[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/ADMINI%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image001.gif[/IMG]


المقدمة:
إن المرأة هي اللبنة الأساسية في المجتمع، والتي يعول عليها، ويقوم بها بناؤه، ومنها يشع دفء الحياة والحركة والحيوية حتى تتواصل ملحمة البقاء والاستمرار للجنس البشري على سطح المعمورة.
وليس مقبولا ولا سائغا ولا متصورا أن يقوم صرح اجتماعي بالرجال وحدهم من غير اعتبار لمؤازرة النساء، ودفعهن لعزائم الرجال، ورفع هممهم، حيث إن ناموس الحياة يقوم على تكامل الأزواج في ازدواج فطري كالنور والظلمة، وكالذكر والأنثى حيث تتم المخامرة والمخالطة والمداخلة الحسية والوجدانية في كيان واحد يقوم على السكن والمودة والرحمة، وعليه تقوم أسس المجتمع السليم الرصين المتماسك اللبنات.
إن الفطر المستقيمة، والطبائع النقية تجعل من النساء شريكا حيويا في دورة البقاء، وملحمة الاستمرار في عالم الموجودات الإنسانية الراقية.
إن المرأة هي الأم الحنون الرؤوم، والابنة العزيزة الغالية، والزوجة الحليلة الخليلة، والأخت الشفيقة الرقيقة.
لذلك كان مبدأ الإسلام قائما على إكرامها في كل أطوارها من أم، وابنة، وزوجة، وأخت في النسب، وأخت في الله، مع الحدب عليها، والصبر عليها والقيام بواجبها خير قيام، وجعل هذا الإكرام واجبا مسنونا أولا، ثم من تمام المروءة والأريحية ثانيا.
ولا تستقر، ولا تستقيم أمور امة من الأمم إلا بطهارة نسائها، وذكاء فطرهن، وقد كانت المرأة مادة اللغة العربية مضربا للأمثال في قوة الشخصية، وعزة النفس، ورجاحة العقل، وقوة الحجة، ولزوم الحجة، بالحرص على طاعة الله، ولزوم، سنته، والقيام بأمره في شؤونها الخاصة والعامة، بفكر واع مستقيم مستنير.
لكن الجريمة النكراء التي لا ينفع معها تسويخ أو تبرير، كانت وأد البنات، بدفنهن أحياء صغارا، فجاء الإسلام برحمته المسداة فقضى على هذه العادة المرذولة التي لطخت بسوادها صفحة العرب في الجاهلية الجهلاء.
ومن غير المقبول أن يقر الإسلام هذه الهمجية والحمق غير الإنساني الذي كان حيفا وجورا وقع على المرأة، ولم يكن لها ذنب في ولا جريرة.
لذلك فقد رفع عنها الإسلام إصر الجاهلية الجائرة، وقصف وثلم سيف الباطل الذي ظل ردحا طويلا من الزمان مشروعا ومصلتا على رقبتها، فرفع الله شأنها، وأحيى مواتها، وانتشلها من كرب الهلاك والهوان، ثم أعطاها حقوقا كانت مغموطة، ومسلوبة منها، فأصبحت مصونة محفوظة مظنونا بها، محتفى بمكانتها.
فلما أعطاها الإسلام كل هذه العطاءات والمنح والهبات، كانت فرحتها به لا توصف، لذلك وقفت لتنافح عنه، وتذب عن حياضه، وتحرس بيضته لقاء وكفاء ما قدم لها، فكان للمسلمات المؤمنات مواقفهن المشهودة المشهورة التي يحفظها المادة التاريخ لهن.
كانت أمهات المؤمنين، والصحابيات الأوليات أعطين نماذج وطرزا فريدة على مكرورة في عالم المثل والقيم العليا النادرة الوجود العزيزة المثال.
وقد عمدنا إلى هذه الدراسة الجادة المتواضعة في شخصيات هؤلاء اللاتي وقفن بقوة وصلابة إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحوله، وقد بذلن كل نفس ونفيس في سبيل الذود عن بيضة الدين حتى كن في أتون المعارك، وفي رهج الميدان يسقين المرضى، ويداوين الجرحى، فكن لذلك مرضيا عنهن، فقد كن ـ رضوان الله عليهن ـ طاهرات الذيول، عفيفات الأزر، نظيفات الذيول، مبرآت من المشاين التي تلحق سواد النسوة، بريئات من أرجاس الهوى، وحوب النفس.
وعلى الرغم من ندرة المصادر، وقلة المراجع، في هذا الصدد، فإن كثيرا من أخبارهن وسيرهن لم يصل إلينا، وهذا يكون كفيلا عادة بالقطيعة المادة التاريخية، وهو ما يكون مسوغا ومبررا للتقاعس والتدابر والتهاون في توفية دراسة وترجمة جامعة دقيقة للقصور الجلي في المصادر الأساسية.
لكننا لما كنا عقدنا العزم الأكيد على ذلك، استعانة بالله، وتوكلا عليه، وثقة بلطفه، لم يفت في ساعدنا
يأس أو تدابر لصعوبة المسألة مما جعلنا نستسهل الصعب، ونستمرىء الشاق، ولا نكاد نشعر بأدنى حرج أو عنت، وهو المظنون أن يكون من أهم المعوقات لاستيفاء دراسة ندرت مصادرها ومراجعها، وشطت نواها، ونأت ديار غربتها عن عالم التأليف والتصنيف.
وقد حرصنا على سرد المراجع في الهامش ما وجدنا سبيلا وداعيا
وقد حرصنا على سرد المراجع في الهامش ما وجدنا سبيلا وداعيا إلى ذلك، حتى يرجع من يشاء إليها لمزيد من البسط والتفصيل.
ولئن كانت المصادر بالندرة التي ذكرنا آنفا، فقد كثر تعويلنا على أصول منها معتبرة لها مكانتها العلمية والمادة التاريخية في مجال التراجم.
هذا جهد المقل، ونعتذر لقرائنا عن قلة الحيلة وقصورنا وتقصيرنا عن بلوغ النهمة التي نرجوها ونصبو إليها، فالرحلة شاقة، والطريق وعرة، والزاد قليل، والقضاء عسر، والزمان جديد، وإن في كرم الكريم وسعة الصدر منادح للتجاوز والعفو والمسامحة.
فما كان من تسديد وتوفيق فمن الله تعالى، ولطفه وبره وإحسانه، وما كان من سهو وغفلة أو نسيان فمن الشيطان ومني، وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه.
السيد الجميلي.
(1)
خديجة بنت خويلد (1)
(68 – 3 ق.هـ) (556 – 620 م)
"والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء"(2)
هي السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى من أكابر قريش، وهي أم المؤمنين، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى، تكبره بخمس عشرة سنة، وكان مولدها سنة ثمان وستين قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت ولادتها بمكة، ونشأت وترعرعت دوحتها في بيت الأشراف ، لأنها كانت نسيبة ذات شرف وفخار آباء وأجدادا.
عاشت في بيئة ميسورة لم تعرف الإعسار، ولم تدركها فاقة، فكان ثراؤها معروفا بين بطون العرب، لم يخف عن أحد كالشمس المتألقة في وهج الظهيرة من أموال وتجارة وعروض واسعة.
وقد مات أبوها في حرب الفجار، وقد تزوجت عتيق بن عائذ بن عبد الله المخزومي فمات وترك لها فتاة في سن الزواج، ثم تزوجت أبا هالة بن زرارة، وتوفي أيضا وترك لها غلاما هو هند بين أبي هالة.
كانت السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ تبعث كل عام بتجارة كثيرة إلى بلاد الشام، وكانت تستأجر الرجال ليقوموا على هذه الشؤون بأموالها، وكانت ـ رضي الله عنها ـ ذات بصر بالرجال ومعرفة مدى دربتهم وخبرتهم بالتجارة مع النزاهة والشرف والقناعة والأمانة وعفة النفس، وارتفاع الهمة والإخلاص في العمل.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة من عمره، وهو في ريعان الشباب، وصدره الباكر، خرج في تجارتها إلى سوق بصرى بحوران ليتجر بها، ثم عاد غانما رابحا، وكانت هي في ذلك الوقت في الأربعين من عمرها، فلفت نظرها ـ وهي البصيرة بتقويم الرجال وسبر أغوارهم ـ ما كان عليه من خلق قويم، وطهارة وعزة نفس، وحياء وأمانة، فمالت نفسها إليه، ورغبت فيه وتمنت أن يكون زوجا لها.
وفي حياء بالغ، عمدت إلى اختبار رائع مشاعره نحوها فبلغها كل خير، وشجعها هذا على الطلب إلى أحد الأقرباء منها أن يعرضها عليه للزواج منها والبناء عليها، فقوبل هذا العرض الطيب بالموافقة منه صلى الله عليه وسلم، فما كان منها إلا أن أرسلت إلى عمها عمر بن أسعد بن عبد العزى، فحضر، وتم على الفور زواجها منه صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك قبل أن يبعث رسولا، وقبل نبوته، وقد رزقه الله منها بالقاسم، وعبد الله، وهو الطاهر الطيب، ثم زينب ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
وقد كانت تنجب بمعدل كل عام ولدا أو بنتا، أي تضع كل عام، وكانت لذلك تسترضع لأبنائها وبناتها، وقد حظيت بشرف عظيم رفيع حيث صارت أما للمؤمنين، إذ أنه لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أول من أسلم من النساء والرجال على حد سواء، بل إنها أول من تلقى خير الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تصلي معه سرا بادئ الرأي.
كانت أنجبت من زوجها الأول جارية ومن الثاني غلاما اسمه هند، وكانت تكنى بأم هند، قبل أن تتزوج من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأولاد النبي عليه الصلاة والسلام كلهم منها، ما عدا إبراهيم بن مارية القبطية، وقد توفيت رضي الله عنها بمكة سنة الثالثة قبل الهجرة. فرض رائعي الله عنها وأرضاها.
إن حياة اليتيم تجعل اليتيم في غربة في المجتمع والناس، وفي غربة من الأهلين في بعض الأحيان وليس بعد الأم والأب رفيق أو شفيق، إذ إن الأثرة هي الفطر المطبوع عليها أكثر بني البشر. وأجمل شوقي ـ رحمه الله ـ وأبدع عندما قال:
فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
فاليتيم المحروم من أمه و أبيه، حزين مكتئب مكسور الخاطر، إذ أنه يكون شاعرا بأنه مزايل للناس، وهو بعيد منهم، فلا أحد يمكن أن يسد مسد الأب الرفيق، ولا إنسانة تسد مسد الأم الشفوق، فإن أصاب الابن قذى تقطعت كبد أمه، واحترق قلب أبيه، وليس لأحد من الناس هذه الخاصية ، وكم تمنى إنسان أن يفقد كل شيء، وأن يضحي بكل نفس ونفيس فداء لابنه لأنه حشاشة القلب.....
لقد مات عبد الله بن عبد المطلب وترك السيدة آمنة بنت وهب حاملا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا لم ير أباه، ولم يره أبوه، فتقر به عينه، وليس في الدنيا كلها حنان يعوض حنان الأب، وحدبه، وإشفاقه.
ثم إن أمه آمنة بنت وهب قد أدركها الموت، فتوفيت هي الأخرى وعمره ست سنوات، فكانت وفاتها ثالثة الأثافي، حيث تظاهرت الظروف القاسية المريرة، وتواترت الهموم على الطفولة لبريئة، فبينما يتمارى صبية بني هاشم وغيرهم بين آبائهم وأمهاتهم وذويهم، إذا بالصبي الصغير محمد بن عبد الله لا يجد صدر أب حنون، ولا قلب أم مشفقة تحنو عليه في المساء، وترعاه في الصباح، ويشعر باليد الحانية تربت على وجهه المشرق الوضاء تهدهده وتلاعبه وتداعبه..... افتقد كل هذا، وحرم من كل هذا، ولم يكن هناك بد من إلحاقه وانتقاله إلى جده عبد المطلب، ذلك الشيخ العجوز الفاني. ولكن حفاوة الجد العجوز لا يمكن بحال أن تكون بديلا عن حنان الأب وبره وحدبه... وكذلك فإنه لا يزال محروما من حنان الأم التي لا عوض ولا بديل لها أبدا.
كان كلما خلا بنفسه صلى الله عليه وسلم، شعر بالحزن العميق، والأسى البالغ، والنار المحرقة التي ترعى الكبد من لوعة فراق الأبوين في فجر الحياة ومع بداية أنفاس الحياة الأولى، لكنها إرادة الله تعالى ومشيئته، فإذا أراد الله تعالى شيئا لا يمكن أن يمنعه شيء.
إن الصبي لم تبرح مخيلته طرفة عين صوت أبيه الذي لم يره، وكم كان يود أن يراه، وأن يكون عونا له على الأيام، وأن يحظى بحنان الأبوة، ودفئها.
كما أن صدره النقي البريء تتصارع فيه مواجيد الشوق منذ ثماني عشرة سنة، حيث لم ينس بل لا يزال مائلا بإزائه في كل لحظة ذلك المنظر الرهيب المروع، وهو يودع حشاه وفلذة كبده أمه في حفرة بالأبواء،ومنذ تلك اللحظة وهو مكسور الخاطر، مهيض الجناح، مشغول بالهموم والأتراح، تزايله الأفراح ولا تقاربه تسرية أو سلوان، وهو في شرخ الصبا الذي يكون عادة محصنا ضد الهموم والأنكاد.
ولذلك ولهذه الأسباب كان كثيرا ما يخلد إلى نفسه، ويسرح بخواطره إلى تلك الأيام الخوالي الارسة المنصرمة في حقبة منصرمة حيث كان في حضن أمه الدافئ بمكة، ثم إذا به يصير في ديوان الحياة وحيدا كريشة في مهب الريح.
ثم إن جده عبد المطلب كان شفوقا عليه، مهموما لأجله، إذ إنه كان يدرك تماما ما يجول بخاطر حفيده، ويحتوي كيانه ويستولي عليه من أنكاد تصارعه ويصارعها، وكم حاول الجد العجوز أن يمسح عن جبين حفيده لفحات الحزن والكآبة، بنفحات الود والحدب والحنان، وكم حاول أن يمسح عبرة الأشجان من عينيه الواكفتين اللتين قد كحلهما السهاد والأرق.
لكن لم تقدر عاطفة الشيخ الطاعن على مدافعة هذه الهموم التي تدهم، والنوائب التي تنوب، والنوازل التي تنزل بعقوته، وتلم بحجزته، فقد كان الجرح غائرا، والألم مبرحا ممضا، لكن شبح المنية رفرف بجناحيه مرة أخرى على بيت الجد الكبير والشيخ العجوز ليلم به، وشعر عبد المطلب بقرب الأجل، ودنو ساعة الرحيل، وأحس بأن ساعة الفراق صارت وشيكة، فكان شغله الشاغل حفيده محمد، فدعا ابنه (أبا طالب) ليوصيه بمحمد ابن أخيه "عبد الله" خيرا.
ثم كانت ثالثة الأثافي، ونازلة النوازع، وهي موت الجد، وتركه ابن ابنه وحيدا وقد فقد ثالث الأحبة الثلاثة جده بعد أبيه وأمه.
ترحل الصبي إلى بيت عمه، وانضم إلى أسرته، لكن وجدانه كان مشحونا، كان مشدودا إلى الذكريات القديمة الخالية في رعاية أمه، ثم ضياع أمله، وفقد القلب الحنون الذي أدرج في شق محدود في الأبواء، فانطفأ به شهاب السعادة وأظلمت شمس هنائه وفرحه ومرحه في طور الطفولة، ثم إنه بموت جده تنطوي صفحة أخرى من حياته، وهو في كل هذه الأطوار من التحولات الدقيقة تتحول أجواؤه النفسية من سوء إلى سوء حيث صار محوطا بالإحباط، ومكتنفا بالضيق، بينما يلهو الصبيان من حوله، ويتمارون فرحين في ملاعب حداثتهم...
ظل في رعاية عمه مع أبناء عمه سبع عشرة سنة، وعمه كان أمينا عليه حسبما أوصاه أبوه به، فكان يتعهد ابن أخيه كواحد من أبنائه ضنينا به، حريصا عليه، لم يقصر في جانبه في قليل أو كثير..
لكن أبا طالب كان عائلا لأسرة كبيرة، يشقى ويكدح في سبيل لقمة العيش، فما إن وجد ابن أخيه قد بلغ مبلغ الرجال، وأصبح اعتماده على نفسه ممكنا، بل وواجبا لمن هو في مثل سنه، فإذا به يناديه ذات يوم في مطلع الشمس عن رحلة مرجوة الخير تعمد إلى بلاد الشام، ويرجو أن ينشط ويطرق أسباب العمل في التجارة حتى ينتقل إلى عالم الحياة الرحب الفسيح المأهول، ويشق سبيل الكفاح الذي لا بد منه. وقد قال عمه أبو طالب له فيما قال:
"يا بن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد علينا الزمان، وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مال ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة تبعث رجالا يتجرون في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من أمانتك وطهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من اليهود.....
وقد بلغني أنها استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا ترضى لك بمثل ما أعطته، فهل لك في أن أكلمها؟"
قال محمد: ما أحببت يا عم......
وفي رواية الإمام الطبري في مادة التاريخه المشهور الذي هو أثبت التواريخ وأجمعها وأدقها أن السيدة خديجة رضي الله عنها هي التي عرضت عليه ذلك.
وقد ورد في الطبقات الكبرى (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ خمسا وعشرين سنة قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك، وقد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليه لأسرعت إليك، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، فأرسلت إليه في ذلك، وقالت له: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك. أهـ . بتصرف.
ثم يقول بعد ذلك: فخرج إليها ـ أي أبو طالب ـ فقال: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت رجلا ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربع بكار، قال: فقالت خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لحبيب قريب (4)؟
وروي أن أبا طالب قال لابن أخيه: هذا رزق ساقه الله إليك.
ثم انطلق محمد صلى الله عليه وسلم ومعه غلامها ميسرة، حتى قدما (بصرى) من بلاد الشام فنزلا في ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي(5) . ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟
قال: نعم، لا تفارقه، قال: هو نبي، وهو آخر الأنبياء.
ثم يذكر لنا ابن سعد في طبقاته، أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان باع سلعة له، فوقع بينه وبين رجل تلاح فقال له: احلف باللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حلفت بهما قط، وإني لأمر فأعرض عنهما، فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: هذا والله نبي تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم.
ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان منعوتا وموصوفا بأجمل وأكرم النعوت وأطيب الصفات.
ثم إن هناك من المعجزات ما وقع له صلى الله عليه وسلم ورآه ميسرةرأي العين، لما كانت الهاجرة، ويشتد الحر، يرى ميسرة ملكين يظلان رسول الله صلة الله عليه وسلم من الشمس.
ثم إن تجارتهم كانت رابحة ضعف ما كانوا يربحون، فلما أن فرغوا من تجارتهم، وقضوا نهمتهم، وانتهوا منها، أزمعوا العودة، ثم قفلوا راجعين.
ثم أنهم لما رجعوا فكانوا بحر الظهران قال ميسرة: يا محمد، انطلق إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله على وجهك، فإنها تعرف لك ذلك.
لقد كان ميسرة مقودا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة حبه وتعلقه به، فقد ألقى الله على محمد المحبة من ميسرة فكأنه عبد له أو خادم يأتمر بأمره، وذلك لما رآه ميسرة من صبوح وجهه، وكريم عنصره، ومرضي أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة، وكانت خديجة وقتذاك في علية لها، فرأته وهو على بعيره، ونظرت بعينيها ملكين يظلان عليه، فأرته نساءها، فعجبن لذلك.
وكان لقاء جليلا لما أن دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حدثها بما كان من أمر الرحلة، وخبرها بما ربحوا من تلك الرحلة، فسرت بذلك سرورا عظيما.
ثم إن غلامها ميسرة دخل عليها وأخبرها بما رأى من دماثة أخلاقه، وكريم عنصره، وحلمه واتزانه وحصافته، وأخبرته هي الأخرى بما رأت فقال ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام.
ثم أخبرها ميسرة بما قال الراهب نسكور، كذلك فقد أخبرها بما قاله الرجل الآخر الذي خالفه في البيع، وقد أبدت إعجابها بذلك، ولا سيما بعد أن وجدته قد ربح في تجارتها ضعف ما كانت تربح، ولذلك فقد أضعفت له ما سمت له من الأجر.
نظرا لأن السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، كانت امرأة حازمة، جلدة، شريفة مع ما أراد الله تعالى بها من الخير والرفعة والكرامة، فهي أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكان رجال قومها حريصين على نكاحها لو كان ذلك مقدورا عليه، لقد رغبوا فيها جميعا لسري خلقها وشرفها وحسبها ونسبها في قومها، فضلا عن يسارها وثرائها من تجارتها الرابحة، لكنها رغبت عنهم جميعا ورغبت في محمد بن عبد الله.
لذلك فقد أرسلت إليه نفيسة بنت منبه لتكلمه في هذا الأمر وندعها تتحدث بنفسها عما جرى في هذا الصدد. تقول نفيسة بنت منبه مبعوثة السيدة خديجة: "فأرسلتني دسيا إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به،قلت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ فقال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: قلت: علي، قال: فأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن يأت الساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها فحضر، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته، فزوجه أحدهم، فقال عمرو بن أسد: هذا البضع لا يقرع أنفه، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وكانت هي رضي الله عنها بنت أربعين سنة، حيث كانت ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة (6).
صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عميه أبا طالب وحمزة، ابنا عبد المطلب، وكان لقاء رائعا جميلا في مناسبة جليلة كريمة.
تحدث أبو طالب قائلا:
" أما بعد، فإن محمدا ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك....".
وقد أثنى عمرو بن أسد بن عبد العزى بن قصي على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنكحها منه(7).
كان صلى الله عليه وسلم في ذلك الطور من حياته محتاجا إلى عاطفة دافقة فياضة، وأمومة حانية، وحدب وإشفاق وتحنن، ولم تكن مثل هذه المطلوبات لتتوفر في غير خديجة رضي الله عنها.
لذلك كان اختيار الله تعالى له موافقا لمختلف ومتباين الظروف النفسية والاجتماعية، فإن خديجة رضي الله عنها كانت على درجة كبيرة من الجمال والغنى والثراء واليسار، ثم إنها من علية القوم من أشراف مكة سواء من جهة أبيها أو من جهة أمها. (8)
من ثم كانت له صدرا حنونا، وقلبا كبيرا، وفؤادا رؤوفا، بددت عن سماء وجدانه سحابات الشقاء، ومسحت من محاجر عينيه دموع الشقاء وعبرات الهموم والأنكاد، فكان كتفها ملاذا لروحه ونفسه ووجدانه.
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم معها وعاش في كنفها أربعا وعشرين سنة، وطوال هذه العشرة الطيبة، والألفة الصافية، والمتعة الضافية وحبه صلى الله عليه وسلم لها يزداد رسوخا ووثوقا وتمكينا يوما بعد يوم، فهي لم تأل جهدا، ولم تدخر وسعا في سبيل إرضائه وإزاحة كل منغصات الحياة وأشواكها عن طريقه، لذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها في حياتها، لأنه لم يكن في حياته أدنى فراغ ينشد أو يريد امتلاء وتعويضا عن غائب أو فائت أو متروك .
انتقلت إلى بارئها، وعوجلت إلى ربها راضية مرضيا عنها، عن عمر بلغ أربعا وستين سنة، وستة أشهر.
كانت وفاتها خسارة جسيمة، وكارثة فادحة، ولم يكن هناك بد من التفويض وتسليم الأمر لله سبحانه تعالى، فإن أمره تعالى كان مقضيا، لكنها لوعة الفراق، وحرقة البعاد، وتباريح المزايلة لا سيما بين المحبين، لكن مقدور الله غير مدفوع.
وقد أنجبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أولاد، وقد توفي منهم القاسم وعبد الله في طفولتهما، وقد ماتا في حياتها، ثم تركت له أربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهن.
نزول القرآن الكريم:
في ليلة القدر التي جعلها الله تعالى خيرا من ألف شهر وفي إحدى الليالي العشر الأخيرة، فتحت السماء أبواب الخير والرحمات إلى دنيا الأرض، وإلى عالم الأحياء، وكان محمد صلى الله عليه وسلم قد اختير لهذه المهمة الشاقة، ولهذا الشرف العظيم، والمجد الأثيل، فقد كان مخلوقا لهذا الحدث الجلل، ولم يكن غيره مؤهلا لشرف الاختيار...
كانت رسالة الإسلام قد بدأت بنزول القرآن الكريم في ليلة القدر على قلب النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مباركة مشهودة، وكان هذا إيذاءا بحياة جديدة، منوط بها الجهاد والكفاح والأذى والاضطهاد، والعنت المتصل.
كانت جزيرة العرب ترزح تحت نير الوثنية الصارخة المقبوحة، وطقوسها المرذولة، من عبادة الطواطم والتقرب إليها وترك عبادة الله وحده، وكانت ثمة إرهاصات شتى لنبي مرتقب ورسالة سماوية منتظرة وكان يترقبها علماء النصارى وأحبار اليهود، لما كان مخطوطا بين أيديهم من الكتب المقدسة غير المحرفة.
ثم إن اليهود كانوا مذعورين من النبي الرسول المرتقب، ويتربصون به الدوائر قبل معرفته وبعثته لشكوكهم وظنونهم من أنه سيأتي على دولتهم، ويستأصل شأفتهم.
وكان على طرف النقيض من اليهود علماء النصارى الذين كانوا متشوقين ظهور النبي المرتقب حتى يخلصهم من مادية اليهود المحصنة.
لذلك ولهذه الأسباب مع استشراء الكثير من الفساد والتحلل الوثني كان متوقعا ومترقبا سرعة بعث رسول ونبي آخر الزمان.. من ثم كانت منتديات العرب وأسمارها، ونبوءات الكهان، وإرهاصات الحنفاء، وأغاني الحداة الشادين في الفيافي والمفاوز والصحارى كلها تنذر بقرب الفرج ودنو ساعة الخلاص، فقد آن الأوان للتحرر، والإفلات من رقبة وأسر ومراس الوثنية والعبودية لغير الله،. فإن لكل ظلم نهاية، ولكل جور دولة وإدالة.
كل الناس كانوا مترقبين اللحظة الحاسمة، لكن متى على وجه التحديد، وأين ومن المبعوث المرتقب؟ لا أحد يعلم...
وبانبلاج النور، تحررت شهادة وفاة فورية لأصنام مكة، وكان محمد صلى الله عليه وسلم قد شارف وأناف على الأربعين، وكان ألف الخلوة في غار حراء في جبل ثور، وفي هذه الخلوة كانت تطيب نفسه، وتستجم روحه في رياضة روحية سامية، ونقاء وصفاء لا مزيد عليه... في سكون الليل، وامتداد الصمت الرهيب والهدوء الساجي على المدى البعيد الشطون في إطار تعاقب الفتيان (الليل والنهار) تعاقبا مكرورا منتظما متناسقا لا يمكن أن يكون من صنع البشر أو تقديرهم.
في خلوته الرائعة عاشت روعة الكون، وسحر الطبيعة في دخيلته وطويته، وأخذ التفكير في الكون البعيد المترامي الأطراف منه كل مأخذ وهو يفكر ويفكر ويتأمل، ويتدبر ويسرح ببصره عبر الأفق البعيد.
وفي الليلة المباركة الميمونة، وفي الموعد المنتظر نزل الوحي، وكانت مكة هي البقعة المباركة التي اختيرت لشرف هذا التنزيل، ففيها البيت العتيق الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وآمنا، وإليه كان يحج الناس من قديم الزمان، وفي غار حراء نزل أمين السماء على أمين الأرض، ولم يكن في تلك اللحظة يدري محمد صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الأمر شيئا، حيث لم يعرف ماذا يراد منه، ومن هو هذا الهاتف ناداه وألقى عليه روائع الكلم.
لم يكن يعرف أنه صار مرسلا إليه، وأصبح مبعوثا لقومه خاصة وللبشرية عامة، فأخذ منه الروع والفزع والفرق كل مأخذ، فانطلق في غبش الفجر مروعا مأخوذا ترعد فرائصه، ويرجف فؤاده، ويخفق قلبه، وقد امتقع لونه، وشحب وجهه، ثم دلف بيته وهو يقول:
"زملوني زملوني...
لقد خشيت على نفسي".
وأخبر السيدة خديجة رضي الله عنها بما جرى له، فما كان منها إلا أن ضمته إلى صدرها، ووضعت يدها على جبينه، وهي تهدئ من روعه قائلة له:
" الله يرعانا يا أبا قاسم، أبشر يا بن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، والله لا يخزيك الله أبدا....
إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"
كان لهذه الكلمات أبلغ الأثر، فكانت تترسل على صدره مع نسمة الفجر المتبلج بردا وسلاما. وما إن استسلم لأمواج النوم الهادئ حتى أسرعت قبل إسفار الشمس، وهي محجوبة في الأفق البعيد، سارعت بالاختلاف إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان حكيما جاهليا اعتزل الأوثان قبل الإسلام، وكان عالما بالكتب السماوية، وكان شيخا ضريرا.
حدثته خديجة حديث محمد صلى الله عليه وسلم وما جرى له في غار حراء، وما إن فرغت من سردها للقصة حتى انتفض الشيخ على الرغم من وهنه وضعف قواه قائلا:
"قدوس....قدوس، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت".
وانطلقت إلى محمد صلى الله عليه وسلم لتبشره بما قال ابن عمها ورقة ابن نوفل.
لكن ورد في الصحيحين، في الحديث المتفق عليه عن السيدة عائشة رضي الله عنها عن بدء الوحي، قالت: فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان امرءا تنصر في الجاهلية.... يكتب الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك، فأخبره صلى الله عليه وسلم بخير ما رأى وسمع، فقال له ورقة: هذا الناموس الأكبر الذي نزل على عييسى وموسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم؟" قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا".
وانطلق الزوجان إلى بيتهما، وهما يدركان تماما خطورة المرحلة المقبلة عليهما، وظلت سنوات عديدة تتحمل إلى جواره ضروب الأذى، والاستطالة وغير المحتمل وغير المطاق من الاضطهاد والمعاناة من أرباب الكفر ورؤوس الشرك الوثنيين الذين رأوا في الدين الجديد تهديدا لمكانتهم في الجاهلية، وتقويضا لمراكزهم ومرأسهم وأصنامهم الهالكة.
تجشمت خديجة مع محمد صلى الله عليه وسلم صنوفا من الإيذاء، وهي تذب عنه، وتحامي عن زوجها الذي كانت ملاذا له، وصدرا حنونا في وقت عز فيه النصير والمشايع.
بعاطفة الزوجية الحبيبة، وقلب الأم المشفقة شملته بحدب وإشفاق ينفض عن جبينه أتراح وهموم العنت الذي يكابده ويعتريه من أجلاف المشركين، الذين لم تأخذهم به رحمة ولا شفقة وقد ضربت عليه قريش سياجا منيعا من الحصار والمقاطعة، مسجلة هذا القرار الصارم الظالم الجائر في صحيفة وعلقوها على جدار الكعبة أو في جوفها.
وكانت خديجة وزوجها وبنو هاشم وبنو عبد المطلب قد أخرجهم الكفار والمشركون من مكة وأحصروهم وألجأوهم إلى اللواذ بشعب أبي طالب، وظلوا على هذه الحال سنوات ثلاث متدرعين بالصبر، شعارهم الإيمان، ودثارهم اليقين...
لوعة الفراق
أصعب وأشق شيء على النفس هو فراق الأحبة ومزايلة الحلائل، بعد العشرة الطيبة، والمخالطة والمودة والحب المحصن الصريح الخالص.
إن الروحين عندما ينزلان في جسد واحد، أو عندما ينقسم الروح بين جسدين يكون ذلك دليلل على أن أحدهما متمم للآخر مكمل له، فلا سعادة تامة ولا هناء في غياب أحدهما عن شريكه.
من ثم كان الموت مصيبة لا تعدلها مصيبة، لأنه يصرم المودة، ويباعد تماما بين المحبين في الدنيا، ويكون نزوله صعبا وأليما عندما يأتي على أحد الزوجين المتوافقين اللذين يعيشان في رغد وهناء وليان من العيش... حتى إن الحي منهما يكون كأنه هو الميت لشعوره بالانهيار، وكأنه يعيش في غير الزمان والمكان أو أنه لا يعيش في الزمان والمكان، وكأنه جسد بلا روح أو بدن بلا قلب.
بينما كانت المواجهة على أشدها بين الحق الواضح الأبلج وبين الباطل اللجوج، وبينما استعرت حدة المدافعة وحمي الوطيس، وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يستأصل شأفة الضلال والريب، ويظهر رسوله وصحبه، إذا بالسيدة الفاضلة العجوز التي بلغت خمسا وستين سنة قد صارت خائرة القوى، واهية الجسم، متهالكة الأعضاء، وقد أخذ منها الجهد كل مأخذ، وفعل الزمن بها الأفاعيل، فلم يستطع جسمها المكدود مقاومة ولا دفعا لما لا يطاق ولما لا يستطاع من الهموم والنوازل.
لم يمر على كسر حلقة الحصار وانهياره غير ستة أشهر حتى مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكافله بعد جده عبد المطلب، وراعيه في غدواته وروحاته، في وروده وصدوره، في حله وترحاله، وظعنه وإقامته.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستهدفا من أعدائه وخصومه إذ كان هدفا ودريئة وغرضا لأذاهم، فلما مات عمه الذي كان يذب عنه، ويحامي عنه ويمانع من حريمه، ويدفع عنه كل مكروه، شعر عليه الصلاة والسلام بانهيار ركن شديد كأن يأوي إليه، فكأن بعضه قد ضاع منه، فكان حزنه على عمه لذلك شديدا لا يكاد يوصف، ولا يحتمل بحال.
إبان رحيل عمه إلى عالم الآخرة كانت الشريفة العفيفة المصون، زكية الذيل، طاهرة الأردان تعالج آلاما مبرحة غير مقدور عليها، وقد لاذت بالفراش تودع الحياة والأحياء، وتتأهب لساعة الرحيل، ومفارقة الحبيب الجليل الصابر المجاهد المحتسب المبعوث رحمة للعالمين، وهي مثقلة بالهموم إذ ترحل عنه وتترك له بناتها الأربع في تلك الظروف الحرجة، والتي كان محتاجا إليها فيها أشد الاحتياج، لكن الله سبحانه وتعالى أرفق وأرحم به.
لم يطل رقاد خديجة في فراشها ظويلا إذ سرعان ما غشيتها المنية، وحلت بساحتها، وزارها الحتم المجاب بعد ثلاثة أيام فقط، وكانت وفاتها بين يدي الزوج الحبيب الذي لم يكن رجلا كالرجال، ولا زوجا كالأزواج ولكنه كان ملاكا في صورة إنسان، وقد كانت له الرفيق الشفيق، والأنيس والملاذ.
وفاضت الروح إلى بارئها لهذه النفس المطمئنة راضية مرضية إلى رحاب الله ورضوانه.
وقد انتقلت إلى رحاب بارئها مرضيا عنها قبل الهجرة بثلاث سنين، ولقد الدار بعدها من الأنيس، وأمحلت من الحبيب، فأصبحت عطلا وخلاء موحشة تنبو بالزوج المحب عن آفاق المكان ومحدود الزمان وقد دفنها صلى الله عليه وسلم بالحجون.
كان بين مصيبة عمه ومصيبة فقد خديجة شهر وخمسة أيام فقط، فكانت هاتان الضربتان مؤثرتين في نفسه صلى الله عليه وسلم، فكان احتمالهما صعب قاسيا، فقد فت في ساعده، وأنهك قواه، ونزل بساحته المكروه وحلت بعقوته المصاعب والمصائب من كل سبيل، وقد زاد الفجار الفسقة من القرشيين من إيذائهم له وهو مكدود الأوصال مهموم البال.
لذلك فقد أطبقت الظلمات من حوله بعضها فوق بعض، وقد أغرى المجرمين هذه الظروف القاسية فوهموا وظنوا أن انتصارهم عليه صار وشيكا بين عشية وضحاها، أو بين لحظة وأخرى... وقد أعماهم وضللهم الحقد الدفين والوغر المكتوم، الحزازة التي تأكل أكبادهم وتحرق صدورهم، وقد رد الله تعالى كيدهم إلى نحورهم، وأفلج حجته، ورفع درجته، وكسر شوكتهم، وألان عريكتهم، فكان حشدهم هو الخاسر المغبون، وتدابروا بقضهم وقضيضهم مدحورين مغلولين.
لذلك كان ذلك العام الذي توفي فيه أبو طالب وخديجة جديرا بأن يسمى "عام الحزن" لأن الحزن نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم نزولا صعبا قاسيا حيث قل ناصره، وعز معينه، ووقف حلبة الصراع، وأتون المعركة وحيدا مكسور الخاطر، مهيض الجناح، يكاد يهوى مغشيا عليه لولا لطف الله تعالى، ورعايته وكلاءته.
إن خديجة أول من أسلم من النساء، ولم يرد في ذكر فضلها ومناقبها أجل ولا أجمل من قوله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء".
ولئن كانت صفحة خديجة قد انطوت إلا أن عبقها وذكرها وذكراها لا تزال باقية حية في روح النبي صلى الله عليه وسلم وفي وجدانه، فلم تبرح مخيلته، ولم تفارق خياله، ولم تزايل وجدانه طرفة عين أو برهة من زمان.
لقد كانت روحها معه تشاركه همومه، وتقاسمه أتراحه وأفراحه، وتشاطره أحزانه ومواجيده، وكأنها لم تبرح الدنيا للعالم الآخر، وكأنها لم يكن في الدنيا امرأة سواها رضي الله عنها وأرضاها.




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©