من مادة التاريخ الحضارة الإسلامية
مادة التاريخ الحضارة الإسلامية حافل بالصفحات المشرقة التي تؤكد أن هذه الحضارة المتفتحة على الكون قد قدمت للفكر الإنساني ما يرقى به في كل جانب من جوانب نشاطه.والإسلام فيما أوصى به من تعاليم وآداب قد استهدف إنسانية الإنسان وتنمية جانب الحياة الإنسانية فيه من الإدراك والوجدان والإرادة في العلم.وجانب الوجدان ليس هو العاطفة وحدها ولكنه التفاعل مع النفس والإنسان في المجتمع ومجال الحياة كلها إنه في الحقيقة إدراك الجمال والتعاطف، جمال السلوك وجمال القول وجمال الصنع وجمال الإنسانية وجمال العلاقات وجمال الطبيعة.والمحسن في نظر الإسلام هو صاحب الوجدان الرفيع الذي يبعث على الارتياح وعلى السرور كي يستريح الإنسان مع نفسه ويسر بوجود غيره معه.

والمؤمن الصادق هو الذي يشعر بإنسانيته ويدرك مستواه ثم يرى هذا المستوى في أن يكون ذا إحسان ووجدان وعاطفة.والإسلام يطلب من المسلمين أن يفعلوا الخير دائماً وأبداً وهذا هو شأن الإسلام رأفة ورحمة بالإنسان ورفقاً بالحيوان لأن الإنسان والحيوان كليهما يتألم بالجوع والعطش وينفعل بشتى العواطف والأحاسيس.ولهذا كان الإنسان مأمورا بالانتفاع بالحيوان والطير في حدود لا تؤذيه ولا تحول بينه وبين ما يشتهيه من طعام وشراب.إذا كانت الحضارة الحديثة وصلت في القرن العشرين إلى ما يعرف بجمعيات الرفق بالحيوان فإن الإسلام سبق الحضارة الحديثة بأكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان. يقول الكاتب عبد الرحمن عزام في (أبرز صفات النبي صلى الله عليه وسلم ).فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - ليقصر رحمته على الناطقين من بني الإنسان فإن هذه الرحمة ملكت مشاعره وحفزته لكفاح موفق في سبيل الرفق بالحيوان فكم كان للعرب من عادات مرذولة أنكرها وأزالها، كانوا يقتطعون من حيواناتهم وهي حية فيشوون ويطعمون الحرم ذلك وكان العرب يتخذون من دوابهم أهدافاً للرماية فنهى عن ذلك.وفي السنة المطهرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح عليه فهدأ وسكت فقال:من صاحب هذا الجمل ؟ فقال فتى من الأنصار هو لي يارسول الله فقال أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا لي أنك تجيعه وتدئبه.ويرى العلماء الباحثون: أن هذا الحديث يوحي بمعان شريفة ذات دلالات عميقة. أولا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عظيم الرفق رقيق القلب حتى إنه استجاب لحنين الجمل ورحم دموعه التي سالت حين رآه وذهب إليه مبديا له عاطفته ماسحاً على رقبته وظهره وكأنه يواسيه. ثانيا: أن مظهره صلى الله عليه وسلم كان مظهر الإنسان الهادئ الطلق المحيا وهذا أمر يأنس به الحيوان كما يأنس به الإنسان وله شواهد كثيرة فيما نراه من تبادل المحبة بين إنسان وحيوان وكأنما من جنس واحد ولذلك أنس به الجمل وحن إليه وذرفت عيناه رمزاً لشكواه. ثالثا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فهم عن هذا الحيوان ما أراده بطريق الفراسة والنظر في حاله وجسمه كأنه رآه مع حنينه وبكائه هزيلاً ضعيفاً فأدرك أنه متعب مجوع وأن هذا إنما كان نتيجة لعدم تقوى صاحبه في شأنه ولذلك سأل صاحبه وقال له ما قال. وروى البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينما رجل يمشي فاشتد به العطش فنزل بئرا ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: لقد بلغ هذا الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له.قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا ؟ قال: في كل كبد رطبة أجر.وقال عليه الصلاة والسلام عذبت امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من حشائش الأرض.وهكذا يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إحسان رجل إلى كلب انتهى بهذا الرجل إلى أن رحمه الله وغفر له ذنوبه فصار من أهل الجنة.وكل مؤمن في نظر الإسلام مطالب بأن يكون ذا وجدان على هذا النحو ومن الوجدان الرفيع يتكون السلوك الرفيع وآدابه وما يستهدفه من معان ومثل وقيم عليا.وهكذا يقرر الرسول أيضا: أن إساءة امرأة إلى هرة انتهت بهذه المرأة إلى غضب الله عليها ودخولها النار.أمثال حية جاءت من الواقع الذي يُحس ويُرى يضربها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم ما كانوا يظنون في الرفق بالحيوان أجراً، وقد كان لهذه الأمثال والتوجيهات أكبر الأثر في نفوس المسلمين ومن تأدب بأدبهم من الشرق والغرب، ويذكر أن عائشة رضى الله عنها قست على بعير ركبته فقال - صلى الله عليه وسلم - من يحرم الرفق يحرم الخير كله.وفي سنن أبي داود من حديث عامر قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد لف عليه طرف كسائه فقال يا رسول الله إني لما رأيتك أقبلت فمررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فوضعتهن في كسائي. فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عليهم فلففتها معهن وهاهن فيه معي. قال صلى الله عليه وسلم ضعهن عنك فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن.قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتعجبون لرحمة أم الفراخ بفراخها ؟ قالوا نعم يا رسول الله قال: فو الذي بعثني نبيا لله أرحم بعباده من أم هؤلاء الأفراخ بفراخها.أرجع بهن حتى تضعهن حيث أخذتهن فرجع بهن وأمهن ترفرف عليهن.وهذا الحديث فوق دلالته على رقة قلب الرسول وقوة رحمته يدل على أمور منها: أن الرسول وأصحابه ظلوا يتأملون أم الفراخ وهي تلزم أفراخها وتأبى أن تفارقهن ولا ترضى أن تنجو بنفسها دونهن فعرفوا جميعاً أن ذلك راجع إلى ما أورده الله في قلبها من الرحمة لأفراخها ورأوا فضل الله في ذلك وبديع صنعه وعجيب سره وهذا شأن المؤمنين يتدبرون في كل ما يمر بهم.ومنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انتهز الفرصة في براعة عظيمة وسرعة خاطر فذكر أصحابه بمعنى من شأنه أن يبعث في قلوبهم الاستبشار والتفاؤل والحب لله عزوجل وذلك حين ذكر لهم بعد أن عرف تعجبهم من رحمة أم الفراخ أن الله أرحم بعباده منها بأفراخها.وهذا مثل للداعية وصاحب المبدأ يلتمس الفرصة أينما أمكنت وذلك خير له من خطبة يحبرها أو رسالة يحررها.والرحمة رقة تقتضي الإحسان وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة، إذا وصف رب العزة بالرحمة فليس يراد بهذا الوصف إلا الإحسان المجرد.وعلى هذا روى أن الرحمة من الله أنعام وأفضال ومن الناس رقة وتعطف. وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل رجل فأخرج بيض حمرة وهي ضرب من الطيور أحمر اللون فجاءت الحمرة ترف على رأس الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أيكم فجع هذه ؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله أخذت بيضها وفي رواية أخذت فرخها فقال - صلى الله عليه وسلم رده رده رحمة لها.وقال عبد الرحمن بن عبد الله: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأينا حمرة معها فرخان لها فأخذناهما فجاءت الحمرة تعرض أي ترفرف فلما جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها.فأي توجيه وأي تهذيب وأي دعوة إلى الرقة والرحمة بالطير والحيوان أقوى مما نفهمه من هذه العلامات المضيئة التي أرسى قواعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لقد طبق المسلمون كل كلمة سمعوها من الرسول الأمين وكانت توجيهات الرسول الرائد للإفهام والعقول، وهذا أبو بكر الصديق خليفة المسلمين فيقول: (ولا تقتل هرما ولا امرأة ولا وليداً ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا ما أكلت ولا تحرقن نخلا ولا تخربن عامراً).وعمر بن الخطاب – رضى الله عنه – يرى في الطريق جملاً يحمل فوق طاقته فيضرب الجمّال بدرته ويقول حملت جملك مالا يطيق.هذه هي حضارة الإسلام في الرفق بالحيوان والطير جاء بها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ليعلم الإنسانية أدب الرحمة.وإذا كان هذا فيما يختص بالحيوان والطير فإن ما يختص بالإنسان يعد قيمة اجتماعية كبرى تحتاج إلى طرفين رحيم ومرحوم والصلة بينهما هي الرحمة.فالرحمة هي العملة التي يجب أن يتداولها الناس العقلاء ويمكن أن تترجم هذه العملة المعنوية إلى لغة محسوسة أو ما شئت من ألوان النعم التي يقوم عليها العمران والاجتماع والرقي.ومن هذا المنطق الإسلامي كانت الرحمة قيمة عليا تدل على صدق الإخلاص وسلامة الضمير وقوة الوجدان والإحساس بالجمال.




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©