رحمه الله وأجزل ثوابه، استطاع أن يدرك جوانب الإصابة والخلل في المجتمع الجزائري الواقع تحت الاحتلال، والأسباب التي ألحقت به هذه الإصابات، وبدأ التفكير بمعالجة جذور الأزمة، أو السبب العميق الذي يكمن وراءها، ولم يقتصر في ذلك على معالجة الآثار، على الرغم من أهميتها، ولم يغب عنه ولا لحظة واحدة أن صلاح هذه الأمة مرهون بالمنهج الذي صلح به أولها، واختبر ذلك في نفسه وما تحقق له من نقلة ثقافية فتحت بصيرته بسبب صلته بالقرآن وانضباطه بمنهجه، وأدرك أن البعث والإحياء إنما ينطلق من مجموعة مرتكزات وجهت إليها الآية الكريمة في قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب كامل والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )(الجمعة:2).
فالبعث والإحياء للواقع الإسلامي الراكد، الذي يسوده التقليد والجمود على مستوى الداخل، ومحاولات التغريب والخروج عن منظومته المعرفية وأصوله الحضارية على مستوى الوافد، لا يكون ولن يكون إلا بالعودة إلى الرسالة (قيم الكتاب كامل والسنة)، ومعايرة الواقع بها، بحيث ينظر إلى الواقع من خلالها، وتستوحى' الحلول لمعاناة الواقع ومشكلاته في هديها، وأن ينطلق دعاة الإصلاح من داخل الأمة، بكل ظروفها ومعاناتها وميراثها الثقافي ومعادلتها الاجتماعية: (رسولاً منهم)، والتأكد من أن أية طروحات وافدة من خارج الأمة، محكوم عليها بالفشل.. ولا نعتقد أننا بحاجة إلى الأدلة على أن ينطلق الإصلاح من تلاوة القرآن وتدبر آياته: (يتلوا عليهم آيته).. وأن تؤسس مناهج التربية والتزكية وتحرير الضمائر وتطهير النفوس (ويزكيهم)، على قيم الكتاب كامل والسنة .. وأن تتمحور مناهج بناء المرجعية في أنظمة التعليم على قيم الكتاب كامل والسنة: (ويعلمهم الكتاب كامل والحكمة)، فيصبح الكتاب كامل والسنة، مصدري المعرفة والتربية والثقافة والأخلاق، كما هما مصدرا التشريع.
فلقد كرّس الشيخ ربع قرن من حياته للقرآن، بعد أن حفظه، فالقرآن صاغ نفسه وهز كيانه، واستولى على قلبه، فاستوحاه في رسم منهجه طوال حياته، وترسم خطاه في دعوته، وناجاه ليله ونهاره، يستلهمه ويسترشده ويتأمل فيه، فيَعُب منه، ويستمد علاج أمراض القلوب وأدواء النفوس، ويذيب نفسه ويبيد جسمه الهزيل في سبيل إرجاع الأمة الجزائرية إلى الحقيقة القرآنية، منبع الهداية الأخلاقية والنهوض الحضاري، وكان همه أن يُكَوِّن رجالاً قرآنيين يوجهون المادة التاريخ، ويغيرون الأمة، ولذلك فإنه جعل القرآن قاعدة أساسية ترتكز عليها تربيته وتعليمه للجيل، قال: فإننا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم) (انظر ابن باديس، حياته وآثاره، ص79).
وقد وصف معاناته من نظام تعليم القرآن السائد بقوله: (وذلك أني كنتُ متبرمًا بأساليب المفسرين، وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضَيِّقَ الصدرِ من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكان على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال، حتى في دين الله وكتاب كامل الله، فذاكرتُ يومًا الشيخ محمد النخلي (أستاذه المدرس بجامع الزيتونة)، فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح، فوالله لفد فتح بهذه الكلمات القليلة عن ذهني آفاقًا واسعة لا عهد له بها) (ابن باديس، حياته وآثاره، ص78).
ولم يقتصر الشيخ ابن باديس رحمه الله على نقد مناهج التعليم والتربية في المدارس التي أنشأتها فرنسا، القائمة على إلغاء الهوية مادة اللغة العربية الإسلامية وتذويب الشعب الجزائري، والعمل على تقديم البدائل من المدارس والمعاهد الخاصة، وكتاتيب تحفيظ القرآن، وإنما عانى من واقع المدارس والمعاهد ومؤسسات التعليم الشرعي القائمة، التي أصيبت بالعجز والعقم، وتحولت من إدراك المقاصد وتحقيق الأهداف، إلى استنزاف الطاقة في علوم الآلة (الوسائل)، دون استخدامها، فأضاعت بذلك الأجر والعمر، وانعزلت عن ضمير الأمة، وبعث نهضتها، وسمحت بامتداد الآخر من خلال مناهج التعليم الاستعماري المتطورة، وكان يلمس ذلك في نفسه أثناء دراسته في جامع الزيتونة، لذلك تعرّض لنقد طرق التدريس في جامع الزيتونة، وبيّن أنها ليست وسيلة تؤدي إلى تحقيق الغرض من التربية كما يتصوره، بل إنما تكوِّن ثقافة لفظية يهتم أصحابها بالمناقشات اللفظية العقيمة طوال سني الدراسة.
ويذكر ابن باديس، أن الطالب كان يُفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، وإنما يغرق في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد، التي كان يظن الطالب أنه فرغ منها، ويتخرج الطالب دون أن يعرف عن حقيقة التفسير شيئًا، وذلك بدعوى أنهم يطبقون القواعد على الآيات، كأنما التفسير يدرس من أجل تطبيق القواعد لا من أجل فهم الشرائع والأحكام، وهذا يعتبره الشيخ ابن باديس هجر للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم يخدمون القرآن (ابن باديس، حياته وآثاره، ص108).
وكان يرى أن هذا يتعارض مع الهدف التربوي الإصلاحي، الذي يتمثل في إرجاع ضمير الإنسان المسلم إلى الحقيقة القرآنية، كأنه أنزل على قلبه، واتصاله به من جديد اتصالاً حيًا دافعًا للعمل.
لقد كان منهج الشيخ ابن باديس رحمه الله للبعث والإحياء والتغيير والإصلاح، ينطلق -كما أسلفنا- من القرآن الكريم، وبيانه النبوي، مستلهمًا قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب كامل والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ). وقوله تعالى: (رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (التوبة:128)، فتوجه صوب التربية والتعليم لرفع المعاناة وتحرير الضمير، وإعادة بناء الرسالة القرآنية في نفوس الشعب، وإشاعة اللغة مادة اللغة العربية في لسانه وحياته الثقافية، وإحداث التفاعل مع القرآن من جديد، بحيث تُزال الحواجز اللفظية الجدلية والنفسية بين القرآن والإنسان، فكانت حلقاته ودروس مفصلةه القرآنية والحديثية، في المساجد (مجالس التذكير).
فأحيا بهذه المجالس معاني القرآن، وبيّن أهمية المجاهدة به في إحياء النفوس بعد مواتها، واسترد رسالة المسجد في التعليم الجماهيري العام، أو الثقافة الجماهيرية -إن صح التعبير- واعتبر تعليم الجماهير في المسجد هو صنو الصلاة، من حيث أثره وانعكاساته على الواقع الاجتماعي والتربوي، ذلك أن الثقافة الجماهيرية والتشكيل الثقافي، يبقى محلها المسجد، إلى جانب التعليم المنهجي الذي مكانه المعاهد والمدارس والجامعات، حيث يتأكد دور المسجد في التعليم والتربية والتثقيف أكثر فأكثر، في ظروف الاستعمار وعهود ما بعد الاستعمار، وما يرافقها من محاولات الارتهان الثقافي والتربوي.
ولم يقتصر على دور المسجد في عملية التعليم والتثقيف الجماهيري، وإنما أدرك أن هناك شرائح من المجتمع لابد أن تخاطَب بوسائل إعلامية أخرى، فدخل ميدان الصحافة، و(أنشأ صحافة عربية كانت منبرًا رحبًا، يعلن في عزم وثقة أن الحركة الإصلاحية الجزائرية، حركة شعبية أصيلة، تعمل لإحياء التراث الثقافي للأمة، وتنقيته من الشوائب التي علقت به، وتنشر الوعي الديني والاجتماعي والوطني، وهكذا أصدر جريدة (المنتقد) عام 1925م، ثم صحيفة (الشهاب الأسبوعي)، التي حولها إلى مجلة الشهاب الشهرية، منذ فبراير 1939م، ومجلات أخرى منها (الالشريعة الاسلامية)، و(السنة)، و(الصراط)، و(البصائر).. وقد قامت هذه الصحافة بعمل إيجابي ضخم في مجال اليقظة الفكرية والوعي الوطني، والإصلاح الديني، وإحياء اللغة مادة اللغة العربية، محبطًا بذلك كله مخططات الاستعمار الرامية إلى تشويه الشخصية الجزائرية في كل ميدان) (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص482).
وعلى الرغم من عناية ابن باديس رحمه الله بالثقافة الجماهيرية، وإدراكه لأهميتها، إلا أنه ركّز أيضًا على بناء النخبة التي تمثل عقل الأمة ومرجعيتها وقيادتها، لذلك عمد إلى فتح المدارس والمعاهد، واهتم بوضع المناهج والأنظمة التربوية والتعليمية.
ولقد تنبه الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى إلى خطورة دور المرأة في النهوض والتحرير، وأهميتها في التربية والبناء الثقافي، وأهمية تعليمها، حتى تقوم برسالتها كما شرع الله، وتحسن القيام بوظيفتها في المجتمع، حيث لابد من الاعتراف أن المرأة كانت أحد معابر الغزو الثقافي أو أحد الثغور المفتوحة في الجسم الإسلامي، في أكثر من بلد إسلامي، وحتى عند بعض حركات الوعي واليقظة الإسلامية، لأنها حُكمت بالتقاليد الجاهلية، بعيدًا عن التعاليم الإسلامية، وحُرمت مما أعطاها الله من حقوق وواجبات، فكانت مجالاً مفتوحًا لامتداد شياطين الإنس والجن.. حُرمت من التعليم باسم حمياتها من الفساد، وكأن الجهل خير من العلم، وكأن التعليم نقيض التدين، والعلم ضد الإيمان، لذلك اختلت المعادلة الاجتماعية، واهتزت الوظيفة التربوية، وسبق الآخرون بإرسال الإناث إلى المدارس، ومن ثم جئن معلمات ومرشدات لبنات المسلمين، لإفساد دينهن وعقلهن، ومحاولة إقناعهن أن تعلمهن إنما هو بسبب الابتعاد عن الدين، لإغراء بنات المسلمين بالانسلاخ عن دينهن، وحصلت خسائر كبيرة قبل إدراك المسلمين الذي جاء متأخرًا بأهمية تعليم المرأة.
لذلك أدرك الشيخ ابن باديس رحمه الله ببصيرة نافذة، منطلقًا من الكتاب كامل والسنة، ما للمرأة من دور ووظيفة، فأوجب تعليمها، وإنقاذها مما هي فيه من الجهالة العمياء، ونصح بتكوينها تكوينًا يقوم على أساس العفة وحسن تدبير المنزل والشفقة على الأولاد، وحسن تربيتهم، كما أنه حمَّل مسؤولية جهل المرأة أولياءها والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلّموا الأمة رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثمًا كبيرًا، إذا فرطوا في هذا الواجب واستدل إلى جانب الآيات والأحاديث، بما استفاض في مادة التاريخ الأمة المسلمة من وجود العالمات والكاتبات الكثيرات.
ولعل القضية الأهم التي تمحور حولها نشاط ابن باديس التعليمي والإعلامي، واعتبرها من قسمات الشخصية الجزائرية، ومرتكزات الهوية الوطنية، وحصن الثقافة الذاتية، ومقومات إعادة بناء الأمة، وسبيل إدراكها لعقيدتها وشريعتها ودينها، هي اللغة مادة اللغة العربية، لأنها من الدين، ولغة الدين، على الرغم من أنه كان ينحدر من أصول بربرية، وأنه كان يحسن قراءة المادة الفرنسية وفهمها، إلا أنه كان يترفع عن الكلام بها لغير ضرورة.
واللغة عنده ليست وسيلة تعبير وأداة تفاهم فقط، كما يحلو لبعضهم أن يشيع، لتمرير وتسويغ التعليم والمحادثة بغير مادة اللغة العربية، وبذلك تصبح اللغة إحدى معابر الغزو الفكري، وبدل أن نترجم تراثنا وعقيدتنا إلى لغة الآخرين، نترجم تراث الآخرين إلى لغتنا، ونقبل بالموقع الأدنى.
فاللغة -إضافة لما أسلفنا- هي أداة تعبير وتفاهم، ووعاء تفكير، وسبيل تغيير وبناء ثقافي، حيث لا يُنكر دور وطبيعة الألفاظ والمفردات في التأثير والتحريك والتغيير، سواء في مجال الوجدان والمشاعر، أو في مجال التفكير وتخصيب الخيال أو تجمده ومحاصرته.. فعُجمة اللســان تدعــو إلى عُجمــة العقل والقلب.
ولا نريد هنا الإطالة حول هذه النقطة، ولا نحب أن يُفْهَم منها أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية والإفادة منها بالقدر المطلوب، والسن المناسب لذلك، وموقع ذلك ومرحلته العمرية من بناء المرجعية اللغوية والفكرية، وحسبنا أن نقول: لقد اتضح من أبحاث علم النفس المعرفي أن اللغة ليست وسيلة للتخاطب الخارجي فقط، بل هي النظام الأساس الذي يستخدمه الإنسان في التفكير أو الكلام النفسي.
وقد يكون من الأمور اللافتة للنظر حقًا والدالة على أهمية اللغة -في صياغة التفكير، والمساهمة في التشكيل الثقافي، والارتباط بالجذور، وتحقيق النقل الثقافي، وأهم من هذا وذلك كونها لغة التنزيل، ومفتاح فهمه، وإدراك مقاصده، والصلة بين الأمة وأجيالها- الهجمة الاستعمارية المتركزة على عزل اللغة وتهميشها، وإشاعة اللهجات العامية والمحلية، وتقطيع أوصال الأمة، وبعث اللغات العرقية، ليس كوسيلة تفاهم محلي، وإنما كبديل حضاري وثقافي، ومعبر من معابر الغزو الفكري، الذي يؤدي إلى التفتيت والتبعثر وتمزيق النسيج المعرفي.. ومن هنا ندرك دور مادة اللغة العربية في الاحتفاظ بهوية الجزائر وعروبتها وإسلامها، وندرك إصرار الشيخ عبد الحميد ابن باديس رائد الإصلاح والتجديد، على إشاعة مادة اللغة العربية والتكلم بها، وجعلها لغة التعليم والتعلم، والارتكاز حول حفظ وتلاوة القرآن، حفاظًا على وحدة الأمة، ولغتها، وعاء تفكيرها، ومصنع أحاسيسها ومشاعرها، ومخزن تراثها، مع أنه بربري الأصل وعلى معرفة بالمادة الفرنسية.
ولا يفوتنا أن نبين هنا، أن مصطلح العروبة في بلاد المغرب العربي الإسلامي، يرادف في مدلوله الإسلام تمامًا، ولا يعني فلسفة بديلة عنه، أو توجهًا مقابلاً له، كما هو الحال عند ملاحدة المشرق من العرب، وبعض الأقليات الدينية المتعصبة الحاقدة على حضارة الإسلام.. لذلك لابد من إدراك هذه الحقيقة بوضوح، حتى لا تختلط الأوراق.
ومن القضايا القديمة الجديدة، الجديرة بالتوقف والمزيد من التأمل، والتي أدرك الاستعمار ورصيده الباقي في عالم المسلمين، دورها وأثرها في البناء الثقافي والحفاظ على هوية الأمة وتقديم المدد لمؤسسات التعليم الوطني والإسلامي، وتحقيق التكافل الاجتماعي: المؤسسات الوقفية في الجزائر، التي كانت وراء التعليم الخاص الخارج عن السيطرة الاستعمارية، والتي حاولت أن تبني النخب والخمائر الاجتماعية للمستقبل.. لذلك عمد الاستعمار إلى الإشراف عليها، لشل حركتها وتعطيلها -تجفيفًا للمنابع- كما هو الحال اليوم في الكثير من مجتمعات ما بعد الاستعمار، ومجتمعات الارتهان السياسي والثقافي، فحاول الجزائريون تأمين بدائل مالية، لتأمين استمرار التعليم الخاص الخارج عن ربقة الاستعمـار والارتهـان الثقافي، مــن خـلال التجـار والـزراع والمواطنين من كـل المستويات، مما مكّن من الاستمـرار في بناء جيــل التحريـر وجيش التحـرير وتضحيات التحرير.
ولنـا أن نقـول: إن من أبـرز القضايـا وأجـرأها، التي طرحهـا الشيـخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، إلى جانب جهوده التربوية والتعليمية والدعوية، وحماية الشخصية الجزائرية من الذوبان، تحريم التجنس بجنسية المحتل، الذي كان يحاول الإتيان على كل ما هو عربي مسلم، على مستوى الأرض والإنسان معًا.. وقد يكون من المفيد أن نثبت نص الفتوى بتحريم التجنس قبل إلقاء بعض الأضواء عليها.
يقول ابن باديس: (التجنس بجنسية غير إسلامية، يقتضي رفض أحكام الالشريعة الاسلامية، ومن رفض حكمًا واحدًا من أحكام الإسلام عُد مرتدًا عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنس مرتد بالإجماع).
ولا أريد ابتداءً أن أشير إلى دور هذه الفتوى، وكيف أنها كانت في حينها أمضى من أسلحة جيش كامل العتاد، وما كان لها من الأثر البالغ في حماية الذات والهوية، والاعتزاز بالثقافة مادة اللغة العربية والإسلامية وربط الشعب بالقيم الإسلامية في الجزائر، في مرحلة المواجهة والتذويب.. كما أني لست بسبيل المقارنة بين هذه الفتوى وموقعها من النفس، ودورها في الصمود والمواجهة، وبين مئات الفتاوى التي أصبح ديدن أصحابها العبث والتلاعب بالأحكام الشرعية، وتفصيلها حسب الطلب، بل لقد وصل التهافت مع الأسف إلى درجة السؤال عن المطلوب قبل الفتوى، حتى تتم (فبركة) الفتوى من أجله، فهي تحل اليوم ما حرّمته البارحة، وتحرّم غدًا ما أحلته اليوم.. وبعض السياسيين، لا مانع عندهم من توظيف الدين لخدمتهم، في الوقت الذي يحاولون فيه فصل قيم الدين عن حكم الحياة.. ونحمد الله سبحانه وتعالى أن أصبحت الأمة على إدراك كامل لطبيعة مثل هذه الفتاوى، التي تلهث وراء السياسة، وتصنع لها المسوغات، والتي لا تتجاوز إقناع حتى أصحابها.كما نحمد الله أنه لا يوجد في الإسلام كهانات تتحدث باسم الله إلى الناس، مهما كانت مواقعها ووظائفها.
وأعتقد أنه لابد أن نتوقف قليلاً عند هذه الفتوى، التي شكلت عمقًا ثقافيًا لا يجوز تجاوزه في ضمير الأمة، وبعدًا مادة التاريخيًا وسياسيًا لا يمكن طمسه وإغفاله، ذلك أن لهذه الفتوى ظروفها المحيطة، ومرحلتها الدقيقة، وأسبابها ومسوغاتها، وقد شكلت إحدى الأسلحة الماضية في المعركة، والفتوى كما يقال على حسب حال المستفتي، فقد جاءت بوقتها محكومة بمجموعة شرائط، وبالتالي لا يمكـن النظـر إليهـا مـن خـارج ظروفهـا، أو وضعهـا خـارج إطارهـا، وإغفال مقاصدها.
كما لا يمكن تعميمها على كل الحالات والظروف المختلفة اليوم، وقد انتهى حال الكثير من بلدان العالم الإسلامي إلى ما نعلم جميعًا، فهناك الكثير من الأقليات المسلمة في دول أوروبا وأمريكا وأستراليا وسائر بلاد العالم، سواء كانت مهاجرة أو اعتنقت الإسلام هناك، تحمل جنسيات البلاد التي تقيم فيها، وتؤمِّن لها هذه الجنسيات الكثير من الحقوق، وتمنحها الكثير من حرية الحركة والممارسة، وفي مقدمتها حرية العقيدة والعبادة واختيار الانتماء الثقافي، كما تمكنها من الاندماج -وليس الذوبان- في تلك المجتمعات، الأمر الذي يتيح لها نشر عقيدتها، والإغراء بها، وإثارة الاقتداء.
والحقيقة أن هذه الحالات وهذا الواقع الديمغرافي الجديد، يحتاج إلى فقه دقيق، وفهم عميق، يحيط بالقضايا من جميع جوانبها، ويحسن تقدير المصلحة الإسلامية المؤقتة والدائمة، في ضوء ظروف تلك الأقليات وظروف العالم الإسلامي، وهذا لا يعني الدعوة إلى التنازل عن الهوية، فجنسية المسلم عقيدته، وليست الأرض التي يعيش عليها، وإن كانت الأرض كلها لله. لذلك فالمسلم لا يعاني من عُقدة الاغتراب، ولا عقدة الأوراق التي يحملها، لأنها تشكل في النهاية جوازات مرور، وتحقيق مصالح، وتأمين حقوق، وأوضاع شرعية، قد تكون مفقودة في بعض بلدان العالم الإسلامي.
ونستطيع أن نقول اليوم: إن المادة الجغرافيا السياسية بدأت تتراجع إلى حدٍ ما، أمام المادة الجغرافيا الثقافية، والحدود السياسية بدأت تذوب أمام الضَّخِّ الإعلامي والثقافي، والأمور تقدر بقدرها.. وسيبقى فقه هذه الأقليات الإسلامية مطلبًا ملحًا، بحيث يشكل حماية للمسلمين، بقدر ما يشكل دليل تعامل مع المجتمعات التي يعيشون فيها.

أما إذا تعارض التجنس مع الدين، وكان من شروطه التنازل عن العقيدة والعبادة، والتنكر لقيم الإسلام والإنكار لها، فهذا له شأن آخر وفتوى أخرى، قد تحكمها الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، بلا بغي ولا عدوان.
والمطلوب أن نأخذ حذرنا، ونستشرف مستقبلنا، ونطرح السؤال الدائم: إلى أي مدى يمكن أن يؤدي منح هذه الجنسيات إلى التذويب المستقبلي للأجيال، أو يحقق ويسهل بعض الحقوق والمواقع الإيجابية لنشر الإسلام، والإغراء باعتناقه، وإثارة الاقتداء بأهله، بحيث لا تبقى الأقليات المسلمة جسمًا غريبًا ? وأعتقد أن مثل هذه القضية، لا يمكن أن تحكمها فتوى عامة، وإنما لكل حالة حكمها، ولكل واقع ظروفه.. والخشية كل الخشية أن تتحول هذه الجنسيات إلى معابر غزو إلى مجتمعات الإسلام والمسلمين لإلحاق الضرر بأهلها، واستلابهم ثقافيًا. والقضية أولاً وأخيرًا مرتبطة بالمسلم نفسه، ومدى إدراكه لرسالته ومجتمعه، وكونه في مستوى إسلامه وعصره معًا، وبذلك يصبح قادرًا وفاعلاً في كل الظروف، وليس كَلاًّ على نفسه ومجتمعه وأمته وانتمائه.. ويتأكد دور المسلم وفاعليته أكثر فأكثر في مرحلة تحول العالم من المادة الجغرافيا السياسية إلى المادة الجغرافيا الثقافية -كما أسلفنا- والتوجه نحو العولمة وصراع الثقافات أو حوار الثقافات، وما يمكن أن يكون من دور للأقليات المسلمة كمواقع متقدمة في الثقافات والحضارات الأخرى، تحمل لها الخير، وتلحق بها الرحمة، وتقنع أهلها أن الإسلام أصلاً ليس دينًا عرقيًا أو طائفيًا، وإنما هو دين الإنسانية جمعاء.

وبعـد :
فلا شك أن دراستنا لدعوات الإصلاح والتجديد والتغيير، تمنحنا الحس النقدي، وتمكنا من تحديد أسباب القصور ومواطن التقصير، وإعادة تقويم الواقع بقيم الكتاب كامل والسنة، كما تمنحنا القلق السوي الذي يعتبر بمثابة المحرض الحضاري، والحس بالتناقض بين الواقع القائم والمثال الغائب، كما تحقق لنا -في إطار كيفيات التعامل والنهوض- الاطلاع على التجارب السابقة التي خضعت للاختبار رائع المادة التاريخي، فنضيف عقولاً إلى عقلنا، وتجارب إلى تجاربنا، وتبصرنا بمدى سلامة وسائلنا وجدواها، وتحقق لنا العبرة والعظة، وتمنحنا الوقاية، حتى لا نُلدغ من جُحر مرتين.
ولا تعني دراستنا لدعوات الإصلاح والتجديد والتغيير، حصر أنفسنا في إطار الزمان والمكان والمشكلات التي كانت مطروحة في ذلك الزمان، والتي تتغير وتتبدل، وإنما تعني التعرف على المنهج وطريقة التعامل وردود الأفعال، واكتناز الخبرات التي صقلها المادة التاريخ.
ولابد أن ندرك أن صوابية وسائل بعض دعوات الإصلاح، وصلاحها لعصر ماض، لا يعني بالضرورة صوابيتها وصلاحها لكل عصر، فلكل زمان مشكلاته وقضاياه ومتغيراته، التي لابد أن تستدعي تغيير الوسائل كلها، التي لم تعد تنفع لمواجهة المتغيرات، بما في ذلك الأشكال التنظيمية والإدارية نفسها، إذا اقتضى الأمر ذلك، والتي جاء تكوينها طبقًا لرؤية ظرفية معينة.
وهذا الكتاب كامل: يقدم ملامح رئيسة ومحطات بارزة عن منهجيةٍ وتجربةٍ في الإصلاح، تعتبر من أغنى' تجارب دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير في العصر الحديث، كان لها الدور الأهم في الاحتفاظ بعروبة الجزائر وإسلامها، أو بعبارة أدق: بهويتها، وبناء جيل التحرير وجيش التحرير.. تلك التجربة التي شكلت عمقًا مادة التاريخيًا في الضمير الجزائري والإسلامي، وتركت بصماتها التي لاتزال مستمرة على الشخصية الجزائرية، والتي تشكل رؤية لابد منها، لفهم الكثير من الخلفيات والتداعيات التي تمر بها حركات الإصلاح والتجديد في مغرب العالم الإسلامي ومشرقه على السواء.
وتبقى تجارب الإصلاح والتجديد تجارب بشرية غير معصومة، يجري عليها الخطأ والصواب، تحقق لنا العظة والعبرة، وتمنحنا الوقاية، وتبصِّرنا بمحاولات تنزيل القيم الإسلامية على الواقع المعيش، بكل ظروفه ومشكلاته.. لكن لابد من التنبه إلى أن فترة السيرة المسددة بالوحي، تبقى هي النموذج مقترح والمعيار ودليل الاهتداء لكل السائرين على الطريق، في كل زمان ومكان.
والحمد لله من قبل ومن بعد.

مقدمـة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، بعثه الله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، هاديًا إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، صلى الله عليه وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعـد:

فإن الدارس للمادة التاريخ الإسلامي، والمطلع على أسراره، يدرك بوضوح العــداوة المستمــرة لهـذا الـدين، يقـول تعـالــى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا )(البقرة:217). فالصراع معهم مستمر، وقديم قدم هذا الدين.

فمنذ أن أشرقت أنوار الحق في ربوع الجزيرة مادة اللغة العربية، انطلق هذا المسلسل في حلقات مازالت تلاحقنا إلى اليوم، ورغم سماحة الإسلام وحسن معاملته لأهل الذمة، إلا أن هولاء ما فتئوا يتربصون به الدوائر.

فقد غدر اليهود بالمسلمين في المدينة المنورة (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار )(الحشر:21).

وازداد هذا الصراع ضراوةً حين بدأ الإسلام يتجاوز حدود الجزيرة مادة اللغة العربية، فحاول الفرس والروم ضربه وإيقاف مدّه، فتحطمت قوتهم على صخرة الحق المبين، ولم يهدأ أعداء الإسلام من الكيد له، وكلّما أرادوا به شرًا قيض الله لهم من عباده الصالحين من يشرّد بهم، لتبقى كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.. وما الحـــروب الصليبيـة المتعاقبــة، إلا لون من ذلك الصراع المتواصل بين الحق والباطل.

وفي كل مرة يبعث الله من يجدّد أمر هذا الدين، الذي قضى بخلوده. وما حدث للشعب الجزائري -الذي ابتلي بأعتى استعمار- دليل على ذلك.

والمتتبع لمادة التاريخ الجزائر القريب، تظهر أمامه بجلاء مكانة الدين في نفوس أهلها، وقد عَضوا عليه بالنواجذ، كما تظهر كذلك في مخططات الاستعمار الفرنسي، الذي عقد العزم على إنهاء مهمة الإسلام في تلك الربوع.

وقد أدى إصرار الصليبيين الفرنسيين على إزالة الإسلام من أمامهم، إلى إصرار المسلمين الجزائريين على دينهم وعقيدتهم.. وتظهر روح الحقد الدفين على الإسلام، في الكلمات التي قالها سكرتيـر الجنرال بيجو Bugeaud حاكم الجزائر: (إن أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا أن نشك في أن هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا أن نشك بأي حال من الأحوال أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد).

وقد انتهجت فرنسا تجاه الجزائر سياسة لو تحققت لربما كان مادة التاريخ الجزائر قد كُتب على نحو آخر.

فقد تدهورت الحالة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية للمجتمع الجزائري، فحلّت اللغة المادة الفرنسية محل اللغة مادة اللغة العربية، وحوصر الدين في أضيق نطاق، وما بقي منه عَبَثَ به أصحابُ الطرق الصوفية المنحرفة، الذين خدّروا الشعب بنشر الخرافات والبدع بما لهم من سلطان على الأرواح والأبدان.

ولكن حكمة الله اقتضت أن يقيّض لهذا الشعب من يجدّد له أمر دينه، ويعود به إلى المنابع الأصيلة لهذا الدين الحنيف، فظهر الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس، رائدًا للحركة الإسلامية الحديثة في الجزائر، فكان نعمةً منَّ الله بها على هذا الشعب المسلم في عسره وشدائده، وشعلة من نور أضاءت طريقه خلال حوالك الظلمات. فانطلق رحمه الله، معتمدًا على الله، مستنيرًا بكتاب كامل الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، يعلّم جيلاً كادت تغمره ظلمات الجاهلية، ويربي أمة أراد الاستعمار أن يُنصرّها، فأبت إلا أن تكون إسلامية، ويكافح أمية ألقت على الشعب أوحالاً من التبعية، ويعالج أمراضًا اجتماعية يغذيها استعمار طال ليله.

من هنا ندرك ثقل الأمانة التي تصدّى ابن باديس لحملها، والغاية التي ضحى من أجلها، فكان رحمه الله قدوة لأهل العلم، ونارًا على المستعمر وأتباعه، وخزيًا لأهل البدع والأهواء.

ويعتبر الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس عَلَمًا من أعلام الإسلام وأحد كبار المصلحين في القرن العشرين، وآثاره مازالت زادًا علميًا وثقافة لطلاب العلم والمعرفة.

وإن إبراز جهوده في المحافظة على الشخصية مادة اللغة العربية الإسلامية للشعب الجزائري، ومنهجه في تربية تلك الأجيال التي صارعت المستعمر، مسؤولية كبرى تقع على عاتق الباحثين من أجل التعريف بهذا العالِم الجليل.

وهذه الدراسة تهدف إلى إبراز الجهود، واستخلاص الآراء التربوية للإمام ابن باديس، من خلال ما جُمِعَ من آثاره، كما تهدف أيضًا إلى إبراز محاسن آرائنا التربوية، وإظهار أصالتنا الإسلامية في هذا المجال.

ولا شك أن للإمام عبد الحميد بن باديس جهودًا فكرية في مجالات شتى، لكننا نقتصر في بحثنا هذا على جهوده في مجال التربية والتعليم، راجين من المولى العلي القدير أن يوفق ويعين.

هذا وقد حاولتُ طيلة البحث التزام الدقة فيما أوردته، والموضوعية فيما ذهبتُ إليه، مدعمًا ذلك كله بالأمثلة والشواهد من آثار ابن باديس.

وقد اعتمدت في استخراج الآراء التربوية على مصادر رئيسة، منها:

1- آثار الإمام عبد الحميد بن باديس (الجزأين الأول والثاني).
2- مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، وأرمز إليه بـ: (مجالس التذكير ـ التفسير).
3- مجالس التذكير من حديث البشير النذير، وأرمز إليه بـ (مجالس التذكير ـ الحديث).

وذلك لأنها تمثل المنهج الحقيقي لابن باديس، ولاحتوائها على أهم عناصر البحث.

الفصل الأول : المجتمع الجزائري في عصر ابن باديس العرب والبربر في الجزائر

إن البربر شعوب متعددة القبائل، تنتهي في رأي النسابة إلى جذرين أصليين: (البرانس) و(البتر)، وينتهي البرانس والبتر معًا إلى (مازيغ ابن كنعان، من نسل حام بن نوح، عليه السلام، ويذكر ابن خلدون أنهم -البربر- من بني برّ بن قيس بن عيلان، وهي قبيلة مضرية، فهم إذن ساميون عرب، وكان دينهم دين المجوسية.

ومع وصول قوافل العرب الفاتحين في القرن الأول الهجري، بدأ المغاربة يدخلون في دين الله أفواجًا، وكان لهؤلاء الفاتحين الأوائل، أمثال عقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار، دور عظيم في نشر الإسلام في تلك الربوع، (كما ترك موسى بن نصير سبعة عشر فقيهًا بالمغرب، وأرســل عمـر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعثة إلى المغرب تضم عشرة من فقهاء التابعين).

وقد ثبت الأمازيغ على عقيدة الإسلام بعد فترة قصيرة من الزمن، فما كاد ينتهي القرن الأول إلا وهم ثابتون على عقيدة الإسلام.

وما الجهــود التي قدمهــا (البربــر) في فتـح الأندلس بقيـــادة طــارق ابن زياد البربري، إلا دليل على وجود مد إسلامي قوي بينهم. وامتزج العرب والبربر مع مرّ القرون، وتكوّن منهم جنس، أُمُّهُ الجزائر وأَبُوهُ الإسلام، كما يحلو للإمام ابن باديس أن يصفهم، إذ يقول: (إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ، وحّد بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنًا، ثم دأبت تلك القرون تمزج بينهم في الشدة والرخاء، حتى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرًا مسلمًا جزائريًا، أمّه الجزائر وأبوه الإسلام).

وقد أقبل البربر على دين الله، وتشرّبوا وأُشربوا حُبه، وتثقفوا بثقافته، وتحصنوا بعقيدته، فأصبحوا ركنًا من أركانه يذودون عنه باللسان والقلم والسيف.

واليوم لا يمكن التمييز بين هاتين الطائفتين أبدًا، فلا طرائق المعيشة ولا اللغة يمكن أن يستخلص منها أساس لمثل هذا التمييز، ناهيك عن عقيدة التوحيد التي ألّفت بين قلوبهم.

ولقد اتضحت آيات اتحادهم جلية، وبرهن الشعب الجزائري في أحلك الأوقات أنه شعب واحد، لا يرضى بغير الإسلام دينًا، فهبّ منذ وطئت أقدام المستعمر بلاده يقاوم ويحارب جحافل الغزاة.

وعلى الرغم من أهمية الإحاطة بالحالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الجزائري، التي مهدت لظهور الحركة الإصلاحية، إلا أننا سوف نركّز على الحالة الثقافية والفكرية، لأنها الصورة الأكثر دقة وتعبيرًا عن الواقع بكل أبعاده تقريبًا.

الحالة الثقافية والفكرية العوامل الثقافية والدينية التي أثرت في فكر ابن باديس
أولاً: الحالة الثقافية والفكرية في الجزائر قبل الاحتلال:
إن انتشار المدارس والمعاهد والزوايا في مختلف نواحي الجزائر خلال تلك الفترة، دليل على أن الحياة الفكرية والثقافية كانت مزدهرة بها.

وقد اشتهرت مدن قسنطينة والجزائر وتلمسان وبلاد ميزاب في الجنوب بكثرة المراكز التعليمية، وكان يقوم عليها أساتذة وعلماء مشهود لهم بعلو المكانة ورسوخ القدم في العلم والمعرفة، مثل الشيخ (الثميني) في الجنوب، والشيخ (الداوودي) في تلسمان، والشيخ (ابن الحفّاف) بالعاصمة، والشيخ (ابن الطبّال) بقسنطينة، والشيخ (محمد القشطولي) في بلاد القبائل، وغيرهم كثير ممن تفرّغوا للتدريس ونشر العلم.

وكان من نتائج هذا الانتشار الواسع لمراكز التربية والتعليم، أن أصبحت نسبة المتعلمين في الجزائر تفوق نسبة المتعلمين في فرنسا، (فقد كتب الجنرال فالز سنة أولى834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة والكتاب كاملة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية... أما الأستاذ ديميري، الذي درس طويلاً الحياة الجزائرية في القرن التاسع عشر، فقد أشار إلى أنه قد كان في قسنطينة وحدها قبل الاحتلال خمسة وثلاثون مسجدًا تستعمل كمراكز للتعليم، كما أن هناك سبع مدارس منت التعليم الابتدائية ومن التعليم الثانوية يحضرها بين ستمائة وتسعمائة طالب، ويدرّس فيها أساتذة محترمون لهم أجور عالية).

وقد أحصيت المدارس في الجزائر سنة أولى830م، بأكثر من ألفي مدرسة ما بين منت التعليم الابتدائية ومن التعليم الثانوية وعالية.

وكتب الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر ديسمبر 1831م، يقول: (لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتاب كاملة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب).. وخير المثال ما شهد به الأعداء.

وقد برز في هذه الفترة علماء في كثير من العلوم النقلية والعقلية، زخرت بمؤلفاتهم المكتبات العامة والخاصة في الجزائر، غير أن يد الاستعمار الغاشم عبثت بها سلبًا وحرقًا، في همجية لم يشهد لها المادة التاريخ المعاصر مثيلاً.

يقول أحد الغربيين واصفًا ذلك: (إن الفرنسيين عندما فتحوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم، كأنهم من صميم الهمج).

يظهر مما ذكرنا أنه كان للجزائر مكانها المرموق بين أقطار المغرب في خدمة علوم مادة اللغة العربية والإسلام، كما قدّمت للميدان أعلامًا من رجالها، حملوا الأمانة، وكانت تُشدُّ إليهم الرحال في طلب العلم.

ثانيًا: الحالة الثقافية والفكرية والدينية أثناء الاحتلال:

يمكن تقسيم الفترة الممتدة من دخول الاستعمار إلى ظهور دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى مرحلتين:

* المرحلة الأولى (1830-1900م):

لم تقتصر اعتداءات الاحتلال الفرنسي للجزائر على الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية فحسب، بل عمد إلى تدمير معالم الثقافة والفكر فيها، وقد ظهر حقده الصليبي في إصراره على تحطيم مقومات الأمة، وفي مقدمتها الدين الإسلامي واللغة مادة اللغة العربية، معتمدًا في ذلك على ما يلي:

1 - مصادرة الأوقاف الإسلامية:

كان التعليم في الجزائر يعتمد اعتمادًا كبيرًا على مردود الأوقاف الإسلامية في تأدية رسالته، وكانت هذه الأملاك قد وقفها أصحابها للخدمات الخيرية، وخاصة المشاريع التربوية كالمدارس والمساجد والزوايا.

وكان الاستعمار يدرك بأن التعليم ليس أداة تجديد خُلقي فحسب، بل هو أداة سلطة وسلطان ووسيلة نفوذ وسيطرة، وأنه لا بقاء له إلا بالسيطرة علىه، فوضع يده على الأوقاف، قاطعًا بذلك شرايين الحياة الثقافية.

جاء في تقرير اللجنة الاستطلاعية التي بعث بها ملك فرنسا إلى الجزائر يوم 7/7/1833م ما يلي: (ضممنا إلى أملاك الدولة سائر العقارات التي كانت من أملاك الأوقاف، واستولينا على أملاك طبقة من السكان، كنا تعهدنا برعايتها وحمايتها... لقد انتهكنا حرمات المعاهد الدينيــة ونبشنــا القبــور، واقتحمنــا المنـازل التي لهـا حُرْمَتهـا عنـد المسلمين...).

2- التضييق على التعليم العربي :

أدرك المستعمر منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر، خطورة الرسالة التي تؤديها المساجد والكتاتيب والزوايا، في المحافظة على شخصية الأمة.

فلم تكن هذه المراكز قاصرة على أداء الشعائر التعبدية فحسب، بل كانت أيضًا محاضر للتربية والتعليم وإعداد الرجال الصالحين المصلحين، لذلك صبّت فرنسا غضبها عليها بشدة، فعمدت إلى إخماد جذوة العلوم والمعارف تحت أنقاض المساجد والكتاتيب والزوايا، التي دُمّرت فلم تبق منها سوى جمرات ضئيلة في بعض الكتاتيب، دفعتها العقيدة الدينية، فحافظت على لغة القرآن ومبادئ الدين الحنيف في تعليم بسيط وأساليب بدائية.

فقد حطم الفرنسيون في 18/12/1832م جامع كتشاوه، وحوّلوه بعد تشويه شكله وتغيير وضعيته إلى كاتدرائية، أُطلق عليها اسم القديس فيليب Cathedrale Saint Philipe ، والشيء نفسه وقع لمسجد حسن باي بقسنطينة غداة سقوطها بأيديهم(2) سنة أولى837م.. هكذا اختفت كثير من الكتاتيب القرآنية ومدارس التعليم الإسلامي، التي كانت مزدهرة قبل الاحتلال الفرنسي.

كما طالت يد الحقد الصليبي المكتبات العامة والخاصة، حيث أحــرق جنــود الجنــرال دوق دومـال Dauk Daumale مكتبــة الأميــر عبد القادر الجزائري بمدينة تاقدامت في ربيع الثاني 1259هـ، 10 مايو 1843م، وكان فيها من نوادر المخطوطات ونفائس المؤلفات ما لا يقدر بثمن، ونفس المصير واجهته معظم المكتبات الأخرى.

إن هذه الحرب الشعواء التي شنها الاستعمار على الدين الإسلامي واللغة مادة اللغة العربية، جعلت التعليم في الجزائر يصل إلى أدنى مستوى له، فحتى سنة أولى901 -أي بعد حوالي 70 سنة من الاحتلال- كانت نسبة المتعلمين من الأهالي لا تتعدى 3.8%، فكادت الجزائر أن تتجه نحو الفرنسة والتغريب أكثر من اتجاهها نحو العروبة والإسلام.

وقد تأثرت الحياة الفكرية والدينية في هذه الفترة ببعض العوامل الأخرى، نذكر منها ما يلي:

أ- الطرق الصوفية:

من الإنصاف أن نذكر هنا الدور الإيجابي الذي قامت به بعض الطرق الصوفية منذ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، فقد ساهمت بعض زواياها في نشر الثقافة مادة اللغة العربية الإسلامية، كما قام كثير من رجالاتها بالتصدي للاستعمار والاستبسال في محاربته.

فقد كان الأمير عبد القادر الجزائري راسخ القدم في التصوف، وكان الشيخ الحداد -أحد قادة ثورة القبائل الكبرى عام 1871م- قد انتهت إليه مشيخة الطريقة الرحمانية في وقته، إلا أن كثيرًا من الطرق قد انحرفت في ما بعد عن الخط العام الذي رسمه مؤسسوها الأوائل، فكثرت عندها البدع والضلالات والخرافات، وتقديس القبور والطواف حولها، والنذر لها، والذبح عندها، وغير ذلك من أعمال الجاهلية الأولى. كما أنه كانت لبعض رجالاتها مواقف متخاذلة تجاه الاستعمار، حيث سيطرت هذه الطرق على عقول أتباعها ومريديها، ونشرت بينهم التواكل والكسل، وثبّطت هممهم في الاستعداد للكفاح من أجل طرد المحتل الغاصب، بدعوى أن وجود الاحتلال في الجزائر هو من باب القضاء والقدر، الذي ينبغي التسليم به، والصبر عليه، وأن طاعته هي طاعة لولي الأمر.

بهذه الروح المتخاذلة والتفكير المنحرف، كانت بعض الطرق سببًا في إطالة ليل الاستعمار المظلم في البلاد من جهة، وتفرق صفوف الأمة وضلالها في الدين والدنيا من جهة أخرى.

ب- انتشار الجهل والأمية :

لقد أدّت الثورات المتتالية التي خاضها الشعب ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم، إلى فقدان الأمة لزهرة علمائها في ميدان الجهاد.

كما أن كثيرًا من المستنيرين من حملة الثقافة مادة اللغة العربية الإسلامية هاجروا إلى المشرق العربي، وإلى البلاد الإسلامية الأخرى، يتحيّنون الفرص للرجوع إلى الوطن وتطهيره من سيطرة الفرنسيين، كل ذلك ساهم في انتشار الجهل وتفشي الأمية بين أفراد الأمة، مما أثّر سلبًا على الحياة الفكرية في تلك الفترة.

ج- المدارس البديلة التي أنشأها الاستعمار :

لم تفتح هذه المدارس في حقيقة الأمر من أجل تعليم أبناء الجزائر، ورفع مستواهم الثقافي، بل كان الاستعمار يقصد من وراء ذلك عدة أمور، منها:

- تجريد الشعب الجزائري من شخصيته مادة اللغة العربية الإسلامية، ومحاولة إدماجه وصهره في البوتقة المادة الفرنسية بإعطائه تعليمًا هزيلاً يجعله أسهل انقيادًا لسياسته.

- قتل الروح الوطنية التي أدت إلى اشتعال الثورات المتوالية، وجعل الشعب أكثر خضوعًا للاحتلال.

- إيجاد قلة متعلمة للاستفادة منها في بعض الوظائف التي تخدم الاحتلال.

فقد أنشأت فرنسا لهذا الغرض عدة مدارس منت التعليم الابتدائية، منها المدارس (الفرنسوية الإسلامية Franco-Musulmane ، في الجزائر العاصمة وبعض المدن الأخرى ابتداءً من سنة أولى836م.

ولم تكن هناك مدارس للتعليم المن التعليم الثانوي والعالي إلا بحلول القرن العشرين، حيث فتحت المدرسة الثعالبية في عهد الحاكم الفرنسي (جونار) سنة أولى904م، رغم أن مرسوم إنشائها صدر منذ سنة أولى850م.

د- هجر الأهالي للمدارس المادة الفرنسية :

كان الأهالي يتخوّفون كثيرًا من التعليم الرسمي المقصور على تعلّم اللغة المادة الفرنسية وحضارتها، إذ رأوا فيه وسيلة خطيرة لفرنسة أبنائهم، فكان الإقبال على هذه المدارس ضئيلاً جدًا.. ومع عدم وجود المدارس الحرّة الكفيلة باحتضان أبناء المسلمين، فإن نسبة الأمية ارتفعت إلى درجة مذهلة، كما مر بنا آنفًا.

كل هذه العوامل ساهمت بطريقة أو بأخرى في انتشار الجهل والأمية بين أفراد الشعب، مما جعل الحالة الثقافية والفكرية والدينية في تلك الفترة تبعث على الحزن والأسى.

* المرحلة الثانية (1900-1914م):

الأمة الجزائرية هي قطعة من المجموعة الإسلامية العظمى من جهة الدين، وهي ثلة من المجموعة مادة اللغة العربية، من حيث اللغة التي هي لسان ذلك الدين.

فالأمة الإسلامية بهذا الدين وهذا اللسان وحدة متماسكة الأجزاء، يأبى الله لها أن تتفرق وإن كثرت فيها دواعي الفرقة، ويأبى لها دينها، وهو دين التوحيد، إلا أن تكون موحدة.

فعلى الرغم من الحصار الذي فرض رائعته فرنسا على الجزائر لعزلها عن بقية الأقطار الإسلامية، خاصة تلك التي لم تُبْتَل بما ابتليت به من محاولة طمس دينها ولغتها، فإنه مع إطلالة القرن العشرين بدأت الجزائر تعيش حركة فكرية شبه متواصلة مع الأقطار الإسلامية الأخرى، سواء عن طريق الطلبة الذين ابتعثوا للدراسة في جامع الزيتونة والأزهر والجامعات الإسلامية الأخرى، أو عن طريق الدعوات الإصلاحية التي قامت في البلاد الإسلامية، مثل دعوة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

وهناك عوامل أخرى ساعدت على قيام هذه الحركة الفكرية، كتلك البوادر الإصلاحية الفردية التي قام بها في الجزائر بعض العلماء المتفاعلين مع حركة الإصلاح الإسلامي.. ولعل مما ساعد على قيام هذه النهضة أيضًا، تولي المسيو (شارل جونار) الولاية العامة في الجزائر.

وهنا نلقي بعض الضوء على جانب من تلك العوامل التي ساهمت في ظهور وانتعاش النهضة الفكرية في الجزائر:

1- عودة الطلبة الذين درسوا في الخارج:

وأقصد بهم الطلبة الذين درسوا في جامع الزيتونة، وجامعة القرويين، والأزهر، وفي الحجاز والشام.

ساهم هؤلاء المثقفون بعد عودتهم إلى الوطن بجهود عظيمة في النهوض بالحياة الفكرية والدينية، بما أثاروا من همم وأحيوا من حمية، وبنوا من مدارس في مختلف أنحاء الوطن، وبما أصدروا من صحف، معتمدين في ذلك على كتاب كامل الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، فأصلحوا العقائد، وصححوا المفاهيم، ونقّوا الأفكار من رواسب البدع والخرافات التي علقت بها، وأحيوا الشعلة التي أخمدها الاستعمار في نفوس الأمة.. ويوم اسوداد المآزم وتلاحم الخطوب، أعادوا ذكرى أسلافهم في الصبر والصمود.. ومن هؤلاء الرواد الذين ساهموا في إثراء هذه النهضة الفكرية الإسلامية بالجزائر نذكر:

- الشيخ عبد القادر المجاوي [1848-1913م]:

تخرج الشيخ المجاوي من جامعة القرويين بمدينة فاس، ويعتبر من العلماء القلائل الذين كانــوا على رأس الحركــة الإصلاحيــة في الجزائــر، (فلا تجد واحــدًا من هــؤلاء (المصلحين) في الربع الأول من هــذا القــرن إلا وهو من تلامذته).. خرّج أفواجًا كبيرة من المدرسين والأئمة والوعاظ والمترجمين والقضاة، كان من بينهم الشيخ (حمدان الونيسي) أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس.. وقد ترك الشيخ المجاوي آثارًا علمية كثيرة في اللغة والفلك والعقيدة والتصوف، نذكر منها: كتاب كامل (الدرر النحوية)، و(الفريدة السنيَّة في الأعمال الحبيبية)، و(اللمع في إنكار البدع)، و(نصيحة المريدين)، وغيرها مما يضيق المقام بسردها.

ومن بين رواد النهضة الإسلامية في تلك الفترة أيضًا العلامة:

- الشيخ عبد الحليم بن سماية [1866-1933]:

يعتبر الشيخ ابن سماية في مقدمة الأفاضل الذين أمدوا هذه النهضة بآثار فضلهم، ومن أوائل المصلحين الجزائريين الداعين لفكرة الإمام محمد عبده الإصلاحية، ومن رفاق الشيخ المجاوي في التدريس، كما يعدّ من أوسع علماء عصره علمًا وثقافة. (فقد تخرّج على يديه جيل من المثقفين مزدوجي الثقافة، وخلّف مؤلفات كثيرة منها كتاب كامل (فلسفة الإسلام).

ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن أغلب أعضاء البعثات العلمية التي ذكرنا سابقًا، قد ظهر تأثيرهم على الحياة الفكرية والحركة الإصلاحية بشكل ملحوظ، في العقدين الثالث والرابع من هذا القرن خاصة، مثل: الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ مبارك بن محمد الميلي، وغيرهم.

2- الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي :

كان للدعوة التي قادها الأستاذ جمال الدين الأفغاني أثر كبير في نشر الفكر الإصلاحي السلفي في الجزائر، فرغم الحصار الذي ضربه المستعمر لعزلها عن العالم الإسلامي، زار الشيخ محمد عبده -تلميذ الأستاذ جمال الدين- الجزائر عام 1903م، واجتمع بعدد من علمائها، منهم الشيخ محمد بن الخوجة، والشيخ عبد الحليم بن سماية، كما ألقى في الجزائر تفسير سورة العصر. وقد كان لمجلة العروة الوثقى ومجلة المنار، تأثير كبير على المثقفين من أهل الجزائر، الذين اعتبروا دروس مفصلة العقيدة التي كانت تنشرها (المنار) للإمام محمد عبده، بمثابة حبل الوريد الذي يربطهم بأمتهم.

وقد استمر الاتصال الفكري بين الجزائر وغيرها من البلاد الإسلامية ولم ينقطع، فقد شارك الشيخ عمر بن قدور بقلمه في جريدة (الحضارة) بالآستانة، و(اللواء) و(المؤيد) بمصر سنة أولى914م، وقد كانت هذه الجرائد والمجلات تدعو إلى نهضة العرب والمسلمين، وكانت رائجة في بلاد المغرب والجزائر خاصة.

ويعترف الفرنسيون بأن هناك (مجرى سريًا، ولكنه غزير ومتواصل، من الصحف والمجلات الشرقية التي أعانت المغاربة في مجهوداتهم الإصلاحية، وجعلتهم مرتبطين أبدًا بالرأي العام العربي).

3- ظهور الصحافة مادة اللغة العربية الوطنية في الجزائر:

ظهرت في الجزائر خلال تلك الفترة صحافة وطنية عربية، ساهمت مساهمة فعالة في بعث النهضة الفكرية والإصلاحية الحديثة.

فقد عالجت في صفحاتها كثيرًا من الموضوعات الحساسة، منها: الدعوة إلى تعليم الأهالي، وفتح المدارس مادة اللغة العربية لأبناء المسلمين، والتنديد بسياسة المستعمرين واليهود، ومقاومة الانحطاط الأخلاقي والبدع والخرافات. فهذا الأستاذ عـمـر راســم يجلجــل بآرائــه في غيــر مواربـة ولا خوف، فيقول: (أجل، يجب أن نتعلم لكي نشعر بأننا ضعفاء.. يجب أن نتعلم لكي نعرف كيف نرفع أصواتنا في وجه الظلم.. يجب أن نتعلم لكي ندافع عن الحق، وتأبى نفوسنا الضيم، ولكي نطلب العدل والمساواة بين الناس في الحقوق الطبيعية، وفي النهاية لكي نموت أعزاء شرفاء ولا نعيش أذلاء جبناء).

كما ظهر في هذا الميدان كتّاب شاركوا بمقالاتهم وتحليلاتهم في تشخيص الداء الذي ألمّ بالأمة، واقتراح الدواء الناجع لذلك، من هؤلاء الشيخ المولود بن الموهوب، والشيخ عبد الحليم بن سماية، والأستاذ عمر بن قدور وغيرهم.

4- تولي (شارل جونار) الولاية العامة في الجزائر:

على الرغم من أن المسيو (جونار) فرنسي نصراني، إلا أن وصوله إلى منصب الحاكم العام في الجزائر، كان له أثر كبير على الحياة الفكرية في تلك الفترة.

يُذكر أن هذا الأخير (شجّع إحياء فن العمارة الإسلامية، وبعْث التراث المكتوب، والتقرّب من طبقة المثقفين التقليديين، وتشجيعهم على القيام بمهمتهم القديمة، كإقامة الدروس مفصلة في المساجد ونحوها)، كما اهتم بالتأليف ونشر الكتب العلمية وكتب التراث، مما كان له أثر هام على الحياة الثقافية في الجزائر.

وقد أشرف (جونار) على فتح المدرسة الثعالبية سنة أولى904م، بجوار مقام (سيدي عبد الرحمن الثعالبي) في حي القصبة بالعاصمة الجزائرية، وندب اثنين من الشيوخ للتدريس ونشر العلم بها، كما أمر بنشر كتاب كاملين هامين، أحدهما كتاب كامل: (تعريف الخلف برجال السلف)، الذي صنّفه الشيخ أبو القاسم الحفناوي وطبعه سنة أولى907م، والكتاب كامل الثاني: (البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان)، لابن مريم الشريف التلمساني، الذي تولى إعداده للنشـر الأستاذ (محمد ابن أبي شنب)، المدرِّس بالمدرسة الثعالبية الدولية، وطبع سنة أولى908م برعاية المسيو (جونار).

هذه باختصار أهم العوامل التي ساعدت على قيام تلك الحركة الفكرية الإصلاحية بالجزائر، في الفترة التي ظهر فيها الشيـخ عبد الحميد ابن باديس.

وبهذا العرض المتواضع، تتضح لنا طبيعة الوسط الثقافي والفكري الذي تربى وترعرع فيه الشيخ ابن باديس، ويبقى أن نتعرف على شخصية الشيخ وأسرته ونشأته، ورحلاته، وشيوخه، ومكانته العلمية.


الفصل الثاني : حياة الشيخ ابن باديس المبحث الأول : التعريف بالشيخ ابن باديس
مـولـده : ولد الشيخ عبد الحميد بن باديس بمدينة قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري، في ثاني الربيعين من سنة أولى307هـ، الموافق لليلة الجمعة 4 ديسمبر عام 1889م.

والـداه: والده هو السيد محمد المصطفى بن مكي بن باديس، حافظ للقرآن الكريم.. كان يشتغل بالتجارة والفلاحة، يعدّ من أعيان مدينة قسنطينة وسراة أهلها، عُرف بدفاعه عن حقوق المسلمين في الجزائر.. توفي سنة أولى951م. أما أمّه فهـي السيـــدة زهيـــرة بنت علـــي ابن جلول، من أسرة اشتهرت بالعلم والتدين.

أسرتـه : أسرة ابن باديس مشهورة في شمالي إفريقيا، نبغ فيها عظماء الرجال، وكانت تجمع بين العلم والجاه.. تنحدر هذه الأسرة من العائلة الصنهاجيّة، التي سطع نجمها في ميدان الإمارة والملك بالمغرب الأوسط في القرن الرابع الهجـــري، كان منهـــا الأميــر زيـــري بن منّـــــاد ابن منقوش، أمير صنهاجة التليّة، ثم ابنه يوسف بن زيري الملقب (بولغين)، الذي استخلفه المعز لدين الله الفاطمي على كامل المغرب بعد ارتحاله إلى مصر.

ومن رجالات هذه الأسرة المشهورين، الذين كان الشيخ عبد الحميد يفتخر بهم: المعز لدين الله بن باديس، الذي قاوم البدعة ودحرها، ونصر السنة وأظهرها، فأزال مذهب الشيعة الباطنية، وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا للدولة، وبالتالي انفصل عن الدولة الفاطمية بمصر، وكان ذلك في حدود سنة الرابعة04هـ، وقد توفي المعز لدين الله بن باديس في حدود سنة الرابعة54هـ.

من هذه النبذة القصيرة، تتضح لنا خصائص العائلة التي ينحدر منها ابن باديس، وعراقتها في ميادين الملك والعلم.


المبحث الثاني : نشأة ابن باديس وطلبه للعلم
أ- نشأته :
نشأ الإمام ابن باديس في أحضان تلك الأسرة العريقة في العلم والجاه، وكان والده بارًا به، فحرص على أن يربيه تربية إسلامية خاصة، فلم يُدخلْه المدارس المادة الفرنسية كبقية أبناء العائلات المشهورة، بل أرسل به إلى الشيخ المقرئ محمد بن المدّاسي، فحفظ عليه القرآن وتجويده، وعمره لم يتجاوز الثالثة عشر سنة.. نشأ منذ صباه في رحاب القرآن، فشبّ على حبه، والتخلّق بأخلاقه.

ثم ما لبث أن وجهه إلى المربّي الكبير والعالم الجليل الشيخ حمدان الونيسي، فتلقى منه العلوم مادة اللغة العربية والإسلامية ومكارم الأخلاق، وعليه واصل السماع والتلقي في قسنطينة، فنال إعجاب أساتذته بما أظهر من استقامة في الخُلُق، وطيبة في السيرة، وشَغَف كبير في طلب العلم.

ب- رحلاته في طلب العلم :

إن الرحلة في طلب العلم أمر شائع عند المسلمين، فقد رحل جابر ابن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس لأجل حديث واحد، وكذلك فعل كثير من الصحابة والتابعين.. ومن فضائل الارتحال أن العالِم يطوف ببلدان كثيرة، فيشاهد أحوال الشعوب وتقاليدها وعاداتها، واختلاف طبائعها، فيأخذ عن شيوخها وأعيانها، ويتلقى العلم عليهم، مما يؤدي إلى كثرة الاطلاع، ووفرة الثقافـــة.

والشيخ ابن باديس لم يكن بعيدًا عن هذه السنّة الحميدة، فما أن أحسّ أنه استوعب كثيرًا مما جاد به أستاذه الشيخ الونيسي، وعلم من عزم هذا الأخير على الهجرة، كان عليه أن يُواصل الطلب والتحصيل.. وبتشجيع من والده، ارتحل ابن باديس إلى تونس، متتبعًا ينابيع العلم والمعرفة، فأخذ هناك العلم من عظماء الزيتونة وفطاحلها.

1- رحلته إلى تونس :

مما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام، أنه في سنة أولى908م، هاجر الشيخ حمدان الونيسي إلى المدينة المنوّرة للاستقرار بها، فحاول تلميذه ابن باديس الالتحاق به فمنعه والده من ذلك، وكان عمره آنذاك تسعة عشر عامًا، غير أن والده كان حريصًا على إتاحة الفرصة أمام هذا الابن البار لإتمام دراسته، فأرسله إلى جامع الزيتونة بتونس، فكانت تلك أولى رحلاته إلى الخارج.. تلقى العلم في هذه الجامعة على المبرزين من علمائها، أمثال الشيخ محمد النخلي، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وغيرهم، وظل يأخذ عن شيوخه حتى استوفى الكثير مما عندهم من العلوم الإسلامية، طيلة أربع سنوات إلى أن أجازوه للتدريس، فمكث بعد تخرجه سنة أخرى للتدريس فيها، وكانت تلك عادة متبعة في كثير من الجامعات الإسلامية.

ولم يكتف الشيخ ابن باديس بتلك البرامج التي أهلته لنيل الشهادة العالمية، بل زاد في تحصيله خارج أوقات الدراسة إلى أن تشبّع بمختلف فروع المعارف الإسلامية، وكان لتوجيهات الشيخ النخلي الأثر الكبير في ذلك.

2- رحلته إلى المشرق :

عاد ابن باديس سنة أولى912م إلى الجزائر، وكّله عزم على بعث نهضة علميّة جديدة يكون أساسها الهداية القرآنية والهدي المحمّدي، والتفكير الصحيح، فانتصب يُحْيِي دوارس العلم بدروس مفصلةه الحية في الجامع الكبير بقسنطينة، عائدًا بالأمة المحرومة إلى رياض القرآن المونقة، وأنهاره العذبة المتدفقة، وأنواره الواضحة المشرقة.

ورغم ما للمفتي الشيخ المولود بن الموهوب من سبق في هذا الميدان، وجولات ضد البدع والانحراف، إلا أن الذي يحدث عادة بين الأقران من تنافس، دفعه للتصدّي لابن باديس، ومنعه من التدريس بالجامع الكبير، فتحوّل هذا الأخير إلى الجامع الأخضر للتدريس به، بعد توسّط والده لاستخراج إذن بذلك.

وفي موسم الحج لعام 1913م ارتحل ابن باديس إلى الديار المقدسة، لأداء هذا الركن، فالتقى هناك بأستاذه الأول الشيخ حمدان الونيسي، وكذلك التقى بعالم الهند الكبير الشيخ حسين أحمد المدني، كما التقى في المدينة المنورة بالشيخ البشير الإبراهيمي.

وقد ألقى الشيخ ابن باديس خلال الأشهر الثلاثة، التي قضاها هناك، دروس مفصلةًا عديدة في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم.. وأثناء عودته إلى الجزائر طاف بعدّة بلدان عربية، فزار سوريا ومصر، التي التقى فيها بالشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ أبي الفضل الجيزاوي.

وقد تميّزت هذه الرحلة بالنسبة للشيخ ابن باديس بحدثين هامين، كان لهما الأثر الكبير في توجهه ومستقبل عمله:

الحدث الأول: هو التقاؤه بالشيخ أحمد الهندي، الذي نصحه بالعودة إلى الجزائر وخدمة الإسلام فيها ومادة اللغة العربية بقدر الجهد، فحقق الله أمنية ذلك الشيخ بعودة ابن باديس إلى وطنه، وتفانيه في خدمة الدين واللغة، إلى أن تكوّنت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي كان أول رئيس لها، ثم واصل رفاقُ دَرْبِه المسيرةَ من بعده.

الحدث الثاني: هو التقاؤه بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رفيق دربه في الذّود عن الإسلام ولغة الإسلام في الجزائر.

فكانت لقاءات المدينة المنورة التي جمعت بينهما، هي التي وُضعت فيها الخطط العريضة لمستقبل العمل في الوطن، وحُددت فيها الوسائل التي تنهض بالجزائر نهضة شاملة، تهتك أستار الظلام، الذي فرض رائعه المستعمر على الأمة، عقودًا طويلة من الزمن.

هذه باختصار ملامح من البيئة التي نشأ وترعرع فيها ابن باديس، وحتّى تزداد الصورة وضوحًا، لابدّ لنا من التعرف على شيوخه الذين تربّى على أيديهم وأخذ عنهم العلم والمعرفة، وهو ما سنتعرف عليه في المبحث القادم إن شاء الله.


المبحث الثالث : شيوخ ابن باديس
يُرجِع ابنُ باديس الفضلَ في تكوينه العلمي إلى والده، الذي ربّاه تربية صالحة، ووجّهه وجهة سليمة، ورضي له العلم طريقًا يتبعه، ومشربًا يَرِدُهُ، ولم يشغله بغيره من أعباء الحياة، فكفله وحماه من المكاره صغيرًا وكبيرًا.

وكان أول معلّم له هو الشيخ محمد بن المدّاسي، أشهر مقرئي مدينة قسنطينة في زمانه، تلقى عليه القرآن فأتقن حفظه وتجويده.. أما أستاذه الذي علّمه العلم، وخط له مناهج العمل في الحياة، ولم يبخس استعداده حقّه، فهو الشيخ حمدان الونيسي: العالم العارف، الذي استطاع أن ينفذ إلى نفسية تلميذه، فيطبع حياته العلمية والعملية بطابع روحي وأخلاقي لم يفارقه طول حياته.

وقد ظل ابن باديس يذكر تأثير شيخه على نفسيته، فيقول عنه: إنه تجاوز به حد التعليم المعهود من أمثاله، إلى التربية والتثقيف والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة.

وفي جامع الزيتونة أخذ ابن باديس العلم عن المبرزين من الأساتذة والشيوخ، الذين كان لهم بالغ الأثر في تكوينه الفكري واتجاهه الإصلاحي، نذكر منهم على الخصوص:

1- الشيخ محمد الطاهر بن عاشو ر: الذي لازمه قرابة الثلاث سنوات، فأخذ عنه الأدب العربي وديوان الحماسة لأبي تمّام، يقول ابن باديس عن ذلك: (وإن أنسى فلا أنسى دروس مفصلةًا قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أوّل ما قرأت عليه، فقد حبّبتني في الأدب والتفقه في كلام العرب، وبثت فيّ روحًا جديدًا في فهم المنظوم والمنثور، وأحيت مني الشعور بعزّ العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام)، ولم يمنع ابن باديس هذا التقدير لشيخه والثناء عليه، من مخالفته وانتقاده في بعض فتاواه.

2- الشيخ محمد النخلي القيرواني: هو العالم الجليل وصاحب الفضل الكبير والعلم الغزير، أستاذ التفسير في جامع الزيتونة المعمور، استقى ابن باديس الحكمة من بحر الخير الذي كان يتدفق من صدر هذا العالم العامل، فكان لذلك أثر عميق في توجهه العلمي والعملي.. يقول ابن باديس عن شيخه: (كنت متبرّمًا بأساليب المفسرين، وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله... فذاكرتُ يومًا الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي: (اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط، ويبقى الصحيح، وتستريح)، فوالله لقد فتح الله بهذه الكلمات القليلة عن ذهني آفاقًا واسعة لا عهد له بها).. ويقــول عنه في موقــع آخــر: (ولا أكتمكم أني أخذت شهادتي في جامع الزيتونة في العشرين من عمري، وأنا لا أعرف للقرآن أنه كتاب كامل حياة، وكتاب كامل نهضة، وكتاب كامل مدنية وعمران، وكتاب كامل هداية للسعادتين، لأنني ما سمعتُ ذلك من شيوخي عليهم الرحمة ولهم الكرامة، وإنما بدأت أسمع هذا يوم جلست إلى العلامة الأستاذ محمد النخلي).

فللأستاذ النخلي يرجع الفضل في تحرير تلميذه من قيود التقليد الذي لا فكر فيه ولا نظر، ففتح الله له على يد هذا الأستاذ الفاضل أبواب العمل والمعرفة، ففهم قواعد الإسلام ومحاسنه، وعقائده وأخلاقه، وآدابه وأحكامه، فأشرقت دعوته تهتك أستار الظلام والجهل، وتشع بالنور والعلم.

3- الشيخ البشير صفر : الذي يعتبر من أبرز علماء تونس، ومن القلائل الذين جمعوا بين التعليم العربي الإسلامي والتعليم الغربي الأوروبي، مع إتقانه لعدة لغات حية.

اشتغل الأستاذ بشير صفر بالتدريس في جامع الزيتونة والمدرسة الخلدونية، وكان لسعة اطلاعه وتنوع ثقافته، يعدّ من أشهر أساتذة المادة التاريخ العربي والإسلامي فيها.. واعترافًا منه بفضل هذا الأستاذ الكبير عليه، يقول ابن باديس: (وأنا شخصيًا أصرح بأن كراريس البشير صفــر، الصغيرة الحجم، الغزيرة العلم، هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على مادة التاريخ أمتي وقومي، والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جنديًا من جنود الجزائر).

هؤلاء أهمّ الأساتذة الذين تلقى عليهم الشيخ ابن باديس العلوم مادة اللغة العربية والإسلامية، وهم الذين كان لهم الأثر الكبير في تكوينه وتربيته، فحبّبوا إليه الاتجاه الإصلاحي منذ كان طالبًا إلى أن صار ركنًا ركينًا للنهضة الإسلامية في الجزائر.

وإن كان هؤلاء الأساتذة قد أخذ عليهم -ابن باديس- العلم مباشرة، فإن له شيوخًا كان لمؤلفاتهم وآثارهم ومناهجهم الأثر الكبير في تكوينه الفكري ومنهجه الإصلاحي، ومن بين الذين عاصروه نخص بالذكر ما يلي:

1- الأستـاذ محمــد رشيــد رضـــا : الـذي خـصّـه ابن باديس بترجمة شاملة في أعداد مجلة الشهاب، أوضح فيها جوانب عظمة الأستاذ رشيد رضا، والجوانب التي تأثر بها، فيقول: (لقد كان الأستاذ نسيجَ وَحْدِهِ في هذا العصر، فقهًا في الدين، وعلمًا بأسرار التشريع، وإحاطة بعلوم الكتاب كامل والسنة، ذا منزلة كاملة في معرفة أحوال الزمان وسر العمران والاجتماع، وكفى دليلاً على ذلك ما أصدره من أجزاء التفسير، وما أودعه مجلة المنار في مجلداتها).

ويوضح ابن باديس ما للسيد رشيد من آثار على الحركة الإصلاحية الحديثة، فيقول: (فهذه الحركة الدينية الإسلامية الكبرى اليوم في العالم -إصلاحًا وهداية، بيانًا ودفاعًا- كلها من آثاره).

ومن خلال ما قدّمنا، يبدو أن ابن باديس قد تأثر بالأستاذ محمد رشيد رضا في جوانب من منهجه، خاصة: استقلاليته في التفكير، وأسلوبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعده عن الوظائف، فرحمهما الله جميعًا، وأسكنهما فسيح جناته.

2- الشيخ محمد بخيت المطيعي : يعد من المدرسة الإصلاحية الحديثة، وكان -على معارضته للشيخ محمد عبده في نواح- يؤيده في إنكار البدع والمحدثات في الدين.. وعن علاقته به، يقول الشيخ ابن باديس: (لما رجعت من المدينة المنورة، على ساكنها وآله الصلاة والسلام سنة أولى332هـ، جئت من عند شيخنا العلامة الشيخ حمدان الونيسي المهاجر إلى طيبة والمدفون بها -رحمه الله- جئت من عنده بكتاب كامل إلى الشيخ بخيت، وكان قد عرفه بالإسكندرية لما مرّ بها مهاجرًا. فعرّجت على القاهرة وزرت الشيخ بخيت بداره بحلوان، فلما قدّمت له كتاب كامل شيخنا حمدان، قال لي: (ذلك رجل عظيم)، وكتب لي إجازة في دفتر إجازاتي بخط يده، رحمه الله وجازاه عنا وعن العلم والدين خير ما يجزي العاملين الناصحين).

ولعله من الأهمية بمكان أن نذكر في هذا المبحث، العلامة الكبير السيد حسين أحمد الهندي الفيض آبادي، الذي كان الشيخ ابن باديس يذكره كثيرًا، ويرجع إليه الفضل في توجيهه إلى العمل في الجزائر، عندما التقى به في المدينة المنورة سنة أولى913هـ، فيقول: (أذكر أني لما زرتُ المدينة المنورة، واتصلت فيها بشيخي الأستاذ حمدان الونيسي، المهاجر الجزائري، وشيخي حسين أحمد الهندي، أشار عليّ الأول بالهجرة إلى المدينة المنورة، وقطع كل علاقة لي بالوطن، وأشار عليّ الثاني، وكان عالمًا حكيمًا، بالعودة إلى الوطن وخدمة الإسلام فيه ومادة اللغة العربية بقدر الجهد، فحقق الله رأي الشيخ الثاني، ورجعنا إلى الوطن بقصد خدمته...)، وكان الشيخ حسين أحمد الهندي يتولى شرح مفصل صحيح الإمام مسلم في المسجد النبوي الشريف.

وممن تأثر بهم الشيخ عبد الحميد بن باديس في حياته العلمية ودعوته الإصلاحية، أعلام المدرسة الأندلسية المغربية، الذين قرأ كتبهم قراءة تمحيص وتحقيق، وهي كثيرة في فنون مختلفة، من الفقه والتفسير والحديث واللغة والأدب، وكانت جلّ هذه الكتب تشكل الزاد العلمي والثقافي لتلاميذ المدرسة الباديسية، ومِن هؤلاء الأئمة: القاضي عياض، والقاضي أبو بكر بن العربي، والإمـام أبـو عــمـر ابن عبد البر.

أما العلامة القاضي عياض، فقد اختـار الشيـخ عبد الحميد ابن باديس كتاب كامله (الشفا)، لتدريسه لطلبته في المسجد الكبير بقسنطينة سنة أولى913م، يقول ابن باديس عن ذلك: (ابتدأت القراءة بقسنطينة بدراسة الشفا للقاضي عياض بالجامع الكبير).

وأما الإمام أبو بكر بن العربي فيقول عنه ابن باديس أنه: (خزانة العلم وقطب المغرب)، وقد حقق مخطوط كتاب كامل العواصم من القواصم، وقدم له بمقدمة طويلة وطبعه سنة أولى928م، في جزأين بمطابع الشهاب بقسنطينة، وقد تأثر الإمام ابن باديس به وبالإمــام أبي عمر ابن عبد البر القرطبي، فأخذ عنهما الكثير من فيض علمهم، وخاصة فيما انتهجاه في إصلاح طرق التدريس، التي كانت سائدة في عصرهما بالأندلس، وهو نفس المنهج الذي اتّبعه ابن باديس في مقاومة روح التقليد والجمود الفكري الذي واجه دعوته الإصلاحية في الجزائر.

أولئك هم شيوخ ابن باديس وأساتذته، الذين في أحضانهم نشأ وترعرع، ومن ينابيعهم الصافية استقى العلم والمعرفة، وعلى منهاجهم أقام دعوته، وبمقاومة روح التقليد والجمود شق طريقه.

وقد ساهم الشيخ ابن باديس بقوة في جميع جوانب الحياة الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية في الجزائر، وهو ما سنتناوله في المبحث القادم إن شاء الله.


المبحث الرابع : مكانة ابن باديس العلمية
أ- الجهود العملية التي قام بها ابن باديس:
1- التدريس: لقد بدأ ابن باديس التدريس في جامع الزيتونة بعد تخرّجه منه، حيث جرت العادة أن يدرس النبغاء من الطلبة سنة في الجامعة بعد إنهاء دراستهم فيها، وكان ذلك خلال سنة أولى911-1912م، وأثناء إقامته بالمدينة المنورة ألقى فيها دروس مفصلةًا عديدة في المسجد النبوي الشريف.

وبعد عودته إلى الجزائر، استأنف ابن باديس الدروس مفصلة التي كان يلقيها في الجزائر قبل رحلته إلى الحجاز، وعن ذلك يقول: (ابتدأت القراءة بقسنطينة بدراسة الشفاء للقاضي عياض بالجامع الكبير، حتى بدا لمفتي قسنطينة الشيخ ابن الموهوب، أن يمنعنا فمنعنا، فطلبنا الإذن من الحكومة بالتدريس في الجامع الأخضر فأذنت لنا...).

وقد كان رحمه الله مدرسًا متطوعًا مكتفيًا بالإذن له في التعليم.

ولم يكتف بتعليم الكبار في المساجد فحسب، بل كان يهتم أيضًا بالناشئة الصغار، وعن ذلك يقول: (فلما يسرّ الله لي الانتصاب للتعليم سنة أولى332هـ، جعلت من جملة دروس مفصلةي، تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها إلى آخر الصبيحة وآخر العشية، فكان ذلك أوّل عهد الناس بتعليم الصغار...).

وقد تفرّغ الإمام ابن باديس للتعليم، حتى لم يبق له من الشغل سواه، واستمر يُحيي دوارس العلم بدروس مفصلةه الحيّة، مفسرًا لكلام الله، على الطريقة السلفية، في مجالس انتظمت حوالي ربع قرن، ولم يَحد ابن باديس عن هذه الطريق إلى أن وافاه قدره المحتوم فالتحق بالحي القيوم.

2- الإفتاء: بدأ ابن باديس الفتوى مع انتصابه للتدريس، إلا أن هذا الأمر توسع واشتهر عند قيام الصحافة الإصلاحية، فكانت الأسئلة الفقهية ترد عليه من كـافة عمـالات القطر، فيجيب عليها في صفحـات الشهـاب، والبصــائر، وكـانت تدور حـول العقـائـد والعبـادات والمعامـلات، ومــن أشهــر فتاوى ابن باديس، تلك المتعلقة بالتجنيس، حيث يقول فيها: (التجنس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الالشريعة الاسلامية، ومن رفض حكمًا واحدًا من أحكام الالشريعة الاسلامية عُدّ مرتدًا بالإجماع، فالمتجنّس مرتد بالإجماع).

وللإمام ابن باديس فتاوى كثيرة حول ما كان شائعًا من بدع وانحرافات في زمانه، كانت محل استحسان من علماء عصره.

وعلى العموم فقد كانت تلك الفتاوى، أحد وسائل ابن باديس التي وجه بها الجزائريين إلى القرآن والسنة، وصرفهم بها عن البدع التي أُدخلت على الدين، والمنكرات التي ارتكبت باسمه.

3- ابن باديس والسياسة : رغم انشغال ابن باديس بالتعليم والتفرّغ له، إلا أنه كان ممن لا يهابون الخوض في أمور السياسة، منطلقًا في ذلك من نظرته الشاملة للإسلام الذي لا يفرّق بين السياسة والعلم، وحول هذه المسألة يقول: (وقد يرى بعضهم أن هذا الباب صعب الدخول، لأنهم تعودوا من العلماء الاقتصار على العلم والابتعاد عن مسالك السياسة، مع أنه لابدّ لنا من الجمع بين السياسـة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض، إلا إذا نهضت السياسة بجد)، ومع أن القانون الأساس لجمعية العلماء ينص على عدم اشتغال هذه الأخيرة بالأمور السياسية، إلا أنّها تركت المجال مفتوحًا أمام أعضائها للخوض في هذا الميدان بصفتهم الشخصية، وكان فارس الميدان في ذلك رئيسها، الإمام ابن باديس الذي كانت له مواقف ثابتة تجاه ما يجري في الجزائر وفي العالم الإسلامي من أحداث وتطورات.

ومن مواقفه المشهورة في هذا المجال، دعوته إلى عقد مؤتمر إسلامي في الجزائر للحيلولة دون تنفيذ مؤامرة إدماج الشعب الجزائري المسلم، في الأمة المادة الفرنسية النصرانية، التي كان ينادي بها بعض النواب، ورجال السياسة الموالين لفرنسا، ورغم أن غالبية الذين حضروا هذا المؤتمر كانوا من أنصار سياسة الإدماج، إلا أن ابن باديس ورفاقه استطاعوا توجيه قراراته، للاعتراف بالشخصية مادة اللغة العربية الإسلامية للجزائر.

ولما لاحت نذر الحرب العالمية الثانية سنة أولى939م، سعت فرنسا إلى كسب تأييد مختلف الجماعات السياسية في الجزائر، فأبدى الخاضعون لسلطانها تأييدهم ومساندتهم لها، ولما عُرض هذا الأمر على جمعية العلماء رفضته بأغلبية أعضائها، عندها قال ابن باديس: لو كانت الأغلبية في جانب موالاة فرنسا، لاستَقَلْتُ من رئاسة جمعية العلمـاء، وأنه لن يوقع على برقية التأييد ولو قطعوا رأسه.. وكان ابن باديس يرى ضرورة العمل من أجل الاستقلال والتضحية في سبيل ذلك، وأن الحرية لا تُعطى ولا توهب، بل سَجَّل المادة التاريخ أنها تؤخذ وتنتزع، وفي هذا الصدد يقول:

(قلِّبْ صفحات المادة التاريخ العالمي، وانظر في ذلك السجل الأمين، هل تجد أمة غلبت على أمرها، ونكبت بالاحتلال، ورزئت في الاستقلال، ثم نالت حريتها منحة من الغاصب، وتنازلاً من المستبد، ومنة من المستعبِد ؟ اللهم كلا... فما عَهِدْنا الحرية تُعطى، إنما عهدنا الحرية تُؤخذ.. وما عَهِدْنا الاستقلال يـُمنح ويُوهب، إنما عَلِمْنا الاستقلال يُنال بالجهاد والاستماتة والتضحية.. وما رأينا المادة التاريخ يُسجل بين دفتي حوادثه خيبة للمجاهد، إنما رأيناه يسجل خيبة للمستجدي).

وروي أنه قبيل وفاته -رحمه الله- صرح في اجتماع خاص قائلاً: (والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقوني على إعلان الثورة، لأعلنتها).

وتظهر مواقف ابن باديس السياسية في المقالات المتعددة التي ضمّنها جرائد ومجلات الجمعية، والتي تناول فيها ما يجري على الساحة مادة اللغة العربية والإسلامية من أحداث.

كما تظهر مواقفه كذلك في البرقيات العديدة التي بعث بها إلى جهات إسلامية وأخرى أجنبية، يوضح فيها موقف الجمعية من مختلف الأحداث، خاصة مسألة الخلافة الإسلامية، وقضية تقسيم فلسطين.

الجهود العلمية لابن باديس، وثناء العلماء عليه




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©