لا شك أن كثيرا من العلماء المسلمين قد شارك في عملية الإصلاح، إما متخندقا مع الجماهيـــــر مباشرة ، أو متحيزا إلى ركـن حاكم من الحكام، أو كان مصدر إلهام لحاكم معيـن( الأب الروحي) في الخطـــــــوط العريضة لسياسة الدولة . و إذا وجــــــد في المادة التاريخ من استغل حظوته لدى الحاكم لبسط مذهبه،أو قضاء مصالحه الخاصة ، فإن هناك من استغلـــــــــه الحاكم لكسب المصداقية ، أو ربما قربه ليكسب وده و يأمـــــــن انفعالاتــه التي كثيرا ما تكون حادة و غير مدروس مفصلةة العواقب .
و الشيخ محمد الخضر رحمه الله( 1876 ـ 1958 )أحد أولئك العلماء الذين لم ينجح معهم أسلوب التدجيــــــن في زريبة الحاكــــم ،كما لم يمنعهم جفاء الحاكم من الإصلاح على مستوى القمــــــة ، و في المؤسسات الدينية السامية ،و يضاف إلى الشيخ شدة تواضعه وعنايته بقضايا الشعب عامة و قضايا المستضعفيـن خاصـــة ، و كان من شدة بساط 2014تـــه يردد دائما : "يكفينــي كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء".
إن طبيعة الترجمة لشخصية معينة تجعل الكاتب يبالغ في مدح مترجمه ، و ذلك أن الشخصية المدروس مفصلةة توضع تحت المجهر، و المجهر كما نعلم يكبر الصورة ، غيـــر نريد أن يكون التكبير تكبير تقريب و تفصيل لا تكبيــــــر مبالغة و تهويل، لذلك نقول بكل بساط 2014ـــــة: إن الشيخ محمد الخضر عالــــم متزن متمكن من مادته العلمية بشهادة رئيـــــس اللجنة الأزهرية الشيخ العلامة عبد المجيـــــد اللبان عند امتحان شامله للشيخ في امتحان شامل الشهادة العالمية "هذا بحٌر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج" و الشيخ يعتبر من البقية الباقية من العهـــــــد الذي كان العالم فيه موسوعيا محيطا بجملة من العلوم يتقنها و يؤلف فيها أيضا، غيـــر أن الغالب عليه ،هو قوة شخصيته و اتزانها و اعتــدال مزاجــــــه، و لا أدل على هذا من اختياره شيخا للأزهر، فمشيخة الأزهر لا تتطلب أن يكون الشيخ أعلم أهل عصره ، فليس هذا المنصب رتبة مثل شيخ الإسلام من ا لرتب العلمية، و لكن هذا المنصب يتطلب إضافــة إلى غــــزارة العلم الخبرة بالحياة و السياسة الحكيمة و الشجاعة في قول الحق ، و غيــــــــرها من الميزات التي توفرت في شيخنا الخضر رحمه الله تعالى رحمة واسعة .
و لعل من نافلة القول أن نشير إلى أن كثرة أسفار الشيخ ،و مخالطته أجناس متنوعة ،واقتحامـه على شخصيات سامية في سدة الحكم، و تقلبه بين حكم عثماني ، وجمهوريات عربية ، و مكابدته للاستعمـــار و بلاءه لأهــــــوال السجن و المتابعات ، قد شحذت من عزيمة ، و زادت عوده قوة و صلابـة ، كما زاد من تمرسه بالحياة و بالرجال
سفره إلى ألمانيا مبعوثا من قبل الخلافة العثمانية مع مجموعة من المشايخ لتحريض المغاربـــــة هنالك ضــــــد الوجود الفرنسي في شمال إفريقيا . فقام بالمهمة على وجهها، و ساهم في بث روح الجهاد بين الجنــــــود الأسرى المغاربة ـ و الجزائريين خاصةـ و استنهاضهم للثورة ضد الأوضاع التي يعيشونها.
إن بداية كهذه تجعل المرء ينظر إلى الحياة بعين واقعية، بعيــــدة عن تأثير الأفكار الميتة و المميتة، إنها تخرجه من بين دفات الكتب لتضعه مباشرة أمام تجربة تجربة الحياة، لتصقل ذهنه ، و تهذب ردود فعله ،وتجعل منه شخصا يقود المعركة الحيقيقية لا الوهمية .
لقد مكنته شخصيته المتزنة من التوسط دائما ، فإذا نظرت إلى أصدقائه و جدت مشاربهم مختلفــــــة ،و ربمـــا متناقضة ، و لكنه استطاع أن يتعايش معهم دون أن يتأثر باتجاهاتهم ، و لا أدل على ذلك من جمعه بين صداقته للشيخ محمد النجار الذي يتزعم تيار الإصلاح وصداقته للشيخ سالم بوحاجب الذي يتزعم تيار المحافظين .
و توازن الشخصية ، و و سطيتها يظهر أكثر وقت المحن و الفتن،وهي الساعة التي يفقد المتسرعــــــــون فيها رشدهم ، و تعــــوزهم بوصلة الاتجاه الصحيح ، برز هذا جليا عند شيخنا في خضـــــم موجة الغضب التي جاءت ردة فعل لكتاب كامل الإسلام وأصول الحكم لصاحبه علي عبد الرازق سنة1925 ،فعندما نقرأ رده على هذا المــــــؤلف نجـــــــــد شخصا متزنا لــم يركب موجة الغضب أو العاطفة، بل راح يلخص كل فقرة في الكتاب كامل ثم يرد عليها بما أوتي مــن علم و مهارة ، دون أن يقحم الأحكام المسبقة أو الأحكام القاسية التي تخــــرج من الملــــــة أو تفســــق الشخصية محـــل النقد . و قد دعت الحملة الشديدة التي تعرض لها علي عبد الرازق الأديب الكبير عباس محمود العقــــاد إلى كتاب كاملة مقال في البلاغ في 20 جويلية1925 بعنوانه "روح الاستبداد في القوانين والآراء" تلخص الكلمات التالية زبدة ما أراد إيصاله إلى القارئ العربي في ذلك الوقت: " نخشـــى أن تكون الروح الاستبدادية قد سرت إلى بعض جوانب الرأي العام فنسينا ما يجب لحرية الفكـــــر من الحرمة وما ينبغي للباحثين من الحقوق". و مقالة العقـــاد تمتاز بالوسطية إذا راعينا أنها صادرة من مفكــــر ما زال بعد متأثرا بالفكر الغربي و لم يلج مرحلة الإسلاميات بعد ،كما أن كتاب كامل الخضر حسيـــــن يتصف بالوسطيـة إذا أخذنا في اعتبارنا أننا أمام أزهري غيور على الدين و متعصب للخلافة العثمانيـة.
و نحن إذ نوعز الوسطية لهذا أو ذاك، لا نوعزها بمقتضى معطيات وقتنا الحاضــــــــر، بل نوعزها بمقتضى معطيات العصر الذي عاش فيه الكاتبان .
كما يشهد رده على كتاب كامل في الشعر الجاهلي للأديب طه حسين سنة أولى925 على عـــــــدم انسياقه وراء الحملة الشعواء التي واكبت صــــــدور هذا الكتاب كامل ، فقد عكف على مناقشة أفكار الأديب بهـــدوء العـــالم المتزن الذي يدحض الحجة بالحجة .
و مع خوضه ميادين العلوم الشرعية و اللغوية ، فإنه لم يكن غافلا عما يستوجبه الانتماء إلى أمة ترزح تحت ظلم و تجهيل الاستعمار لقد أسَّس جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية سنة 1924 ،و فيما بعد جبهة الدفـــــاع عـــن إفريقيا الشمالية ، وفي سنة أولى346هـ/1928م شارك في تأسيس "جمعية الشبان المسلمين"، ووضع لائحتها مع صديقه محب الدين الخطيب.

وفي آخر هذه اللمحة الوجيزة و المتواضعة أحب أن أسأل سؤالا أوضح من خلال الإجابة عنه مسألة في نفسية طائفة من المثقفين ،و هذا السؤل هو: هل زادت مشيخة الأزهر من شهرة الشيخ محمد الخضر ؟ نقول إن هــــذه المشيخة كانت لتزيد من قـــــــدره و لو نالها بالتعيين من السلطة الحاكمة ، لكن الأمر ليس كذلك ، فقد وقع عليــه انتخاب كبار هيئة العلماء ، و لوأحس هو شخصيا بأنها رفعت من قدره لما استقال منها ،و لداهن و وافــــــق على ماعرض عليه من إصدار فتاوى تتنافي مع قناعاته .و يكفيه فخرا أن السلطة آنذاك ألغت بسببــــــــــه اختيار شيخ الأزهر من قبل هيئة كبار العلماء ، و جعلت صاحب هذا المنصب موظفا كبيرا في السلطة عن طريق التعيين الإداري بقانون 103 عام 1961 .
فرحم الله الشيخ الوقور محمد الخضر ، و جزاه الله خيرا على ما قدم لأمته في شرق البلاد و غربها.
صيد عبد القادر ليشانة




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©