الجزء10
صدقة( )، وقد أخذ من الركاز (المال المدفون) -إذا عثر عليه- الخمس، وحرص على تداول الأموال وتشغيلها لئلا تذهب بها الزكاة مع تعاقب الأعوام( )، فكان عنده مال ليتيم فأعطاه للحكم بن العاص الثقفي ليتجر به( )، إذ لم يجد عمر وقتاً للتجارة لانشغاله بأمور الخلافة، وعندما صار الربح وفيراً من عشرة آلاف درهم إلى مائة ألف شك عمر في طريقة الكسب، ولما علم أن التاجر استغل صلة اليتيم بعمر رفض جميع الربح واسترد رأس المال حيث اعتبر الربح خبيثاً( )، فهو يعمل بمبدأ فرض رائعه على ولاته وهو رفض استغلال مواقع المسؤولية في الدولة، ومن هنا قاسم الولاة ثروتهم إذا نمت بالتجارة( )، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن الولاة بإذن الله تعالى، وقد أخذ عمر في زكاة الزروع العشر فيما سقته الأمطار والأنهار ونصف العشر فيما سقي بالآلة( )، وهو الموافق للسنة، وكان يوصي بالرفق بأصحاب البساتين عند تقدير الحاصل من التمر( )، وأخذ زكاة عشرية من العسل إذا حمت الدولة وادي النحل لمستثمره( )، وقد كثرت الحنطة في خلافته، فسمح بإخراج زكاة الفطر من الحنطة بنصف وزن ما كانوا يؤدونه قبل خلافته من الشعير أو التمر أو الزبيب( )، وهذا فيه تيسير على الناس، وقبول للمال الأنفس في الزكاة وإن تفاوت الجنس( )، وأما بخصوص مقادير أموال الزكاة التي كانت تُجنى كل عام فأمر غير معروف، والإشارات التي تذكر بعض الأرقام إشارات جزئية وغير دقيقة، ولا تنفع في إعطاء تقدير كلي، وقد قيل إن عمر بن الخطاب حمى أرض الربذة لنعم الصدقة، وكان يحمل عليها في سبيل الله، وكان مقدار ما يحمل عليه كل عام في سبيل الله أربعين ألفاً من الظهر( )، وأما الموظفون الذين أشرفوا على هذه المؤسسة فقد ذكرت المصادر أسماء عدد منهم في خلافة عمر رضي الله عنه وهم، أنس بن مالك، وسعيد بن أبي الذباب على السراة وحارث بن مضرب العبدي، وعبد الله بن الساعدي، وسهل بن أبي حثمة، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ومعاذ بن جبل على بني كلاب، وسعد الأعرج، على اليمن، وسفيان بن عبد الله الثقفي كان والياً على الطائف فكان يجبي زكاتها( ).
2- الجزية:
هي الضريبة التي تفرض رائع على رؤوس من دخل ذمة المسلمين من أهل الكتاب كامل( )، وقيل هي الخراج المحمول على رؤوس الكفار إذلالاً لهم (وصغاراً) ( ) لقوله تعالى:  قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)  (التوبة،آية:29).
وتؤخذ الجزية من أهل الكتاب كامل: وهم اليهود والنصارى وهو إجماع لا خلاف فيه ومن لهم شبهة كتاب كامل: وهم المجوس، وقد حار عمر رضي الله عنه في أمرهم في أول الأمر، أيأخذ منهم الجزية؟ أو لا يأخذها؟ حتى قطع عبد الرحمن بن عوف حيرته حين حدّثه أن رسول الله  أخذها من مجوس هجر( )، فقد روى ابن أبي شيبة وغيره أن عمر كان بين القبر والمنبر فقال: ما أدري ما أصنع بالمجوس، وليسوا بأهل كتاب كامل، فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله  يقول: سُنوا بهم سُنة أهل الكتاب كامل( )، وفي حديث آخر أن عمر لم يرد أن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر( )، وقد علل العلماء أخذها من المجوس بأنهم كانوا في الأصل أهل كتاب كامل، وإنما طرأت عليهم عبادة النار بعد ذلك، وعندئذ أخذها من أهل السواد( ) وأخذها من مجوس فارس وكتب لجزء بن معاوية: انظر مجوس من قِبَلك فخذ منهم الجزية فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله أخذها من مجوس هجر( )، وهي تجب على الرجال الأحرار العقلاء، ولا تجب على امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا عبد لأنهم أتباع وذراري، كما أن الجزية لا تؤخذ من المسكين الذي يتصدق عليه ولا من مقعد، والمقعد والزَّمِن إذا كان لهما يسار أخذت منهما وكذلك الأعمى وكذلك المترهبون الذين في الديارات إذا كان لهم يسار أخذ منهم، وإن كانوا مساكين يتصدّق عليهم أهل اليسار لم يؤخذ منهم( )، وتسقط الجزية، بالموت، فإذا مات من تجب عليه الجزية سقطت الجزية، لأن الجزية واجبة على الرؤوس، فإذا فاتت الرؤوس بالموت سقطت، وبالإسلام، فإذا أسلم من فرض رائعت عليه الجزية، سقطت عنه بإسلامه، فقد أسلم رجلان من أهل أليس، فرفع عنهما جزيتهما( )، وأسلم الرقيل دهقان النهرين ففرض رائع له عمر في ألفين ووضع عن رأسه الجزية( )، ومن الجدير بالذكر أن الجزية تسقط عن العام الذي أسلم فيه الذمي، سواء كان إسلامه في أوله أو في وسطه أو في آخره، قال عمر: إن أخذ الجزية الجابي بكفه ثم أسلم صاحبها ردها عليه( )، وتسقط بالافتقار، فإذا افتقر الذمي بعد غنى وأصبح غير قادر على دفع الجزية سقطت عنه الجزية وقد أسقطها عمر عن الشيخ الكبير الضرير البصر عندما رآه يسأل الناس( ) وفرض رائع له ما يعوله من بيت المال، وتسقط عند عجز الدولة عن حماية الذميين، لأن الجزية ما هي إلا ضريبة على الأشخاص القاطنين في أقاليم الدولة الإسلامية، وتدفع هذه الضريبة في مقابل انتفاعهم بالخدمات العامة للدولة، علاوة على أنها نظير حمايتهم والمحافظة عليهم وبدل عدم قيامهم بواجب الدفاع عن الدولة ومواطنيها( )، ومن الأدلة على أن الجزية في مقابل الحماية، ما قام به أبو عبيدة بن الجراح، حينما حشد الروم جموعهم على حدود البلاد الإسلامية الشمالية، فكتب أبو عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا
ما جمع لنا من الجموع وأنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم أموالهم التي جبيت منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم (أي الروم) فلو كانوا هم ما ردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئاً( )، كما تسقط إذا قاموا هم بعبء الدفاع بتكليف من الدولة كما حدث في العهد الذي وقعه سراقة بن عمرو مع أهل طبرستان بعد أن وافقه عمر على ذلك( ).
وأما قيمتها فقد كانت غير محددة واختلفت من إقليم لآخر بحسب قدرة الناس، وظروف الإقليم، فقد وضع على أهل السواد، ثمانية وأربعين درهماً، وأربعة وعشرين درهماً، بحسب حال كل واحد من اليسار، يؤخذ ذلك منهم كل سنة، وإن جاءوا بعرض قبل منهم مثل الدواب والمتاع وغير ذلك ويؤخذ منهم بالقيمة( )، وجعل على أهل الشام أربعة دنانير وأرزاق المسلمين من الحنطة مدين وثلاثة أقساط من زيت لكل فرد، وعلى أهل الفضة أربعين درهماً وخمسة عشر صاعاً لكل إنسان وعلى أهل مصر دينارين لكل حالم إلا أن يكون فقيراً( )، وأما أهل اليمن فقد خضعت للإسلام في عهد النبوة، وفرض رائعت الجزية على كل رجل دينار أو عدله معافر، وتشير روايات ضعيفة إلى بقاء هذه الجزية على أهل اليمن دون تغير في خلافة عمر ورغم ضعفها فإنها تتفق مع سياسة عمر في مراعاة أحوال الرعية، وعدم تغيير الإجراءات النبوية( )، فالجزية كانت تختلف بحسب يسار الناس وبحسب غنى الإقليم كذلك، وكانت تخضع للاجتهاد بما يكون من طاقة أهل الذمة بلا حمل عليهم ولا إضرار( )، وكان عمر يأمر جباة الجزية بأن يرفقوا بالناس في جبايتها، وعندما أتي عمر بمال كثير فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله، ما أخذنا إلا عفواً صفواً، قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني( )، ومن أشهر الموظفين في هذه المؤسسة عثمان بن حنيف، وسعيد بن حذيم، وولاة الأمصار كعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم.
وقد نظمت الجزية بمجموعة من الأحكام والقوانين استمدها الفقهاء والمشرعون من نصوص القرآن والسنة وعمل الخلفاء الراشدين ودلت تلك الأحكام على أن مؤسسة الجزية من مصادر الدولة الإسلامية، كما أن لها صفة سياسية، فدفع أهل الذمة للدولة دليل على إخلاصهم لها وخضوعهم لأحكامها وقوانينها والوفاء بما عاهدوا عليه( )، ويذهب الأستاذ حسن الممّي بأن مؤسسة الجزية لها صبغة سياسية أكثر منها صبغة مالية( )، والحقيقة أن هذه المؤسسة جمعت بين الصبغتين وهي من مصادر الثروة في الدولة الإسلامية.

- أخذ عمر الصدقة مضاعفة من نصارى تغلب:
كان بعض عرب الجزيرة من النصارى قد رفضوا دفع الجزية لكونهم يرونها منقصة ومذمة، فبعث الوليد برؤساء النصارى وعلمائهم إلى أمير المؤمنين فقال لهم: أدُّوا الجزية. فقالوا لعمر: أبلغنا مأمننا، والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم والله لتفضحُنَّا من بين العرب، فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم فيمن خالف وافتضح من عرب الضاحية، والله لتؤدنَّه وأنتم صَغَرة قَمأَة (يعني حقيرين) ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم، ثم لأسبينكم قالوا: فخذ منا شيئاً ولا تسمه جزاء، فقال: أما نحن فنسميه جزاء وسموه أنتم ما شئتم، فقال له علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين ألم يُضْعِف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال: بلى، وأصغى إليه فرض رائعي به منهم جزاء، فرجعوا على ذلك( )، ومن هذا الخبر نأخذ درساً في معاملة المتكبرين من الأعداء الذين يخاطبون المسلمين بعزة وأنفة ويهددون باللجوء إلى دول الكفر، فنجد أمير المؤمنين خاطبهم بعنف وحقّرهم وهددهم إذا لجأوا إلى الكفار بالسعي في إحضارهم ومعاملتهم كمعاملة الحربيين من سبي ذراريهم ونسائهم، وهذا أشد عليهم كثيراً من دفع الجزية، فهذا الجواب القوي أزال ما في رؤوسهم من الكبرياء والتعاظم فرجعوا متواضعين يطلبون من أمير المؤمنين أن يوافق على أخذ ما يريد من غير أن يُسمِّي ذلك جزية، وهنا تدخل علي رضي الله عنه وكان لرأيه مكانة عند عمر لفقهه في الدين، فأشار عليه بأن يُضعِف الصدقة كما فعل سعد بن أبي وقاص بأمثالهم، فقبل ذلك أمير المؤمنين تألفاً لهم ومنعاً من محاولة اللجوء إلى دول الكفر، وقد أصبح هذا الرأي مقبولاً حينما وقع موقعه، وذلك بعد ما أزال أمير المؤمنين ما في نفوسهم من العزة والكبرياء، فأما لو قبل ذلك منهم في بداية العرض فإنهم سيعودون بكبريائهم ولا يؤمن منهم بعد ذلك أن ينقضوا العهد ويسيئوا إلى المسلمين( ).
وقد جاء في رواية عن قصة بني تغلب، بأنهم دعوا إلى الإسلام فأبوا، ثم إلى الجزية فلم يطمئنوا إليها، وولوا هاربين يريدون اللحاق بأرض الروم، فقال النعمان بن زرعة لعمر: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال إنما هم أصحاب حروث ومواشي، ولهم نكاية في العدو فلا تعن عدوك عليك بهم قال: فصالحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على أن ضاعف عليهم الصدقة( ).. وقال: هي جزية وسموها ما شئتم( )، فقال بنوا تغلب: أما إذا لم تكن جزية كجزية الأعلج فإنا نرضى ونحفظ ديننا( )، والسر في قبول الخليفة عمر رضي الله عنه، الصدقة من بني تغلب وهل تعد صدقة أم جزية؟ يرجع إلى أن الاختلاف في التسمية أمر قد تسوهل فيه ورضي الخليفة به مادام في ذلك المصلحة العامة، والذي دفعه إلى ذلك خشية انضمام بني تغلب إلى الروم وما كان يرجوه من إسلامهم ليكونوا عوناً للمسلمين على أعدائهم ولأن هؤلاء قوم من العرب لهم من العزة والأنفة ما يبرر حفظ كرامتهم وأن ما يرد إلى بيت المال من أموالهم خير للمسلمين وأجدى على خزانة الدولة من هربهم وانضمامهم إلى صفوف الروم( )، أما من ناحية هل هي صدقة أم جزية؟ فهي جزية لأنها تصرف في مصارف الخراج ولأن الصدقة لا تجب على غير المسلمين، ولأن الجزية في نظير الحماية وكان بنو تغلب في حماية المسلمين، وفي الوقت نفسه يمكننا أن نقول إنّها ليست بجزية عملياً، لأن ما فرض رائع على نصارى بني تغلب كان على الأموال التي تفرض رائع عليها الزكاة، فكل شيء على المسلمين فيه زكاة كالزروع والثمار والماشية والنقدين.. فهو عليهم مضاعف يؤخذ من النساء كما يؤخذ من الرجال ولم يكن على الأشخاص وهذا ينافي معنى الجزية عرفاً( )، والمهم في كلتا الحالتين باعتبارها صدقة أو جزية فهي ضريبة بينت مدى خضوعهم لسلطة الإسلام( )، هذا وقد كانت هنالك حقوق والتزامات كثيرة للعرب على البلاد المفتوحة عدا الجزية، وقد تنوعت هذه الحقوق وتطورت أيام الخليفة عمر رضي الله عنه، فمن ذلك ضيافة الحاكم إذا وفد والرسل والسفراء ومن نزل من المسلمين بأهل البلاد وقد حددت مدة الضيافة في خلافة عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام مما يأكلون ولا يكلفون بذبح شاة ولا دجاجة ولا مما لا طاقة لهم به( )، وقد مرّ معنا عند حديثنا عن التطوير العمراني في عهد عمر أن بعض الاتفاقيات في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه اشتملت على إصلاح الطرق، وإنشاء الجسور وبناء القناطر وقد تطور نظام الجزية في عهد عمر رضي الله عنه، فأحصى السكان وميز بين الغني والفقير ومن التعليم المتوسط الحال، واستحدث كثيراً من الشروط والالتزامات في نصوص المعاهدات مما لم يعرف من قبل وذلك لاتساع العمران وبسط السلطان على مصر والشام والعراق ومخالطة المسلمين لأهل البلاد واتصالهم الدائم بحضارتها مما مكنهم من سياسة الدولة وشئون العمران وما تتطلبه طبيعة التدرج والنمو فأوجدوا ما لم يكن موجوداً من إصلاح الطرق والعمران وبناء القناطر والجسور التي هي عون الأمم المتحضرة، ومن هنا انتظمت الأمور، واتسعت البلاد ورسخت قواعد النظم المالية وغيرها( ).

- شروط عقد الجزية ووقت أدائها:
وقد استنبط الفقهاء من خلال عصر الخلفاء الراشدين مجموعة من الشروط:
• أن لا يذكروا كتاب كامل الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له.
• أن لا يذكروا رسول الله  بتكذيب ولا إزدراء.
• أن لا يذكروا دين ا لإسلام بذم له ولا قدح فيه.
• أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح.
• أن لا يفتنوا مسلماً عن دينه، ولا يتعرضوا لماله ولا دينه.
• وأن لا يعينوا أهل الحرب ولا يودّوا أغنياءهم( ).
وأما وقت أدائها فقد حدد الخليفة عمر رضي الله عنه وقت أداء الجزية في آخر الحول ومرادنا به آخر العام الزراعي، ويرجع هذا التغيير في وقت أداء الجزية في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه إلى حالة الاستقرار والاستقرار يدعو إلى التنظيم وتعيين الأوقات المناسبة للدولة والمكلفين بدفع الجزية، كما أن تحصيلها وقت إتيان الغلات - وهو ما يعبر عنه المؤرخون بآخر العام - فيه دفع للمشقة، وتسهيل على المكلفين وراحة للدافعين( ).

1- الخراج:
الخراج له معنيان: عام وهو كل إيراد وصل إلى بيت مال المسلمين من غير الصدقات، فهو يدخل في المعنى العام للفيء ويدخل فيه إيراد الجزية وإيراد العشور وغير ذلك، وله معنى خاص: وهو إيراد الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها الإمام لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من العراق والشام( )، والخراج كما قال ابن رجب الحنبلي لا يقاس بإجارة ولا ثمن، بل هو أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره( ).
عندما قويت شوكة الإسلام بالفتوحات العظيمة وبالذات بعد القضاء على القوتين العظيمتين الفرس والروم، تعددت موارد المال في الدولة الإسلامية وكثرت مصارفه، وللمحافظة على كيان هذه الدولة المترامية الأطراف وصون عزها وسلطانها، وضمان مصالح العامة، والخاصة كان لابد من سياسة مالية حكيمة ورشيدة، فكر لها عمر رضي الله عنه، ألا وهي إيجاد مورد مالي ثابت ودائم للقيام بهذه المهام، وهذا المورد هو:الخراج فقد أراد الفاتحون أن تقسم عليهم الغنائم من أموال وأراضٍ وفقاً لما جاء في القرآن الكريم خاصاً بالغنائم  وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(41)  (الأنفال،آية:41).
وقد أراد عمر رضي الله عنه في بداية الأمر تقسيم الأرض بعد الفاتحين، لكن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عدم التقسيم، وشاركه الرأي معاذ بن جبل، وحذر عمر من ذلك( )، وقد روى أبو عبيد قائلاً: قدم عمر الجابية فأراد قسم الأراضي بين المسلمين فقال معاذ: والله إذاً ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يَسُدون من الإسلام مَسَداً، وهم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم( )، لقد نبه معاذ بن جبل رضي الله عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى أمر عظيم، جعل عمر يتتبع آيات القرآن الكريم، ويتأملها مفكراً في معنى كل كلمة يقرأها حتى توقف عند آيات تقسيم الفيء في سورة الحشر، فتبين له أنها تشير إلى الفيء للمسلمين في الوقت الحاضر، ولمن يأتي بعدهم، فعزم على تنفيذ رأي معاذ رضي الله عنه، فانتشر خبر ذلك بين الناس ووقع خلاف بينه وبين بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فكان عمر ومؤيدوه لا يرون تقسيم الأراضي التي فتحت، وكان بعض الصحابة ومنهم بلال بن رباح، والزبير بن العوام يرون تقسيمها، كما تقسم غنيمة العسكر، كما قسم النبي  خيبر، فأبى عمر رضي الله عنه التقسيم وتلا عليهم الآيات الخمس من سورة الحشر من قوله تعالى:  وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6)  (الحشر،آية:6) حتى فرغ من شأن بني النضير ثم قال: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)  (الحشر،آية:7) فهذه عامة في القرى كلها، ثم قال:  لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ(8)  (الحشر،آية:8) ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(9)  (الحشر،آية:9) فهذا في الأنصار خاصة ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال:  وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(10)  (الحشر،آية:10)، فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم، فما من أحد من المسلمين إلا له في هذا الفيء حق، قال عمر: فلئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه( )، وفي رواية أخرى جاء فيها. قال عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت، ما هذا برأي، فقال له: عبد الرحمن ابن عوف فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم، فقال عمر ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كلا على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل لهذا البلد وبغيره من أراضي الشام والعراق؟ فأكثروا على عمر وقالوا: تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم وأبناء أبنائهم ولم يحضروا، فكان عمر رضي الله عنه، لا يزيد على أن يقول: هذا رأي، قالوا: فاستشر، فأرسل إلى عشرة من الأنصار من كبراء الأوس والخزرج وأشرافهم فخطبهم، وكان مما قال لهم: إني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي ثم قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها واضعاً عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين، المقاتلة والذرية، ولمن يأتي من بعدهم، أرأيتم هذه الثغور
لا بد لها من رجال يلزمونها أرأيتم هذه المدن العظام لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم فمن أين يُعطى هؤلاء إذا قسمت الأرض والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعم ما قلت ورأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يَتَقَوّوْن به رجع أهل الكفر إلى مدنهم( )، وقد قال عمر فيما قاله: لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم، ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل الله لهم فيها الحق بقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ثم قال: فاستوعبت الآية الناس إلى يوم القيامة، وبعد ذلك استقر رأي عمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم على عدم قسمة الأرض( ).
وفي حواره مع الصحابة يظهر أسلوب الفاروق في الجدل، وكيف جمع فيه قوة الدليل، وروعة الصورة، واستمالة الخصم، في مقالته التي قال للأنصار، عند المناقشة في أمر أرض السواد، ولو أن رئيساً ناشئاً في السياسة، متمرساً بأساليب الخطب البرلمانية أراد أن يخطب النواب (لينال موافقتهم) على مشروع من المشروعات لم يجيء بأرقّ من هذا المدخل، أو أعجب من هذا الأسلوب؟ وامتاز عمر فوق ذلك بأنه كان صادقاً فيما يقول، ولم يكن فيه سياسياً مخادعاً وأنه جاء به في نمط من البيان يسمو على الأشباه والأمثال( ).

- هل كان الفاروق مخالفاً للنبي  في حكم أرض الخراج:
من قال: إن الفاروق خالف الرسول  بفعله في عدم تقسيم أرض الخراج، لأن النبي  قسم خيبر، وقال: إن الإمام إذا حبس الأرض المفتوحة عنوة نقض حكمه لأجل مخالفة السنة، فهذا القول خطأ وجرأة على الخلفاء الراشدين – إذا فعلوا هذا الفعل – فإن فعل النبي  في خيبر إنما يدل على جواز ما فعله ولا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل على عدم وجوب ذلك، لكان فعل الخلفاء الراشدين عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم دليلاً على عدم الوجوب، فكيف وقد ثبت أنه فتح مكة عنوة كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة، بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسير؟ فإنه قدم حين نقضوا العهد ونزل بمر الظهران، ولم يأت أحد منهم يصالحه ولا أرسل إليهم أحداً يصالحهم، بل خرج أبو سفيان يتجسس الأخبار فأخذه العباس وقدم به كالأسير وغايته، أن يكون العباس أمنه فصار مستأمناً، ثم أسلم فصار من المسلمين، فكيف يتصور أن يعقد صلح الكفار – بعد إسلامه بغير إذن منهم؟ مما يبين ذلك أن النبي  علق الأمان بأسباب، كقوله: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن( )، فأمن من لم يقاتله، فلو كانوا معاهدين لم يحتاجوا إلى ذلك، وأيضاً، فسماهم النبي  طلقاء؛ لأنه أطلقهم من الأسر كثمامة بن أثال وغيره، وأيضاً فإنه أذن في قتل جماعة منهم من الرجال والنساء، وأيضاً فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال في خطبته: إن مكة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة( ).
ودخل مكة وعلى رأسه المغفر ولم يدخلها بإحرام، فلو كانوا صالحوه لم يكن قد أحل له شيء، كما لو صالح مدينة من مدائن الحل لم تكن قد أحلت فكيف يحل له البلد الحرام وأهله مسالمون له صلح معه؟! وأيضاً فقد قاتلوا خالداً وقتل طائفةً من المسلمين طائفةً من الكفار، وفي الجملة، فإن من تدبر الآثار المنقولة علم بالاضطرار أن مكة فتحت عنوة، ومع هذا فالنبي  لم يقسم أرضها كما لم يسترق رجالها، ففتح خيبر عنوة وقسمها، وفتح مكة عنوة ولم يقسمها، فعلم جواز الأمرين( )، وبذلك لم يكن الفاروق مخالفاً للهدي النبوي في عدم تقسيمه للأراضي المفتوحة، وقد كان سنده فيما فعل أموراً منها:

1- آية الفيء في سورة الحشر.
2- عمل النبي ي حينما فتح مكة عنوة فتركها لأهلها ولم يضع عليها خراجاً.
3- قرار مجلس الشورى الذي عقده عمر لهذه المسألة بعد الحوار والمجادلة وقد أصبح سنة متبعة في أرض يظهر عليها المسلمون ويقرون أهلها عليها وبهذا يظهر أن عمر حينما ميز بين الغنائم المنقولة وبين الأراضي كان متمسكاً بدلائل النصوص، وجمع بينها وأنزل كلا منها منزلته التي يرشد إليها النظر الجامع السديد يضاف إلى ذلك أن عمر كان يقصد أن تبقى لأهل البلاد ثرواتهم وأن يعصم الجند الإسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدعة والانشغال بالثراء والحطام( ).

إن الفاروق رضي الله عنه كان يلجأ إلى القرآن الكريم يلتمس منه الحلول ويطوف بين مختلف آياته، ويتعمق في فهم منطوقها ومفهومها، ويجمع بينها ويخصص بعضها ببعض حتى يصل إلى نتائج تحقق المصالح المرجوة منها مستلهماً روح الالشريعة الاسلامية غير واقف مع ظواهر النصوص وقد أسعفه في قطع هذه المراحل إدراكه الدقيق لمقاصد الالشريعة الاسلامية بتلكم النصوص، وهي عملية مركبة ومعقدة لا يحسن الخوض فيها إلا من تمرس على الاجتهاد وأعطي فهماً سديداً وجرأة على الإقدام حيث يحسن الإقدام حتى خيل للبعض أن عمر كان يضرب بالنصوص عرض الحائط في بعض الأحيان، وحاشا أن يفعل عمر ذلك لكنه كان مجتهداً ممتازاً اكتسب حاسة تشريعية تضاهى حتى كان يرى الرأي فينزل القرآن على وفقه والنتيجة التي نخرج بها من هذه القضية هي أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومثله في السنة، فعلى المجتهد وهو يبحث عن الحكم الشرعي أن يستعرض جميع النصوص التي تساعد على الحل دون الاقتصار على بعضها، وإلا عد مقصِّراً في اجتهاده، ويكون ما توصل إليه لاغياً( ).
- كيف تمّ تنفيذ مشروع الخراج في عهد الفاروق؟
لما انتهى كبار الصحابة ورجال الحل والعقد إلى إقرار رأي الخليفة عمر رضي الله عنه بتحبيس الأرض على أهلها، وتقسيم الأموال المنقولة على الفاتحين انتدب شخصيتين كبيرتين هما: عثمان بن حُنيف، وحذيفة بن اليمان وذلك لمسح أرض سواد العراق، وحين بعثهما لهذه المهمة زوّدهما الخليفة بنصائحه وتوجيهاته الثاقبة وأمرهما بأن يلاحظا ثروة الأفراد، وخصوبة الأرض وجدبها، ونوع النباتات والشجر، والرفق بالرعية، فلا تحمل الأرض ما يتحمله المكلفون، بل يترك لهم
ما يجبرون به النوائب والحوائج ولكي ينطلق قرار عمر رضي الله عنه على أساس عادل، رغب أن يعرف الحالة التي كان عليها أهل العراق قبل الفتح، وطلب من الصحابيين عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان أن يرسلا إليه وفداً من كبار رجال السواد، فبعثا إليه وفداً من دهاقنة السواد، فسألهم عمر رضي الله عنه، كم كنتم تؤدون إلى الأعاجم في أرضهم؟ قالوا: سبعة وعشرين درهماً، فقال عمر رضي الله عنه لا أرضى بهذا منكم( )، وهذا يدل على أن الفتح الإسلامي كان عدلاً على الناس الذين فتحت بلادهم، وكان عمر يرى أن فرض رائع خراج على مساحة الأرض أصلح لأهل الخراج، وأحسن رداً، وزيادة في الفيء من غير أن يحملهم مالا يطيقون فقام عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان بما وكل إليهما خير قيام فبلغت مساحة السواد (36000.000) ستة وثلاثين ألف ألف( )، ووضعا على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين( )، وكتبا إلى عمر بن الخطاب بذلك فأمضاه وقد حرص عمر (رضي الله عنه) على العناية بأهل تلك الأرض والبلاد، وما يوفر العدل ويحققه خوفاً أن يكون عثمان وحذيفة رضي الله عنهما حملا الناس والأرض ما لا يطيقون أداءه من خراج فسألهما: كيف وضعتما على الأرض لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون؟ فقال حذيفة: لقد تركت فضلاً، وقال عثمان: لقد تركت الضعف، ولو شئت لأخذته فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك: أما والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون إلى أمير بعدي( ).
وهذه الطريقة التي نفذت في سواد العراق هي ذاتها التي نفذت في الأراضي المصرية، لكن الذي تولاها هو عمرو بن العاص وكانت وحدة المساحة التي ربط على أساسها الخراج الفدان( )، وكذلك فعل عمر (رضي الله عنه) بأرض الشام كما فعل بأرض السواد، ولم يذكر المؤرخون معلومات صريحة واضحة عن المساحة ونوع الزروع والثمار التي فرض رائع عليها الخراج، ولا من قام بعملية مسح أراضي الشام( )، وكان الخليفة عمر رضي الله عنه بهذا الصدد عمل إحصاءً دقيقاً لثروة الولاية قبل الولاية عليها، ثم إلزام الولاة عند اعتزالهم أعمالهم بمصادرة بعض الأموال التي جمعوها لأنفسهم في أثناء ولايتهم، إذا تبين له أن أعطياتهم لا تسمح لهم بادخار هذه الأموال كلها( ) وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الولاة وقد كثرت الممتلكات الخاصة للدولة التي اصطفاها عمر رضي الله عنه لبيت المال في العراق والشام ومصر، فكانت هذه الأملاك تدرّ دخلاً عظيماً ووفيراً على خزانة الدولة، خاصة في مصر لاتساع الأراضي الزراعية التي يملكها التاج في العصور القديمة( ).

- ما هي القيم والمصالح الأمنية في عدم تقسيم أراضي الخراج؟
هناك جملة من المصالح الأمنية التي استند إليها الخليفة –والذين وافقوه على رأيه- في اتخاذ هذا القرار يمكنني تصنيفها إلى صنفين، أولهما المصالح الداخلية وأهمها سد الطريق على الخلاف والقتال بين المسلمين، وضمان توافر مصادر ثابتة لمعايش البلاد والعباد، وتوفير الحاجات المادية اللازمة للأجيال اللاحقة من المسلمين، وثانيهما المصالح الخارجية والتي يتمثل أهمها في توفير ما يسد ثغور المسلمين، ويسدّ حاجتها من الرجال والمؤن، والقدرة على تجهيز الجيوش، بما يستلزمه ذلك من كفالة الرواتب وإدرار العطاء وتمويل الإنفاق على العتاد والسلاح وترك بعض الأطراف لتتولى مهام الدفاع عن حدود الدولة وأراضيها اعتماداً على ما لديها من خراج، والذي يجب ملاحظته في هذه المصالح أن الخليفة أراد أن يضع بقراره دعائم ثابتة لأمن المجتمع السياسي ليس في عصره فقط، بل وفيما يليه من عصور بعده وعباراته من مثل (فكيف بمن يأتي من المسلمين)، و(كرهت أن يترك المسلمون) التي توحي بنظرته المستقبلية لهذا الأمن الشامل تشهد على ذلك، وقد أثبت تطور الأحداث السياسية في عصر الخليفة الثاني صواب وصدق ما قرره.

- أن تعدد أطوار اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي قد أكد أمرين أولهما أن بعض القرارات المهمة التي تمس المصالح الجوهرية للمسلمين قد تأخذ من الجهد والوقت الكثير، كما أنها قد تتطلب قدراً من الأناة في تبادل الحجج والبراهين، دون أن يتيح ذلك مجالاً للخلاف وتعميق هوة الانقسام أحياناً أو يفوت باباً من أبواب تحقيق بعض المصالح الخاصة بأمن الأمة في حاضرها ومستقبلها، والأمر الثاني أن بعض القرارات المهمة التي قد تخرج بعد عسر النقاش والحوار، والبداية المتعثرة لها، يفرض رائع على الحاكم الشرعي أن يكون أول المسلمين وآخرهم جهداً في السعي إلى تضييق هوة الخلاف، والتقريب بين وجهات النظر المتعارضة لكي يصل بالمسلمين إلى الحكم الشرعي فيما هو متنازع بشأنه( ).
- أن تبادل الرأي والاجتهاد بين الخليفة والصحابة الذين لم يوافقوه على رأيه واستناد الكل في ذلك إلى النصوص المنزلة في الاجتهاد يثبت أن الفيصل في إبداء الآراء في القرارات السياسية عامة والتي تمس مصالح المسلمين بصفة مباشرة خاصة، هو أن تجيء هذه الآراء مستندة إلى النصوص المنزلة، أو ما ينبغي أن يتفرع عنها من مصادر أخرى لا تخرج عن أحكامها في محتواها ومبرراتها.
- أن لجوء الخليفة إلى استشارة أهل السابقة من كبار الصحابة العلماء في فقه الأحكام ومصادر الشرع، واستجابتهم بإخلاص النصح له، يؤكد أن أهل الشورى لهم مواصفات خاصة تميزهم، فالذين يستشارون هم أهل الفقه والفهم والورع والدراية، الواعون لدورهم، إنهم بعبارة أدق الذين لا إمعية في آرائهم، ومن دأبهم توطين أنفسهم على قول الحق وفعله، غير خائفين في ذلك لومة لائم من حاكم أو غيره.
- ثم يبقى القول أن ما حدث بصدور قرار عدم تقسيم الأراضي، يظل نموذج مقترحاً عالياً سار عليه الصحابة في كيفية التعامل وفق آداب الحوار وأخلاقيات مناقشة القضايا، وتقليب أوجهها المختلفة ابتداء بمرحلة التفكير في اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي -بصفة مباشرة، أو غير مباشرة- وعلى رأسهم الخليفة الذي لم يخرج عن هذه الآداب رغم اختلاف اجتهاداتهم بشأنه( )، بل إن الفاروق رضي الله عنه بين بأن الحاكم مجرد فرد في هيئة الشورى، وأعلن الثقة في مجلس شورى الأمة، خالفته، أو وافقته والرد إلى كتاب كامل الله، فقد قال رضي الله عنه: إني واحد منكم، كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ومعكم من الله كتاب كاملٌ ينطق بالحق( ).


...............يتبع






©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©