بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


مَنْزِلَةُ الْيَقَظَةِ
مقتطف من كتاب "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"
(من ج1 ص142/143 –نسخة الشاملة)

للعلامة والله حسيبه : أبو عبد الله شمس الدين محمد المشهور بإبن قيم الجوزية الحنبلي -رحمه الله تعالى-
(691هـ -751 هـ)

[ فَصْلٌ فِي مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ : مَنْزِلَةُ الْيَقَظَةِ
[الفاتحة: 5] الَّتِي يَنْتَقِلُ فِيهَا الْقَلْبُ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً فِي حَالِ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ
وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي صِفَةِ الْمَنَازِلِ وَعَدَدِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَلْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مِائَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ وَنَقَصَ، فَكُلٌّ وَصَفَهَا بِحَسَبِ سَيْرِهِ وَسُلُوكِهِ.
وَسَأَذْكُرُ فِيهَا أَمْرًا مُخْتَصَرًا جَامِعًا نَافِعًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَأَوَّلُ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ الْيَقَظَةُ وَهِيَ انْزِعَاجُ الْقَلْبِ لِرَوْعَةِ الِانْتِبَاهِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ، وَلِلَّهِ مَا أَنْفَعَ هَذِهِ الرَّوْعَةَ، وَمَا أَعْظَمَ قَدْرَهَا وَخَطَرَهَا، وَمَا أَشَدَّ إِعَانَتَهَا عَلَى السُّلُوكِ! فَمَنْ أَحَسَّ بِهَا فَقَدْ أَحَسَّ وَاللَّهِ بِالْفَلَاحِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْغَفْلَةِ فَإِذَا انْتَبَهَ شَمَّرَ لِلَّهِ بِهِمَّتِهِ إِلَى السَّفَرِ إِلَى مَنَازِلِهِ الْأُولَى، وَأَوْطَانِهِ الَّتِي سُبِيَ مِنْهَا.
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى ... نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ

فَأَخَذَ فِي أُهْبَةِ السَّفَرِ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَنْزِلَةِ الْعَزْمِ وَهُوَ الْعِقْدُ الْجَازِمُ عَلَى الْمَسِيرِ، وَمُفَارَقَةُ كُلِّ قَاطِعٍ وَمُعَوِّقٍ، وَمُرَافَقَةُ كُلِّ مُعِينٍ وَمُوَصِّلٍ، وَبِحَسَبِ كَمَالِ انْتِبَاهِهِ وَيَقَظَتِهِ يَكُونُ عَزْمُهُ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ عَزْمِهِ يَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ.
فَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَوْجَبَتْ لَهُ الْيَقَظَةُ الْفِكْرَةَ وَهِيَ تَحْدِيقُ الْقَلْبِ نَحْوَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ مُجْمَلًا، وَلَمَّا يَهْتَدِ إِلَى تَفْصِيلِهِ وَطَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ.
فَإِذَا صَحَّتْ فِكْرَتُهُ أَوْجَبَتْ لَهُ الْبَصِيرَةَ فَهِيَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُبْصِرُ بِهِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ لِأَوْلِيَائِهِ ، وَفِي هَذِهِ لِأَعْدَائِهِ، فَأَبْصَرَ النَّاسَ وَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ مُهْطِعِينَ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ، وَقَدْ نَزَلَتْ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ فَأَحَاطَتْ بِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ نُصِبَ كُرْسِيُّهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ نُصِبَ الْمِيزَانُ، وَتَطَايَرَتِ الصُّحُفُ، وَاجْتَمَعَتِ الْخُصُومُ، وَتَعَلَّقَ كُلُّ غَرِيمٍ بِغَرِيمِهِ، وَلَاحَ الْحَوْضُ وَأَكْوَابُهُ عَنْ كَثَبٍ، وَكَثُرَ الْعِطَاشُ وَقَلَّ الْوَارِدِ، وَنُصِبَ الْجِسْرُ لِلْعُبُورِ، وَلُزَّ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقُسِّمَتِ الْأَنْوَارُ دُونَ ظُلْمَتِهِ لِلْعُبُورِ عَلَيْهِ، وَالنَّارُ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَحْتَهُ، وَالْمُتَسَاقِط ُونَ فِيهَا أَضْعَافُ أَضْعَافِ النَّاجِينَ.
فَيَنْفَتِحُ فِي قَلْبِهِ عَيْنٌ يَرَى بِهَا ذَلِكَ، وَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ الْآخِرَةِ يُرِيهِ الْآخِرَةَ وَدَوَامَهَا، وَالدُّنْيَا وَسُرْعَةَ انْقِضَائِهَا
]. اهـ.

*****
ولا حول ولا قوة إلا بالله
والله الموفق
نحبكم في الله
والحمد لله