بمثابة ما عده ردا على الأطروحات الأدبية والبحثية الأوربية في نظرتها السلبية للحضارة الإسلامية أصدر الفيلسوف والانثروبولوجي التونسي المقيم بباريس: يوسف الصديق كتاب كامله "من هم الهمج؟ (Qui sont les barbares)" الذي صدر في عام 2014، الذي هاجم فيه المقولات الاستشراقية والغربية التي تسوي بين الإسلام والعنف. وفي أحد حواراته في إحدى الإذاعات المادة الفرنسية، فاجأ الجميع حينما اعتبر ملحمتي "الإلياذة والأوديسة" لهوميروس، والتي تعتبر نص التنوير ومفخرة الحضارة الأوربية بمثابة "البيان الاستعماري الأول" في الحضارة الغربية.
بروفيسور يوسف الصديق الذي أنجز أطروحتة حول فلسفة "ابن سينا وسبينوزا" هو أول من ترجم قصيدة "بارمتنيدس" للعربية (نشرت في دار الجنوب، بتونس). وهو يتقن اليونانية القديمة كما يتقن المادة الفرنسية ومادة اللغة العربية. ولا يتردد في القول بأن "غيرته كمسلم وابن لهذه الحضارة الإسلامية تجعله لا يقبل أن ينخرط في التهجم عليها من خارجها، أو أن يُستعمل في التهجم على المسلمين في فهمهم للإسلام في أوربا وفي غيرها".
غير أن يوسف الصديق و"انطلاقا من الغيرة ذاتها" يطالب بحقه في أن يكون منتقدا للفهم التقليدي للإسلام. وهو لا يطالب بأكثر من طرح الأسئلة التي يقول إن "فحول الإسلام في القديم من الطبري إلى الزمخشري وغيرهما قد طرحوها بجرأة وشجاعة لا نملكها في الوقت الحالي. فعبر تكوينه الفلسفي والأنثرلوجي بالذات؛ يحاول الصديق قراءة النص القرآني ويخرج علينا بترجمة للقران أثارت الكثير من الجدل، وبكتاب كامل آخر عنوانه: "لم نقرأ القرآن بعد"؛ منتقدا النظرة التقليدية في فهم النص Nous n'avons jamais lu le Coran "(صدر سنة الثانية004). وهو ذلك الكتاب كامل الذي تعمل إحدى دور النشر على ترجمته بعنوان عربي مقترح: "هل قرءنا القران أم على قلوب أقفالها".
وفي كتاب كامله "طارق الليل" الذي صدر في 2014، يواصل "الصديق" دعوته الجديدة في قراءة النص القرآني، وهو يذهب أبعد من ذلك في دعوته الصريحة "لتجاوز كل مناهج التفسير القديمة من أجل اكتشاف حقيقة النص. هذا النص الذي يحتاج إلى عملية تحرير في منهج القراءة" على حد قوله.
وفي هذا الحوار مع أون إسلام.نت يدع الصديق إلى قراءة تعتمد "برود النظرة العلمية، وتبتعد عن النعرات الشعبوية والصياح والغضب الإيماني غير المسلح بالمعرفة والمبني على الجهل المركب".


وفي ما يلي الحوار كاملا مع يوسف الصديق:

* في كتاب كاملك الأخير "طارق الليل: إسلام الأنوار هذا الذي يستعصي على الصيرورة"؛ الصادر في عام 2014 بالمادة الفرنسية بعنوان "L'arrivant du soir. Cet Islam de lumière qui peine à devenir"، تطرح فكرة إشكالية قراءة القران، وهي الفكرة ذاتها التي طرحتها من قبل في كتاب كاملك: "لم نقرأ القران بعد". وقد قمت بطرح الإشكالية من باب "علم الأديان المقارن" فما هي أهم النتائج التي توصلت ليها؟

** ليس لنا من بد حينما نفكر في دين من الأديان؛ وخاصة في ديننا؛ إلا أن نتجه إلى هذا العمل المتواضع والبسيط وربما الساذج الذي يسمى بالمقارنة بين أشياء متشابهة أو بين مفاهيم متقاربة مثل مفهوم الديانات الموجودة حاضرا، والتي غلب عليها بعد الانتشار, فرأيت من الأبسط ومن الأسهل بيداجوجيا (بمنهجية مدرسية) أن أتجه إلى هذه المقارنة بين الديانات السماوية التي تتميز في أنها تختلف في دخولها إلى المادة التاريخ وإلى ما أسميته بـ "الانتشار في المساحة الكونية".

فالديانة اليهودية تعرضت لملابسات كثيرة؛ أبرزها النفي إلى بابل من طرف الملك البابلي "نبوخذنصر" (605-562 ق.م)، ثم الرجوع إلى الموطن الأصلي كما تراه هذه الديانة وهو ما يسمونه "بالأرض الموعودة"، ثم الحدث الأبرز في هذه الديانة وهو "ضياع التوراة الأصلية" تماما من ذهن وذاكرة العالم ومن الكتاب كاملات المتوفرة للمعتنقين لهذه الديانة، وحصل والأمر لا يعلمه الكثير من مشايخنا أن هذه الديانة انتعشت مجددا "بعصى سحرية" من طرف هذا الشخص الذي يسميه القران "عزير" مرة واحدة في سورة "التوبة"، وهو ما تسميه الديانة اليهودية وكذا المسيحية بـ "إزردا – عزرا" Ezra في القرن السادس قبل الميلاد. تبقى هذه الملابسات في النهاية ظاهرة في نصوص الديانة اليهودية و"أدبياتها" التي بين أيدينا، والتي تختلف تماما عما هي عليه في نصوص الديانة المسيحية.

وإذا اتجهنا إلى المسيحية قبل أن ندخل في تصنيف مشاكلنا المعرفية مع ديانتنا نحن، نرى أن النص في الديانة المسيحية لم يكن نصا، ولا قيل لفظا من طرف المسيح عيسى بن مريم، ولا كُتب، وإنما كتبت أول مادة متكاملة للإنجيل وهي مادة "يوحنا" التي يقال إنها أنتجت بعد ثمانين سنة من "صلب" أو "موت"، أو "رفع" المسيح في الاعتقاد الإسلامي حتى نكون دقيقين في تعريفنا لمآل هذا الرسول في القرآن.

بعده كتبت الأناجيل المختلفة الأخرى: إنجيل " لوقا" و"متى" و"مرقص" (قبر هذا الأخير موجود في ليبيا)، وحولها أناجيل كثيرة تم رفضها من قبل الكنيسة إلى فترة متأخرة من القرن الثالث عشر في آخر المجامع الكنسية المؤسسة بمدينة "طرانت" Trente الايطالية والتي أقرت الأناجيل الأربعة؛ كما أقرت العداء العلمي للفكر الإسلامي خارج العلوم الصحيحة، حتى إن أول ترجمة لاتينية على سبيل المثال لكتاب كامل "المناظر" لابن الهيثم على يد العالم الايطالي "فيتلو" vitello ظهرت تحمل عبارة "لمؤلفه العربي المجهول"!

لكن تخصيص نسخة من الأناجيل نهائية Vulgate يعترف بها القارئ والمرتل المؤمن المسيحي لم تحصل إلا في القرن الرابع للميلاد، وذلك مع "القديس جيروم" (347 - 420 م) السوري الشرقي. وهنا نلفت النظر (بين قوسين) إلى أن كل الآباء المؤسسين للكنيسة الحالية هم من الجنوب. نأخذ مثلا وهو العربي القح "يوحنا الدمشقي" (اسمه بمادة اللغة العربية: منصور يحيى بن سرجون التغلبي) ولد سنة 676 م، والذي كان وزيرا لعبد الملك بن مروان، وكان كاتبا له. وهنا أمدد في هذا القوس لأقول انه كان يشغل وظيفته تلك نهارا، ثم يذهب إلى البطاح العامة وينتقد الإسلام بكل حرية.

أعود إلى "القديس جيروم" لأقول إنه ترجم الكتاب كامل المقدس إلى اللاتينية، وهو الذي تعتمده الآن الكنيسة المسيحية الرسمية، ثم انطلقت هذه الديانة في احتكاك كبير فيما بعد مع الفلسفة والفكر، وخاصة مع عودة إلى ماضي فلسفة ما قبل المسيح مثل أفلاطون وأرسطو وأفلوطين ووصولا إلى "نيتشه الذي قال: "أن المسيحية هي أفلاطونية الشعب".

إذا، يتضح من خلال هذين التحليلين السريعين أن وضع النصوص في الديانة الإسلامية مختلف تماما عن هذا المسار المادة التاريخي. فلننظر إلى هذا الاختلاف ونطرح سؤال: كيف تم تجهيز هذه الديانة حتى تأتي إلينا في قالب "قراءة"؟

كلنا يعلم، وكلنا لا يريد أن يتوقف كثيرا أمام، هذه المعلومة التي تقول إن ما أنزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يختلف في تنظيمه وتأسيسه عما هو قائم بين أيدينا اليوم بين دفتي المصحف. ويذهب كتاب كامل "المصاحف" لصاحبه أبي داوود السجستاني (202- 275 هـ) إلى القول بأن المصاحف التي أمر الخليفة عثمان بإتلافها تختلف عن المصحف الموحد الذي أوجده؛ ليس فقط في تنظيم السور، أو عنونتها، وإنما كذلك في تنظيم الآيات. وهو أمر وقعت مواجهته بـ "برودة المشايخ" في كل حقب المادة التاريخ عن المسك بهذه المسألة وهذه الإشكالية التي أعتقد أنها من الأهمية بمكان، وربما هي أهم إشكالية في عملية قراءة النص في الوقت الحالي.

لنتفق أن المفسرين يقولون - وهذا لا أعتقد فيه أبدا - وهو أمر قلته في كتاب كاملي "لم نقرأ القران بعد" – يقولون إن نظرية المفسرين الكلاسيكيين تضر بالوحي، وتضر بعمق الوحي، لأني لا أعتقد أنه قبل أن يتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد جاءه جبريل ونظم له السور والآيات؛ لأن هذا الأمر لا يمكن أن يكون مادة التاريخيا، ولا يمكن أن يكون ممكنا، لأننا نقرأ في الكتب والمصنفات المشهورة في مادة التاريخنا؛ والتي يقبلها السنة كما يقبلها الشيعة؛ مثلا مساهمة عمر بن الخطاب في تنظيم السرد القرآني كانت على أساس الشهادتين أي إذا قيل احدهم أنه سمع هذه الآية أو تلك من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يكون هناك شاهد ثان حتى يؤكد ذلك وعندها تستقر الآية في المصحف؛ لأننا سلمنا أن القراء هم ثقات وصحابة ولا يشك في عمق انتمائهم إلى الإسلام.

كيف نفسر أن أبا داوود السجستاني مثلا أو غيره من المفسرين عندما قالوا بأن عمر لما سمع الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة: "لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" (التوبة: 128 - 129), كيف نفسر أنه قال: "والله لو كانت ثلاثة آيات لجعلتها سورة". وأشار أن توضع في أخر سورة "التوبة". وكيف نفسر الحديث المشهور بين "ابن عباس" و"عثمان بن عفان" عندما جاءه ابن عم رسول الله يستفسر عن خلو مطلع "سورة التوبة" من بسم الله الرحمان الرحيم فأكد له "عثمان بن عفان" صاحب المصحف والقائم على جمعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ولم يشر بأن "الأنفال" و"التوبة" المتتابعتين هما سورة واحدة أم سورتان واعتقد عثمان أنهما ينتميان إلى نفس السياق ويحملان نفس الإيقاع والأسلوب وأمام هذا الشك اسقط البسملة.

ولذلك فنحن أمام معضل البعد المادة التاريخي للوحي المنزل على مدى أكثر من عشرين سنة في علاقته مع المصحف.

إذا من خلال ما اعترف به التراث الأول نرى أن تركيبة المصحف الحالية مختلفة تماما عن إرادة أو عن مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم. والسؤال هو كيف تمت هذه الهندسة التي نراها اليوم؟

أنا لا آتي بجديد، وإنما أقول إننا يجب أن نتناول هذه المسألة بجدية أكثر، أقول لا آتي بجديد لأن الزمخشري (467 هـ - 538 هـ) مثلا تدخل في هذا الأمر وقال إنه يعترض على وقف المصحف في الآية في قوله تعالى: "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالَّراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ" كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكُّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ" (آل عمران: 7)، فلا ليقف - هو في رأيه - عند لفظة الله وإنما يواصل ويضيف إلى الجملة "والراسخين في العلم"، ويدلل على ذلك بحجة معقولة قائلا لو كان الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله لما ذكرهم وإنما يبقون في كتلة عباد الله جميعا الذي يقولون أمنا به من عند ربنا.

ثم نجد كثير من المفسرين المعروفين مثل "ابن كثير" (700هـ - 774هـ) الذي يقول إن عمر ابن الخطاب كان يقرأ سورتي "الفيل" و"قريش" سورة واحدة. ويضيف ابن كثير شيئا خطيرا جدا؛ إذ يؤكد في تفسيره "أن عثمان أراد أن يجعل سورة باسم قريش ففرقهما". وهذا لم أقله أنا وإنما قيل من قبل مفسرين معتمدين من طرف جمهور المؤمنين.

والشيء العجيب في مادة التاريخنا وكما قارنته في مادة التاريخ الديانتين السابقتين هو إننا طوال مدة الدولة الأموية كنا نمتلك كل دور الكتاب كاملة من الإسكندرية إلى حمص وحران، ولم ننتج نسخة واحدة من كتاب كامل إلا مصحف عثمان الذي وزع على الآفاق في عملية سياسية القصد منها توحيد الأمصار. لماذا؟ لماذا كتب العرب فقط نص القرآن ولم يكتبوا شيئا آخر؟ وكان علينا أن ننتظر قرنا ونصف حتى يأتي عصر التدوين. وهذا سؤال لم يجب عليه لحد الآن. وإني اعتقد - إن استسمحت قارئ هذه السطور أن أتي بفرض رائعية - أن الخلافة الأموية ومساحتها المعرفية رهبت من النص القرآني؛ فعمدت سجنه في الكتاب كاملة، وتخلصت من عبء الخوض في معانيه فكريا وربما فلسفيا كما فعلت دون خوف ولا خجل الديانتان المسيحية واليهودية. ولم يبق لهذه الدولة الأموية إلا أن تهتم بأمور السواد والخراج وإدارة الدواوين، ولم تنتبه إلى أن قضيتنا هي قضية دخول هذا النص في المادة التاريخ وتعامله مع العلوم الأخرى، سواء علوم الأولين أو العلوم المعاصرة لذلك الوقت.

لماذا لم يتعامل ذلك العصر مع الفكر وتأتينا بما قد تنتج عملية التفكير كما أتتنا في العصر العباسي كتاب كاملات "الفراء" و"الكسائي" و"إقليدس" و"جالينوس" وغيرهم. وهذا أيضا سؤال لم يجب عليه.

لذلك وبعد هذا الصمت الأموي الطويل، وبجانبه القرآن مكتوبا وكأنه مسجون في الكتاب كاملة، دخلنا إلى عصر التدوين ولا رصيد لنا حتى نفهم معاني آية غامضة متأصلة في التراث الكوني الذي تعمدنا تغييبه من آفاقنا المعرفية. ونورد مثلا في هذا الصدد أية " َلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ" (ص: 34)، ومجموعة أخرى من الآيات الغامضة بالنسبة لفكر المؤمن العادي كالتقاء الرجل الصالح بموسى والتي لا توجد في نصوص دينية أخرى؛ فلجأنا حتى نفهمها إلى ما تسميه الكثير من كتب التفسير "الإسرائيليات"، وهذا ما أعنيه "بتلمدة التفسير القرآني" (نسبة إلى التلمود) talmudisation، أو رجعنا إلى شيء اعتادت عليه التفاسير مادة اللغة العربية؛ وهو تراكم الفرض رائعيات من قبيل "ويقال كذا وكذا وربما أنه كذا وكذا وقصد كذا وكذا". وبعد تعداد عشرين فرض رائعية يقال "الله اعلم"، وهذا من غير المجدي أن نعتمده الآن. فنحن الآن وقد عشنا أربعة عشر قرنا على ما أفرزته مصفاة التفسيرات القديمة بمختلف أصنافها كمنوال تفسير الطبري، والتفاسير الصوفية كتلك التي جاء بها القسيري والكشاني، والعقلانيين كالزمخشري وفخر الدين الرازي.. إلخ، فلابد وأن نتخلص من هذه السيولة، وألا نبقي عليها إلا كتراث لا يمنعنا في كل لحظة من البدء من الصفر. وما ذلك بتضييع وقت في خدمة هذا الدين العظيم الذي أرسى ثقافة كونية عظيمة، خاصة وأن حولنا وعندنا وبين أيدينا أدوات بحثية كالألسنية وعلم الاجتماع والحفريات المادة التاريخية التي أصبحت تمكننا الآن من أن نراجع موقفنا من هذا النص من خلال البحث عن المعنى. فالبحث عن المعنى لم يتم إلى حد الآن. وبقي علماؤنا العلمانيين كما المشايخ يلوكون فيما قاله القرطبي وغيره.

في النص العديد من الابهامات وأنا اعتقد أنني لو سألت أكبر مشايخ الأزهر أو الزيتونة أو القرويين أو دمشق عمن هو "عزير"؛ لمهمه أحدهم ولقال أشياء لا معنى لها، خاصة وأن ابن كثير يورد حديثا لا أعتقد في صحته؛ حيث يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أدري أكان عزير ملكا أم نبيا". أفهذا معقول؟ فإما يكون رسولنا قد اتصل بوحي من الله حتى إذا سئل عن حقبة أو شخصية فإن معرفته الفردانية والإيحائية التي هي معرفة الرسول تمكن من أن يعلم المخاطب بما يسمح له التعرف على ما أوحي إليه به، وإلا فنحن في عبث. فكيف يقول الرسول مثل هذا القول؟ وكيف يمكن لنا نحن أن نفهم هذه الآية؟

لذلك، أعتقد جوابا على سؤالك، أن مثلنا كمثل من يأتي إلى مدينة خربة فيهم بترميمها، ويتضح له أن الترميم أكثر كلفة من البناء من جديد. فالشجاعة والحكمة تقتضيان أن أهدم كل ذلك، وأقيم بناءا جديدا بنفس العقلية والذهنية التي أملكها حاضرا، وبنفس الاحترام الذي أكنه إلى هذا الدين ولأهله الذين يعتنقونه. لا أعتقد أني شخصيا سأقوم بذلك، ولكني أشير إليه فحسب، فلا قدرة لي أبدا أن أعيد هذا البناء، ولكن من واجبي أن أقول إننا عشنا أربعة عشرة قرنا وعلى الأقل من ناحية علاقتنا بالقرآن في مغامرة لم تأت إلى حد الآن بنتيجة. ولذلك لا بد أن نراجع الأمر، وأن نبدأ من الصفر.

* يعني بإثارتك قضية إعادة جمع المصحف، وترتيب آياته وسوره، هل الأمر يتعلق بدعوة ضمنية للمراجعة شاملة وكتاب كاملة المصحف العثماني من جديد؟

** أبدا أنا اعتقد أن المصحف العثماني لا يمكن أن يمس, إنه ذو وجود لا يمكن أن يطرح على محك التساؤل أو اللمراجعة شاملة. وإنما مع علمنا أن ترتيب النصوص وترتيب الوحي مختلفان، وهذا لا يتناطح فيه وعلان، وهو ما يمكنني من التفكير في معاني الآيات وإذا كانت هذه الآية تنتهي هنا أو تنتهي هناك. وأنا فكرت مرة أخرى في سورة القمر، وقوله تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ" (القمر: 54-55)، وقلت لماذا لا تتواصل هاتين الآيتين مع سورة "الرحمن" التي تليها والتي مبتدأها "الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ" (الرحمن: 1-2)؟ وإذا كان ذلك كذلك لما استنكف في ذلك أحد، ولاعتقدنا أن هذا المليك المقتدر هو الرحمان الذي علم القران. فما جدوى - على سبيل المثال - أن تقسم هذه السورة إلى سورة اسمها "القمر" وسورة اسمها "الرحمان"؟ مثل هذا التساؤل؛ حتى لو لم يؤد إلى شيء؛ هو تساؤل مشروع. وقد أفادنا "ابن كثير" عن غير قصد حتما بعنصر يسمح بمواصلة هذا التساؤل حينما أشار إلى وحدة سورتي "الفيل" و"قريش" الأصلية؛ كما بينا سالفا؛ بغض النظر عما أقدم الزمخشري على بيانه في هذا الموضوع، وتساؤل الصحابي "عبد الله بن مسعود" عن عدد السور، والأثر المشير - حسبما وصل إلينا - إلى أن "الفاتحة" و"المعوذتان" ليست من القران. وأنا اطرح السؤال لماذا كان لكل هؤلاء مع زخامة وقوة إيمانهم أن يطرحوا مثل هذه الأسئلة ولا حق لنا في ذلك اليوم.

فالمصحف يبقى مقدس له طقوسه وعدد آياته وحروفه، وهو من أجمل ما لدينا ويجب علينا المحافظة عليه، وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: لو فرض رائعنا أن الحاكم غدا قرر تغيير معالم صحن جامع الزيتونة بتونس مثلا فإن كل الناس ستثور عليه، ويكون لهم الحق في ذلك، فكيف بالمصحف الشريف، الذي كان له الفضل في تأسيس مادة التاريخنا العربي والإسلامي.

* لا تتردد في استعمال مصطلح "تحرير القران"، وهو ما سيتيح بالنسبة لك قراءة جديدة للنص تبتعد عما تسميه "بالقراءة الطقوسية التلمودية للقرآن"، إلى ما تسميه قراءة إنسانية يتحرر فيها المعنى. هل تطمح - عبر فكرة تحرير المعنى في المصحف - إلى إيجاد مسار فكري جديد يتحرر فيه النص القرآني من قبضة "العلماء" والمؤسسات التقليدية المهيمنة على قراءة النص؟

** سأنطلق من الفترة الأموية التي تمتد من كتاب كاملة المصحف إلى عصر التدوين؛ أي إلى بداية العصر العباسي، تم سجن القران في مساحة الكتاب كاملة وحيز الخطية. ومن الصالح بالنسبة لمشايخنا أن يقرؤوا ما ترجم بمادة اللغة العربية لمفكر معاصر مثل "جاك جودي" jack Goody الذي تحدث عن مفهوم الكتاب كاملة وموقعها. وأن يعودا على الأقل إلى أفلاطون في "محاورة فيدرس"، والتي يقول فيها إن الكتاب كاملة تمتص الدينامية والطاقة لكل خطاب جاء شفويا.

أما الحبس الثاني الذي عرفه التنزيل فهو الحفظ والترتيل وصب هذا النص في بوتقة وفي قالب لا يمكن أن نحيد عنه؛ بحيث لا أستطيع أن أتحدث في مساحة حوارية في القرآن بلغة من يقلد الظالم الذي يتحدث للمظلوم. فما الذي يمنعني في سورة "الكهف" عندما يقول الله "فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ" (الكهف: 34) أن آخذ صوت المتقبل ونبرته الذي لا يعتقد أنه لا يمكن لله عز وجل أن يتلف جنته؟ وما الذي يمنع أن آخذ صوت ونبرة المتواضع الذي يعتقد في وحدانية الله وفي قدرته على إتلاف هذه الحديقة؟

ما الذي يمنع من أن أقرأ النص مع احترام للشكل والإعراب ومخارج الأصوات.

أعطيك مثلا، كان موضوع مقال نشرته في إحدى المجلات العلمية المادة الفرنسية حول سورة "الصافات"، عندما يقول الله: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ "(الصافات: 102).

يتفق كل المفسرين والرأي العام التلقائي أن الله حيا إبراهيم لأنه صدق الرؤيا، وأنا أخالف هذا الفهم لأن الرؤيا لا تصدق. فمثلا عندما أراني أستقل تمساحا وأطير به فلن أصدق ما حدث، ولابد من أن أؤولها. والقران الكريم نفسه عندما تكون الرؤيا صادقة وقابلة للتأويل لا يستعمل عبارة "صدق" الرؤيا، وإنما يستعمل لفظة "عبر" حيث يقول "إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ" (يوسف: 43). أما أن تصدق" الرؤيا" فلا. أرى أن الله عندما أشار إلى ما جاء عن إبراهيم من تصديق الرؤيا لم يكن ذلك إلا في سياق بلاغي كان يقول أيمكن أن تصدق؟ وتم تجاوز هذا الوضع غير الطبيعي بفداء الابن بذبح عظيم. إذاً؛ لم انتبه إلى قضية مهمة؛ وهي وجوب استكشاف مفاصل القرآن؛ لا باسترسال الآيات؛ إذ أن تقسيمها بالنظر إلى المعنى اعتباطي. ودليل ذلك أن "فوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ " (الماعون: 4) هي آية متكاملة لوحدها وبعدها "الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ" (الماعون: 5) التي تكمل المعنى.

هذه بعض المشاكل التي لا بد أن نواجهها حتى نفوز بما نسميه بالإعجاز القرآني وبوحدانية النص وأصلية القران وتأصله فينا؛ وإلا فانه سيبقى مجرد طقس. والطقوس لا تأتي بتقدم الأمم. الطقوس طبعا لازمة من قبيل أن تأخذ هذه الملعقة والشوكة والسكين بهذه الطريقة ولا تأخذها بطريقة أخرى، أو أن تحيي أصحابك بطريقة معينة، فهذا طقس من الطقوس التي تخرج الإنسان من فوضى الحياة اليومية وأتعاب العمل. والطقوس الدينية ضرورية حين تجعلنا بحركات آلية مع أفق الموت. وهذا هو مقصدها الأصلي في الديانات. وهو ما جاء به مثلا "ابن رشد" (520- 595 هـ) حينما قال في ما معناه أنه "لن يأتي يوم تتطور فيه الإنسانية فنستغني فيه عن الديانة". فلا بد أن يبقى جمهور عريض من الناس يرى أنه من الضروري أن يكون هناك طقوس، ولكن هذه الطقوس لا تقدم المادة التاريخ ولا الإنسانية ولا المجتمعات، وليس من وظيفتها أن تفعل ذلك، بل من وظيفتها أن تبقى في الإنسان البعد الخالد كالخشية والخشوع والشعور بالضعف أمام هول الزمن والكون. إذا اعترفنا للطقوس بهذه المهمة والضرورة فلا بد أن نقرأ القرآن على أنه كتاب كامل الله كتاب كاملا مفتوح أبدا بحيث إذا ما أعلنت أني قد فهمت كتاب كامل الله "بصفة نهائية" فاني أكون بذلك اقرب مني إلى الكفر؛ لأني أضعف من أن أدعي مساواتي مع المخاطب الإلهي؛ إذ أنت إن فهمت مخاطبك بصفة نهائية فقد سويت بينك وبينه.

* هناك مفارقة في المجهود الذي تقوم به. فمن ناحية، نراك ترد بقوة على النظرة الكلاسيكية المشوهة للإسلام في بعض الأدبيات البحثية الغربية، وخاصة عندما تتحدث في النظرة الاستشراقية لقضايا من قبيل "المرأة" و"العبودية" و"الجهاد" و"الحدود". ولكنك تقوم في كثير من الأحيان بالاستناد إلى هذه الأدبيات الغربية ذاتها في بيان "إنسانية الإسلام"، وخاصة عندما تستند إلى كانط وفلسفته "التنويرية" و"هيغل" و"هيديغير" و"سارتر" في نظرتهم "الإنسانية"؟

** أن نتجه أو نستعين بمفكر يحتم نوعين من المواقف: الموقف الأول هو أني أعتقد أنه سيجعل من وجودي وجودا آخر، وهذا لا أعتقد أن "نيتشه" أو "كانط" أو "هيغل" أو غيرهم سيغير شيئا مني؛ لأن الطينة التي ولدوا فيها ليست طينتي؛ أي أن الأبعاد الثلاثة التي تجعل من مفكر يغير الأشياء ليست مشتركة بيني وبين كانط: فلست ألمانيا ولا أوروبيا، ولا أريد أن أغير ما في أوروبا، ولا أريد أن أكون من أعوان "كانط" في صنع مادة التاريخه. الموقف الثاني في الاتجاه إلى فيلسوف هو اعتماد قدرته على توليد المفاهيم وحبكها ونسجها حتى تؤدي إلى مقولة. ومثلا لنأخذ كانط (1724 – 1804 م)؛ لأنك سميته من بين الأسماء التي ذكرتها، وأنا فعلا استشهد بالعديد من الفلاسفة، واعتقد أني مع الموقف الثاني الذي ذكرته معجب كثيرا بـ"أفلاطون" (عاش بين 427 - 347 ق.م) و"هيغل" (1770 – 1831م) و"نيتشه" (1844 - 1900م)، ومعجبا كثيرا أيضا بـ"جاك دريدا" (1930 – 2004م)، ولكن لا أعتقد أن مصيري ومصير كل هؤلاء هو مصير واحد في أي شيء ما في ضرورة تغيير الأشياء وتغيير المجتمعات، وإنما أرى نصوصا، وأرى أنهم طرحوا المشكل بطريقة معينة، وخلصوا بعد مئات الصفحات إلى نتيجة محكمة نظرا لما وضعوه من مبادئ ومسلمات ومن شروط.

فقد أخذت عن "كانط" مثلا هذه المقولة التي لا بد أن نجرأ ونأخذها نحن كمنهجية وهي أن "النظر إلى العالم وقراءة النصوص إذا جمدناها بالعقل فإنها تصبح في وقت من الأوقات سجنا لنا". فهو اعتمد الذود عن فلسفة "لايبنيتز" (1646 - 1716) وبالذات ورثة "لايبنيتز" من الفلاسفة من أمثال "جاكوبي" و"فولف" الذي هاجمه "كانط" لأنه جمد مثل أستاذه في الفلسفة انطلاقا من مقولة: "تقديس العقل"، وهو العمل النقدي الكبير الذي قام به "كانط" في كتاب كامله "نقد العقل الخالص"، والذي اعتبر فيه أن اخطر ما يهدد العقل وهو ما اعتقد أنه مشترك في الإنسانية كاملة، وليس حكرا على فلسفة "كانط". فكانط تناول الأمر بمنهجية فلسفية عميقة لا تقبل إلا أن نرافقها ونواكبها حيث قال: "إن العقل إذا نسي حدوده خرج إلى الهذيان". وحتى نبسط المسألة نتساءل: ما هي حدود العقل؟ إن حدوده هي المكان والزمان، وأنه لا بد لكل مقولة عقلية تحترم نفسها وتكون فعلا علمية هي أن توحد بين "المفهوم" و"الحدس"، فلا يمكن أن أقول "بحدس" إذا لم يكن مقترنا بمفهوم. مثلا جاءتني موجة من الضوء لا أستطيع التعبير عنها إلا إذا عرفت ما معنى الضوء ومعنى الموجة، وكلاهما مفهومين. ولذلك فمن حدود العقل إلا يقبل التعرف على حدس لوحده، وألا يقبل إدراك مفهوم لوحده. يقول "كانط": "المفهوم وحده فارغ، والحدس وحده أعمى"l'intuition sans concept est aveugle et le concept sans intuition est vide. Il faut les deux". وخلص هذا الفيلسوف إلى نتيجة أطاح فيها بالعقلانية حتى يبقي على الإيمان؛ إذ يقول حرفيا: "إني أطحت بالمعلومة حتى أبقي على الإيمان" "j'ai du abolir le savoir pour faire une place à la croyance". ". وأنا أخذت هذه المقولة منهجيا، وقلت في أحد فصول كتاب كامل "لم نقرأ القران بعد": "لا بد أن نطيح بالتفسير حتى نبقي على القراءة".

كمسلم طولبت بأن اقرأ، وطقوسيا طلبت بأن أرتل: "ورتل القران ترتيلا" (المزمل: 4)، لكن قبل كل شيء طولبت بأن أقرأ. والقراءة هي التعامل مع المفاهيم بحدود العقل. وكلما توسعت في هذه القراءة كلمت أعدتها، ولو أدى بي ذلك لأن أبدأ من الصفر.

بالنسبة للنظرة الاستشراقية المشوهة للإسلام، حتى لو اعتقد بعض المفكرين العرب فيها، فأنا أعيش في أوروبا، وإن قيل شيئا أخالفه إسلاميا كمفكر فإني إما انتصر له وإما أن اسكت على ذلك. وأتحدى أي إنسان يتابعني عبر كتاب كاملاتي وبثبت أني قلت مخالفا لما يراه جمهور المسلمين في مسألة الحجاب أو في موضوع علاقة المرأة المسلمة بزوجها أو محيطها ضمن الجدل الدائر هذه السنوات.

إني أتحاشى الخوض في هذه المسائل لاني اعتقد إنها تضفي ماءا جديدا لطواحين أعداء الإسلام، وهذا من أخلاقياتي وليس من قناعتي العلمية. إن قناعتي العلمية ترى أن العلم ليس مخبر حروب بين المفكرين، ولكن هذا ليس من الواقع. الواقع يفرض رائع على العلماء المسلمين أينما كانوا أن يواجهوا معركة مع من يريدونهم الانسلاخ عن أهلهم. ولقد طلب مني عندما كونت اللجان حول موضوع الحجاب في المدرسة المادة الفرنسية أو النقاب، وقيل لي أنرنا بمعلوماتك ومواقفك في خصوص هذه المسائل فقلت لهم لا يمكن أن أفعل ذلك، وربما سأنشر في يوم من الأيام المراسلات بيني وبين هذه اللجان؛ ورفضي لهذه الطلبات؛ وتعليلي لهذا الرفض. وأنا اعتبر نقدي للفكر الإسلامي من قبيل الإشكاليات العائلية بيني وبين الأمة التي أنتمي إليها.

* في إطار دعوتك تجديد القراءة للنص بالذات تتناول مفهوم "الأمانة" كمصطلح قرآني، وتذهب إلى إعطائه المعنى الوجودي السارتري (نسبة لجون بول سارتر) كمرادف لمفهوم "القلق". فما هي حدود المطابقة لكلا المفهومين وخاصة أن المفهوم السارتري للقلق ينحو إلى "العدمية" وهو ما بينه سارتر في روايته "الغثيان" وفي مصنفه الفلسفي "الوجود والعدم"، وذلك مقابل الفهم الديني والإسلامي الذي يبني غايته وهدفه في تحقيق معنى "الاطمئنان"، والذي هو مفهوم ديني كلاسيكي ما قبل حداثي مقابل مفهوم القلق السارتري، الذي هو نتاج ثورة الحداثة الغربية وانجازاتها الفكرية متعددة الأبعاد والمتحررة من السكون والركون ضد النظرة دينية النسقية والتي ترى العالم بعين سكونية؟

** سبق وقلت لك أن كل الكتاب كاملات وخاصة الفلسفية، وأنا فيلسوف، آخذ منها منهجيتها وثراء قاموسها، ولا آخذ منها استنتاجاتها التي تجبرني على أن أدخل حزبا وجوديا أو أن أكون مدافعا معتنقا لفلسفات "هيديغير" أو "سارتر" أو غيرهما , فلا اخذ من هؤلاء إلا ما يعجبني من تراكم مناهجها التحليلية التي جعلت منها فلسفات والتي حرمنا منها لأننا همشنا مكانة الفيلسوف فأقصينا "الفارابي" و"الكندي" و"ابن رشد"... وجعلناهم دخلاء على ثقافتنا وسامح الله في ذلك المشايخ والمفسرين والذين لولاهم لما احتجت إلى البحث في مناهج غيرنا.

أعود إلى قضية " الأمانة" فأقول لاني استودعتك أمانة وابحث في رسالتك التي استودعتني ايها عن ماهية هذه الأمانة إن كنت أعطيتني جهازا تلفونيا أو مئة دينار أو غيرها فكيف اعرف ما هي "الأمانة" والقران لم يعرفها لنا في نفس الآية حيث يقول "قوله تعالى" إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ" (الأحزاب: 72).. ثم يقول تعالى "وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ".." فما هي "الأمانة"؟.

عندما نبحث في تركيبة القاموس والألفاظ القرآنية نجد أن كلمة الأمانة تتزاوج من بعيد مع كلمة أخرى لم ينتبه إليها أو شوهت في التفسير هي كلمة " فطرة " ونفس الجذر " فطر " تجده يعني " طبيعة الإنسان الأولى " وهو ما يقول به المفسرون والفطرة تعني " القطع والبتر " مثل في قوله تعالي " فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" (الأنعام: 14) وقوله " فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ " (الملك: 3) أي بمعنى القطع وبالعودة إلى البعد القاموسي وكذا يقول إبراهيم: " إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (الزخرف: 27) نذهب إلى معنى خلقني على وتيرة الطبيعة والذي فطري يعني إذا الذي أقامني على " بتر".. ولكن فلسفيا ما كنه هذا البتر؟ فإذا انتبهنا إلى هذا الأمر وعدنا إلى قضية "الأمانة" والفطرة لكونا فلسفة أعمق بكثير من الفلسفة الغربية الحديثة ذاتها والتي تعتبر بنيانا عال جدا رهيب في شكله من "كانط" إلى "هيغل" إلى "نيتشه" إلى غيرهم وهو بناء ثري ونحن منعنا من هذا الثراء لأننا إذا استعصت علينا كلمة في القران ومن أول المادة التاريخ الإسلامي إلى ألان نعطيها اعتباطا أي معنى للتخلص منها.

ففعل "فطر" هنا لا يعني إلا "قطع" لان علاقة الله بالعالم هي علاقة حدثية أرادها هو " أي لسبب لا بمكن أن نعرفه نحن بمعاييرنا الإنسانية " لأنه كان لا يحتاج إلى خلق وكان لا يحتاج إلى أن يعترف به قبل أن يخلق العالم فقد رد على الملائكة عندما عرض عليهم مشروع خلق الإنسان واعترضوا عليه في ذلك بقوله "إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ " (البقرة: 30) وهو عندما أراد خلق العالم أراد أن يجعل بيننا وبينه هذا " البتر" الذي يمكن أبدا أن نملأه فبيننا وبين الله هناك هوة هي التي أقامت الخلق وأقامت وجود الإنسان لذلك في أية الأمانة تنتهي بقوله تعالي أن قبول الإنسان لخلقه يجعل منه ".." "الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً" (الأحزاب: 72).

أي إنه اختار أن يقام على فراغ هو الذي يفرق مطلقا بين الله والعالم وهو ما تلك الذي الهوة لا يمكن أن تتلاقى ضفتاها أبدا, هذه الهوة التي هي الفطرة أعمق ما من مفهومي الطبيعة والسليقة. وكثير من لآيات يدعم ما أقول وخاصة أية " خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ" (الأنبياء: 37).. كل هذا قيل في الفلسفات الغربية التي جاءت العصور الحديثة.

فلماذا نحرم نحن بالقول بان لنا ما يدعم فلسفة عميقة في الإنسان وفي نظرية الإنسان منذ أربعة عشر قرنا وقبل هؤلاء بكثير.

* أراك تعتمد على " آيات الخلق " في موضع آخر وتستند عليها في بحثك في قضية الإسلام والحرية وتأخذ الكثير من المستشرق الفرنسي " جاك بيرك " ولكنك تعود بنا خاصة إلى ابن رشد وابن سينا وخاصة أن أطروحتك الفلسفية هي مقارنة بين " ابن سينا وسبينوزا " وتذهب إلى القول بان إجهاض مشروع الحرية في الفكر الإسلامي كان نتيجة هزيمة " الفلسفة الرشدية" في عقر دارها؟

** ليعلم قراء هذا الحوار أن أهم عمل قام به ابن رشد إضافة إلى تفسيره وتأويله لأرسطو واهم ما أصدره وما جاءنا منه هو كتاب كامل " فصل المقال في ما بين الحكمة والالشريعة الاسلامية من اتصال " وهو الكتاب كامل الذي يشغلنا إلى حد ألان وعندما صدر هذا الكتاب كامل لم يكن له اثر في الأحاديث العامة والكتب والمصنفات لمدة سبعة قرون إلى غاية القرن التاسع عشر حيث عثر عليه المستشرق الألماني " مولير " muller ونشره بلغته مادة اللغة العربية. وبدأ نحن نتحدث عن الكتاب كامل منذ أواخر عصر النهضة بطريقة محتشمة ولم يصبح ابن رشد معلما فكريا فلسفيا إلا في النصف الثاني من القرن العشرين , أفلا ليس الأحرى بحضارة تفتخر بذاتها وبتأصلها في الأرض أن تستحي من طمس هذا المفكر والعالم والقاضي والطبيب الذي ملا الدنيا وشغل الناس فينسى عمله الأهم حوالي سبعة قرون؟ فلنحاول أن نعلل هذه المظلمة المادة التاريخية.

إن ابن رشد يقول - وأنا أقول معه وأوافقه تماما – إني في موقع من الزمن والمكان قد غابت النبوة نهائيا وختمت بخاتم الأنبياء فلو كان لي أن اختار بين مقولة جديدة لها بعد نبوي ومقولة غيرها لها بعد عقلي فلا مناص من أن اختار ما يقبله عقلي لاني لم اعد قادرا على الانتماء لمقولة نبوية بعد ختم المادة التاريخ الرسالي.

هذا ما يمكن أن نقول لمن يريد معرفة أسباب تأخر البعد العقلي عندنا والذي يستوجب إقامة ورشة فكرية كبيرة وهي اكبر من أن يقودها إنسان فرد من المعاصرين وهي ورشة جماعية تبدأ بأعمال بسيطة وبعد ذلك تكون دور النشر وتكون الدول والمؤسسات والمعاهد فيما اسميه أنا ب " مبتدأ " مركز البحوث لتجديد الدراسات الإسلامية ".

* طيب أعود إلى تفاصيل كتاب كاملاتك وخاصة بموقفك المدافع عن صورة الرسول محمد في الأدبيات الغربية ونجدك تحدثنا عن النظرة السلبية التي قدم بها من قبل " فولتير " على سبيل المثال مقابل الصورة الايجابية لشخصية الرسول التي يقدمها عنه كل من " لامارتين " و" ديدوا " و"روسو " ولكن استوقفتني جملة قلت فيها التالي " أن محمد يختم فترة ما قبل مادة التاريخ الفكر الديني وانه يقع خارج هذه الفترة " (ص 47 من كتاب كامل طارق الليل) ماذا تعني تحديدا بهذه المقولة؟

** كل شخصية كبيرة في هذا العالم حتى ولو هي اقل بعدا وكثافة مادة التاريخية من النبي الرسول هي في اغلب ما أدرك منها " بناء " مادة التاريخي أقوم به شخصيا حسب موقعي المعرفي" فانا لا املك ولا يملك احد ما يجعلني المرء يستحضر حياة الرسول وشخصيته بطريقة لا تقبل الشك ويمكن لي مثلا إن أردت مثلا الاهتمام بشخصية والدك أن اتجه إلى البلديات وأن أعود إلى مراجعي الخاصة وأن اسأل أصحابه فأتيك بدراسة تستحضر والدك وكأنك أمامه وهذا لا يمكن أن يكون في حالة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. طبعا هناك السير المتناقضة والسير المتأخرة بعد موته وهذا لا يمكن مادة التاريخيا إن كنا جديين أن نعتمده حتى نتعرف على الرسول , هناك القرآن طبعا ولكن القرآن في الكثير من الأحيان يناقض السيرة ونرى أن الخطاب الذي يوجهه الله إلى رسوله هو خطاب صارم في بعض الأحيان غاضب "وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ " (الحج: 52).. ألا يمكن لدنيوي اليوم شيخا أو مؤرخا أن يقول هذا القول على الرسول صلى الله عليه وسلم ويتهمه "بالافتراء" لذلك كل ما قيل عن الرسول وكل ما سيقال عنه هو "بناء". وأنا باعتباري انتمي إلى هذه الحضارة أحاول بناء شخصية الرسول من خلال ما توفر لي من "الإشارات". وإذا اخذ هذه "الإشارات" عدو من أعداء الإسلام يمكن أن يبني شخصية مختلفة وربما سلبية عنه كان يأتي إنسان ويقول أن علاقته بالمرأة والطيب هي علاقة تدل على إنسانيته وتدل على حبه والحياة بينما يقول أخر بأنه إنسان " ماجن " وهذا موقف المثقفين الأوربيين في القرون الوسطى وموقعهم إلى ألان. فكل " بورتريه " لإنسان وخاصة العظماء مثل "لاسكندر الأكبر" و"عيسى بن مريم" والرسول محمد وغيرهم وبغض النظر عن علاقتي الإيمانية بهم وعلى اعتبارهم شخصيات مادة التاريخية هي "بناء" لاني لا امتلك المقومات التي تجعلني أقوم بسيرة ذاتية من هؤلاء تعتمد الدقة لذلك أنا اعترف باني عندما ابني في ذهني أو في الكتاب كاملة شخصية الرسول أنا ابنيها عن موقف ايجابي لست مطالبا بالتدليل عليه. أما عن منزلة الرسول كخاتم الأنبياء فهي قضية لم يبحث فيها أبدا إذ كيف يمكن لإنسان أن يقول أنا آخر الأنبياء وأن يصدقه الزمن فهل يمكن أن يمكن يقوم محامي أو طبيب من أعظم الأطباء في العالم ويقول أنا آخر الأطباء ويصدقه المادة التاريخ؟

إذا كان القرآن حياته. والقرآن يعلن: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" (الأحزاب: 40). وإذا افترضنا أننا نعيش معه وقال لنا ذلك: أي أنه آخر الأنبياء لما صدقنا أحد واعتقدت الديانات الموحدة في كونه آخر الأنبياء وهذه في حد ذاتها معجزة مادة التاريخية فإذا كان في حياته أغلق محمد النبوة التي هي حدث رافق الإنسانية منذ ملحمة "قلقامش " السومرية (تعود إلى حوالي 2100 قبل ميلاد المسيح) إلى عصر محمد صلى الله عليه وسلم فانه كان يقوم بذلك عن وعي بالنتائج المادة التاريخية التي يترتب عنها هذا الإعلان ومثله في ذلك مثل الذي أغلق بيتا فهو أمام فرض رائعيتين إما أن يغلقه وهو في داخله وإما يغلقه وهو خارجه وليس هناك حل ثالث , وإن كان أغلقه وهو فيه فهذا من الأشياء الغبية التي لا يمكن قبولها عن محمد صلى الله عليه وسلم لأنه وإما أن يغلقه وهو خارجه وليس فيه وبالتالي قد أغلق النبوة وخرج منها في حياته مع بقاء منزلة النبوة لكنه في هذه الحالة أصبح خارج ما أغلقه يعني في الموضع الذي يوجد فيه أنا وأنت أي في موضع العقل الإنساني البحت أي أن محمد لما أغلق النبوة كان في موضع العقل وعندما أغلق النبوة بشرنا بشيء كبير لم ننتبه إليه هو أن نور النبوة أشرق على خذا العالم وتأكد أن كل منا يمكن أن يحمل " نبوة ما" في "شيء ما" وهذه النبوة هي هذا العقل واستشهد هنا بتشابه الآيتين في سورتي " المؤمنين " والأخرى في سورة " يونس " وهاتين الآيتين هما " يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ " (الأنعام: 125) " وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ. لاَ يَعْقِلُونَ " (يونس: 100) يعني نفس العقاب على الذي" ليس له عقل" وعلى الذي " ليس له إيمان " والاتحاد هنا هو بين الإيمان والعقل ولذلك أغلق النبوة وبشرنا بان كل واحد منا في عمل معين قادر على الانتفاع بهذه البشرى في أن العقل بعد محمد رسول الله مساو للإيمان إن كان نيرا محضا لا قصد الظلم أو الرجس.

* هناك نقطة ثانية استلفتتني وأنت تتناول الدور السياسي لمحمد صلى الله عليه وسلم. فمن خلال أكثر من موضع ومقطع تؤكد على شخصية الرسول "كقائد دولة" (ص: 56 , 57 ,64). ألا تعتقد أن تركيزك على هذه الفكرة ينسف من حيث لا تدري "الفكر التنويري" الذي تدع إليه في نقدك للإسلام السياسي الحركي والقراءة التقليدية التراثية السياسية للتراث الإسلامي والتي تخلط بين السياسي والديني والتي تنتقدها في مواضع عديدة؟

** البعد السياسي بالمعنى العصري الأحادي للكلمة أعطيه معنى آخر. فعندما أفكر في الرسول صلى الله عليه وسلم لا أفكر في السياسي بمعنى التلاعب بين الأحزاب وتنظيم المظاهرات والحديث في البرلمان. فعندما أفكر في الرسول، وأقرن بينه وبين كلمة سياسة في مفهوم طريف وجديد يليق بالثورة التي أحدثها دخول هذا الرجل الذي "يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ" (الفرقان: 7) في المادة التاريخ, فقد احتكم الى إشكالية عظيمة جدا: كيف يمكن للإنسان أن يعمر البسيطة والأمكنة والفضاء؟ يستعرض القرآن الكريم ثلاثة مقولات واضحة دقيقة في هذا الموضوع، وهي ذهنية البداوة وطريقتها في التعامل مع الأمكنة والناس، ثم ذهنية القرية مع تعاملها أيضا مع نفس الأبعاد وهذا هو التجديد المحمدي القرآني. لقد فتح المدينة وجعلها فضاء مجمِّعا ومفتوحا في نفس الوقت. فعندنا البدوي أي الأعرابي هو في قاموس القرآن هو في المستوى الأدنى من احتضان واحتلال المكان، فهو الذي لا ذاكرة له، وإذا أقام حذو بئر فانه يستنفدها ليذهب بعد ذلك إلى بئر أخرى. ويحدد القران هذه الذهنية بطريقة لا مناص لنا من أن نصفها بالفلسفية؛ إذ يعتبر الأعرابي غير قادر على التعامل مع مفهوم الحدود "الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 97)، وهو الذي يدخل البيوت بدون استئذان ولا يدخلها من أبوابها إلى آخره مما قيل في سورة "الحجرات" التي اعتبرها بينا متكاملا مضادا للذهنية البدوية مضاد للآية المركزية ووهي التي تقول "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13) فالتعارف هو ما يناقض أساسا التبدد والنسيان.

ويواصل القران الكريم إيراد عملية اكتساح الإنسان للفضاء بأن حدد لنا مفهوما ثانيا بنفس الدقة والثبات في استعمال المفهوم حينما يحدثنا عن "فضاء القرية". فكلما ذكرت القرية في التنزيل كان لها معنى سالب. انظر لقوله تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" (الإسراء: 16)، وقوله: "وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ" (الشعراء: 208)، وحتى بالنسبة لمكة الوثنية "وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ" (محمد: 13)..

فما معنى كلمة قرية بالمعنى السوسيولوجي في ذلك الوقت؟ هي مثلا كقرية خيبر وقريتا "سدوم وعمورة" التي نسفت والتي سماها القران "الْمُؤْتَفِكَاتِ" (التوبة: 70)، وكمدائن صالح ومكة والطائف اللتان ذكرتا في أية واحدة ".. رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" (الزخرف: 31). والكلمة عامة في المجال الجغرافي المعروف زمن الرسول. وقبله فالعبرية تقول "كريات" واليونانية تقول "كريتوس" والفينيقية تقل "قرط" ومنها "قرطاج" أو الإله "ملقارط" أي ملك القرية. وأصل الكلمة من السومرية القديمة، وهي اللغة ذات المقطع الواحد للكلمة. وقد بقي لنا هذا المقطع في مادة اللغة العربية، ويعرف الثبات في المكان "قر". القرية إذا تستمد وجودها من العزلة خلف أسوارا منيعة، وتعيش داخل هذه الأسوار دون أن يكون لها تواصل مع العالم الآخر. البعد السياسي للرسول ورسالته في نظري هو أنه ذهب إلى أرقى ما يمكن من أشكال أعمار الأرض، وهو ما لم ننتبه إليه. فهو الذي غزى تبوك أو خيبر والطائف وقرى أخرى، ولم يغير أي من أسماء هذه القرى. فحتى الآن في القرن الواحد والعشرين ما زالت تبوك تسمى كذلك. لقد غير اسم قرية واحدة, "يثرب", فسماها "المدينة", انتبه فان كلمة "مدينة" بالمفرد لا توجد في النصوص القديمة أبدا؛ حيث لا توجد أية "معلقة" من "المعلقات" فيها لفظ "مدينة", الموجود هو لفظ "مدائن" بمعنى "حارات" أو مجموعة قرى وأفخاذ وبطون وبطاح، مثل "طيسفون" (باللغة الفارسية (تيس فون) عاصمة الدولة الساسنية التي عربها جغرافيونا منذ زمن طويل بلفظة "المدائن" وهو الموقع الموجود باسمه هذا حاليا قرب بغداد؛ بمعنى أحياء قبيلة تتوانس. وقد سمى محمد "يثرب" "المدينة" ونحن متأكدون مادة التاريخيا من ذلك؛ إذ أن هذه اللفظة متواجدة في القرآن بمعنييها علم جديد ليثرب القديمة، واسم مطلق لأي مدينة كانت كما في سورة "القصص" أو "ياسين": "وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى" (ياسين: 20)، وله في ذلك هدف سياسي كبير وهو أن "المدينة" التي أسسها لها ديدن سياسي في غاية الأهمية هو أنسنة الفضاء ببعديه الأمني وانفتاحه على السبل والمراعي وآفاق الفضاءات الأخرى؛ مما يعود لنا إلى الآية المركزية في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.." (الحجرات: 13) الذي ذكرناها آنفا.

أنا اذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إن اليهودية كما الإسلام حرمت الخنزير بقوة. وفي أية "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ.." إلى آخره من الآية التي تختم بـ "...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً” (المائدة: 3) لأنه من جملة الأشياء التي يخولها الخنزير هو العيش في القرية مع أقصى ما يمكن من التوفير الغذائي؛ إذ لا يحتاج الخنزير إلى مراعي ولا يحتاج أن أخرج به إلى خارج القرية المسورة، فأنا أستطيع أن أربيه داخل الأسوار، وأستطيع من لحمه أن أوفر الغذاء لعام كامل؛ حتى لو كنت محاصرا، وبالتالي فإن تحريمه له بعد أنثروبولوجي – سياسي؛ لأنه يوفر المناعة من "فتنة القرية". ومحمد بهذا الشكل جعل العالم يتواصل بشبكات من الطرقات للتنقل والتعارف، وهذا ما أقصده من معنى محمد السياسي. هذا فضلا عن كونه كان حكما في قضايا آنية بين سكان المدينة وحتى بين يهودها ومسيحيها أو مع أهله من المؤمنين من مهاجرين أو أنصار المهاجرين.

فلا اعتقد أن البعد السياسي الآني كرئيس بلدية في المدينة كان مهما جدا والأهم من هذا بكثير من انه أسس لانفتاح لمن يسكنوا في مكان ما تجاه باقي سكان المعمورة وهذا هو المعنى الأعمق للآية: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" (البقرة: 143). وأنبه في خاتمة حواري معك أن كلمة وسط في زمن القاموس القرآني لا تعني ما يحتل قلب مسافة ما، وإنما يعني الأفضل والأحسن أي تلك النقطة وسط الدائرة التي تتساوي فيها المسافات كلها بين المحيط والمركز؛ لذلك أشير أن كتب السيرة تقول أن الرسول تزوج خديجة وكانت "من أواسط قومها". وفي سورة القلم يذكر القران قول أحد الشخصيات فيذكر قوله: "قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ" (القلم: 28) أي أذكاهم وأفضلهم والأرجح رأيا.


يقدم البروفيسور يوسف الصديق في هذا الحوار رؤية بتجاوز ما أسماه حبس القرآن في الرسم العثماني. ونحن مع هذا الحوار نفتح الباب للرد عليه، وتطوير بذرة منهجية جديدة دعا إليها في ثنايا حواره.
المحاور هادي يحمد: صحافي تونسي مقيم بفرنسا، ومراسل أون إسلام.نت.





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©