دور التحات في تشكل الجبال

إن معرفة الطريقة التي تتفاعل فيها القوى التكتونية والانجرافية
والمناخية لتشكُّل الجبال يؤدّي إلى فهم أوضح لمادة التاريخ الكرة الأرضية.
<N. پنتر> ـ <T .M. براندون>

تُعد الجبال أضخم من كل ما بناه الإنسان من أبنية، وقد تشكلت بفعل النحت بتفاصيل أدق من زخارف قصر الباروك؛ حيث يصل ارتفاع أعلى قمة في العالم، وهي قمة جبل إڤرست في الهيمالايا، إلى 8848 مترا أو نحو 15 مرة أعلى من أي بناء شيده الإنسان. إذًا ليس من المدهش أن تثير مثل هذه الطبوغرافيا العجيبة الرعب وتلهم الفنانين والمغامرين طوال حياة البشر.

وقد قادت الأبحاث الحديثة إلى فهم جديد ومهم حول طريقة تشكّل هذا التضريس الأرضي الأكثر ارتفاعا في العالم. فالجبال تكوّنت واتخذت أشكالها ليس فقط، كما يبدو، بحركات الصفائح التكتونية الضخمة التي تشكل المظهر الطبيعي للأرض، وإنّما أيضا بوساطة التغيّرات المناخية وعمليات الانجراف. وبشكل أدق فإن العمليات التكتونية والمناخية والانجرافية تؤثّر تأثيرا قويا في شكل الجبال وارتفاعها الأعظمي وكذلك في الفترة الزمنية اللازمة لتشكل أو هدم سلسلة جبلية. وبخلاف ما ذُكر يبدو أن عملية تشكل الجبال تعتمد على قوى الهدم الانجرافية بقدر ما تعتمد على القوى التكتونية البنائية. وفي الواقع وبعد 100 سنة من رؤية الانجراف على أنه «الشقيق الضعيف» للتكتونية، يعتقد الكثير من الجيولوجيين الآن أنّ الانجراف قد يكون في الواقع هو «رأس العائلة.» وبحسب مقولة إحدى فرق البحث «فإنه من السخرية أن تدين الجبال «بعضلاتها» إلى قرع طبول قطيرات الأمطار.»

وبسبب أهمية تشكل الجبال في تطور الكرة الأرضية فإن نتائج هذه الأبحاث لها أهمية كبيرة في علوم الأرض. وبالنسبة إلى الجيولوجي، فإنّ سهول الكرة الأرضية ووديانها العميقة وبصورة خاصة جبالها، تكشف له عن المخطط العام لتطوّر الكوكب خلال مئات الملايين من السنين. فعبر هذا المادة التاريخ الطويل، تُعد الجبال دليلا عن أمكنة الأحداث التي انتابت القشرة الأرضية أو بالأحرى تحت هذه القشرة تماما، مثل أحداث تصادم الصفائح التكتونية التي دفعت هذه الطبقة السطحية نحو الأعلى. وهكذا فإن الجبال هي أفضل مظهر مرئي عن القوى التكتونية الضخمة الفاعلة وعن الفترات الزمنية الطويلة التي من خلالها قامت تلك القوى بمهامها.

لقد اعتمد النموذج مقترح الحديث حول تشكل الجبال على مادة التاريخ طويل. وكان أحد هذه النماذج الأولى الشاملة عن كيفية تطوّر الجبال عبر الأزمان هو الدورة الجغرافية &quot;the Geographic Cycle&quot; وقد نشر عام 1899. ويقترح هذا النموذج مقترح دورة حياة افتراضية لسلاسل الجبال بدءا من نشأة عنيفة سبّبها نشاط رفع تكتوني قصير الأمد ولكنّه عنيف جدا، إلى تدهور تدريجي نحو «شيخوخة» سبّبها انجراف بطيء ولكنه مستمر. إن جمال ومنطق هذا النموذج مقترح جعلا جيولوجيي قرن من الزمن يتغاضون عن قصوره الفادح.

ففي الستينات فسّرت نظرية تكتونية الصفائح طريقة تشكل الجبال نتيجة التحرك الأفقي لكتل ضخمة من الغلاف الصخري الذي يمثّل الجزء الخارجي الصلب والبارد نسبيا من الكرة الأرضية. وبحسب هذا الإطار العريض فإن طاقة الحرارة الداخلية تُشكل سطح الكوكب نتيجة انضغاط وتسخين وتكسير الغلاف الصخري الذي تتراوح ثخانته ما بين 100 كيلومتر أو أقل تحت المحيطات و200 كيلومتر أو أكثر تحت القارات. ولا يكون الغلاف الصخري على شكل طبقة واحدة مستمرة بل يكون، بالأحرى، مقسما إلى عشرات من الصفائح. وهذه الصفائح، مدفوعة بالحمل الحراري الذي تحتها، تتحرك بالنسبة إلى بعضها بعضا مفسّرة بذلك معظم ظواهر ومعالم سطح عالمنا المألوفة مثل الزلازل وأحواض

المحيطات والجبال.
هذا ولم يرفض علماء الأرض على الإطلاق تكتونية الصفائح كقوة في تشكُّل الجبال. ومع ذلك استنتجوا في السنوات العشرين الماضية أنّ أفضل وصف للجبال هو أنّها لم تنتج من القوى التكتونية فقط ولكن، على الأصح، من نواتج نظام يضم عمليات انجرافية ومناخية إضافة إلى عمليات تكتونية، وترتبط هذه المركّبات الثلاث فيما بينها بارتباطات وعمليات تغذية مرتدة (راجعة) feedbacks معقدة ومتعددة.

ومازالت تكتونية الصفائح تزودنا بالإطار الأساسي الذي يعلّل توزّع الجبال على سطح الأرض. كما أنّ تشكل الجبال لايزال يفسر كإضافة كتلة أو حرارة أو شكل ما من الاثنين معا، إلى منطقة من القشرة الأرضية (القشرة الأرضية هي الجزء الأعلى من الغلاف الصخري). فالقشرة الأكثر حرارة أو الأثخن ترتفع نحو الأعلى مشكِّلة الجبال، بسبب أنّ القشرة تعوم بصورة أساسية فوق وشاح أكثف منها، والقشرة التي تكون إما أثخن وإمّا أكثر حرارة (أي أقل كثافة) هي التي تعوم أكثر إلى الأعلى. وتسهم تكتونية الصفائح في زيادة ثخانة القشرة إمّا بالتقارب الجانبي بين الصفائح المتجاورة وإمّا عبر الدفق الصاعد من الحرارة والمُهل (الصخر المنصهر).

اندساس أو تصادم
يحدث تقارب الصفائح التكتونية بصورة عامة بطريقتين اثنتين. فقد تنزلق إحدى الصفائح نحو الأسفل أي تندس (تنغرز) تحت صفيحة أخرى في الوشاح. وعند حدود منطقة الاندساس subduction تزداد الصفيحة الأعلى ثخانة نتيجة الانضغاط وصعود المهل (الماغما، الصهارة) المضاف الناجم عن انصهار الصفيحة المُندسة. إنّ الكثير من الجبال التي تتضمّن معظم السلاسل الجبلية التي تحيط بالمحيط الهادئ، والموجودة في منطقة ناشطة من الناحية الجيولوجية تُعرف بحلقة النار، تشكّلت بعملية الاندساس، وبالمقابل لا تندس في عملية التصادم collision بين قارتين أية صفيحة في الوشاح. وبسبب ذلك فإنّ كل الكتلة المضافة الناجمة عن التصادم تسهم في تشكل الجبال. لقد أحدثت عمليات التصادم هذه أشكالا طبوغرافية مدهشة مثل نجد (هضبة) التيبت وجبال الهيمالايا التي تحوي أعلى القمم العشر في العالم.

إن تدفق المهل والحرارة على قشرة الأرض مثلا أثناء النشاط البركاني قد يؤدّي أيضا إلى تشكل الجبال. فأطول السلاسل الجبلية على الأرض ـ وهي ضهور (حُيود) وسط المحيطات mid-ocean ridges ـ هي الناجمة عن صعود المهل عندما تتباعد الصفائح بعضها عن بعض مشكِّلة قشرة جديدة تحت المحيط. وهذه الضهور تتكوّن المحيطين الأطلنطي والهندي وشرق المحيط الهادئ وتبدو كالدرْزِ الذي يُشاهد على كرة البيسبول؛ ويبلغ طول ضهر وسط المحيط الأطلنطي وحده أكثر من 15000 كيلومتر ويرتفع إلى 4000 متر فوق السهول المجاورة السحيقة المكوّنة لأرضية المحيط. وعلى اليابسة، قد تساعد الحرارة التي ترافق تدفق المهل على رفع مناطق واسعة، وذلك بجعل القشرة أقل كثافة وأكثر عوما على الوشاح الأكثف الموجود تحتها.


منظر لوادٍ مدهش في جبال الروكي الكندية نُحت بالجليديات التي لها قوة انجرافية ضخمة أثناء
العصر الجليدي الأخير.

إنّ نشوء فكرة تشكل الجبال كنظام يتكيّف مع الظروف system-oriented view يضيف إلى تلك الظواهر التكتونية تأثيرات الانجراف والمناخ المتشابكة فيما بينها في الغالب إلى أبعد الحدود. ويتضمّن الانجراف تفكيك الأساس (المهد) الصخري وتعرية المنحدرات من الرواسب ونقل الرواسب بالأنهار. وتعتمد مجموعة العوامل الانجرافية الفعّالة على وجه الأرض ـ عوامل الثقالة والمياه والرياح وجليد الجليديات ـ على المناخ المحلّي وعلى الانحدار الطبوغرافي وعلى طبيعة الصخر السطحي أو قرب السطحي.

ويرتبط المناخ على نحو معقّد بالانجراف لأنه يؤثر في من التعليم المتوسط معدّل خسارة المواد على وجه الأرض. وبصورة عامة تساعد الظروف المطيرة على تسريع معدّلات الانجراف، ومع ذلك فإنّ الرطوبة الزائدة تُشجع نمو النباتات التي تساعد على حماية السطح وتثبيته عند حدوث انجراف. وتكون الجبال في المناطق القطبية أقل عرضة إلى الانجراف، جزئيا بسبب جفاف المناخات الباردة وأغطية الجليد القارية مثل أغطية منطقتي گرينلندا والقطب الجنوبي اللتين تكونان عادة متجمدتين حتى الصخور التحتية التي لا تتعرّض إلى الانجراف. وعلى العكس من ذلك فإن جليديات الجبال، مثل جليديات جبال الألب الأوروبية وجبال سييرا نيڤادا في كاليفورنيا، تهاجم بشدة الصخر تحت السطحي، لذا فإنّ هذا النمط من الجليديات قد يكون من أكثر عوامل الانجراف فعالية على الكرة الأرضية.

هذا وثمة ارتباطات كثيرة أخرى بين الانجراف والمناخ والطبوغرافيا. فمثلا ترفع الجبال الرياح التي تهب عليها مسببة هطول أمطار متزايدة على منحدرات الجبل المواجه للرياح، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى زيادة عملية التحات. وهذا التأثير الذي يعرف بالأوروغرافيا (جغرافية الجبال) orography مسؤول أيضا عن تكوين «ظل الأمطار» rain shadow الذي يؤدّي إلى تشكّل الصحارى على جوانب الكثير من سلاسل الجبال البعيدة عن مهب الرياح leeward. [انظر الصورة في الصفحة المقابلة]. ويمكن أن يؤثّر الارتفاع أيضا في الانجراف لأن الحرارة المن التعليم المتوسطة تتناقص مع زيادة الارتفاع وبالتالي يقل احتمال حماية القمم العالية بالنباتات ويزداد احتمال انجرافها بالجليديات. وفي المناطق المعتدلة يكون معدّل سرعة الانجراف متناسبا مع من التعليم المتوسط انحدار التضاريس (الطبوغرافيا) وبكل وضوح وجلاء تكون العمليات التي تسيّرها الثقالة والمياه أقوى على المنحدرات الأكثر انحدارا. وتُشير هذه الحقائق مجتمعة إلى أنّ الجبال تُطوّر مناخاتها الخاصة أثناء ارتفاعها وتصبح بالتدريج وبشكل نموذج مقترحي أكثر رطوبة وبرودة ومتميّزة بانجراف أكثر شدة.

وتبيّن الارتباطات التي وصفناها آنفا أنه من الأفضل اعتبار السلاسل الجبلية نظاما system. وحتى نفهم سلوك أي نظام يجب تعرّف مكوّناته والتفاعلات بين تلك المكوّنات. وتكون هذه التفاعلات مهمة جدا، فقد تقود مُدخلات inputs نظام بسيطة إلى مُخرجات outputs معقّدة إلى أبعد الحدود. وأمثال هذه التعقيدات تتضمّن تغذية مرتدة ـ ارتباطات موازنة أو غير موازنة بين سيرورات المكوّنات. ففي المثال البسيط الذي ذكرناه، كان خَرْج النظام هو ارتفاع سلسلة الجبال في حين كان أحد مُدْخَلات النظام هو معدل سرعة الانجراف. فعندما تزداد الجبال في الارتفاع يتزايد الانجراف، مما يؤدي إلى إنقاص معدل سرعة الارتفاع. وبما أنّ هذه التغذية المرتدة تميل إلى تقليل الدخل ـ وكنتيجة لذلك تخفّف الخرج أيضا ـ فإنها تُعرف بالتغذية المرتدة السلبية. وبالمقابل فإنّ التغذية المرتدة الإيجابية لها مفعول مضاد وهو تسريع أي تغيّر في نظام ما. فنشوء «ظل مطري» هو مثال على التغذية المرتدة الإيجابية: حيث الانجراف يكون مفقودا متيحا بذلك لسلسلة الجبال متابعة ارتفاعها السريع. إنّ «ظل الأمطار» في شمال جبال الهيمالايا أسهم في تشكيل نجد التيبت المرتفع. [انظر ما هو مؤطر في الصفحتين 62 و 63].


تُرى بوضوح جبال الهيمالايا ونجْد (هضبة) التيبت في هذه الصورة المأخوذة من القمر الصنعي (الساتل) (في الأعلى) كمنطقة يغلب عليها اللون الأبيض شمال الهند وشرقها. إنّ السلاسل الجبلية الواقعة على طول الحدود الجنوبية لهذه المنطقة هي جبال الهيمالايا التي تمثل مظهرا جميلا للتصادم المستمر الذي بدأ منذ نحو 50 مليون سنة حينما بدأت صفيحة الهند التكتونية بالاندساس في الصفيحة الآسيوية.

إن فكرة التغذية المرتدة تكمن في لب الفهم الجديد لكيفية تشكل الجبال وحتى لكيفية تأثير تشكل الجبال في نظام الكرة الأرضية كلها. لقد تمّ توقّع أو تعرُّف أنماط مختلفة من التغذية المرتدة. ومن بين أكثر المفاهيم غير المتوقعة التي تجمعت من هذه الاكتشافات هو التحقّق من أنّ عدة عمليات تغذية مرتدة مهمة تمكِّن العمليات السطحية مثل المناخ والانجراف من التأثير بشكل فعّال في العمليات التكتونية التي تحدث في الأعماق تحت سطح الأرض (والعكس بالعكس).

توازن قشرة الأرض هو الحلّ
تحدث إحدى عمليات التغذية المرتدة من خلال ظاهرة تُعرف بالتوازنية isostasy، أي توازن قشرة الأرض الذي يرجع إلى طفو قشرة الأرض التي تعوم على الوشاح الأكثف شبه المائع الموجود تحتها. ولا بد لكل سلسلة جبال، مثل أيّة بنية فيزيائية، أن تستند إلى مسند، وقد تبيّن أنّ هذا المسند يأتي بشكل رئيسي من متانة القشرة وتوازنها. يوجد تحت القمم العالية لكل سلسلة من الجبال «جذر» root من القشرة يغوص في الوشاح. وهذا الذي يحدث في جبال الجليد التي تُقدم تشابها مفيدا: فبسبب كثافة الجليد التي تبلغ نحو 90% من كثافة الماء، تستند كتلة الجليد الظاهرة فوق الماء إلى كتلة أكبر منها بتسع مرات تحت الماء. أمّا كثافة قشرة القارات فتتراوح ما بين 80 و 85% من كثافة الوشاح الموجود تحتها، ويؤدي هذا إلى غوص جذور من القشرة عشرات الكيلومترات في الوشاح لتسند جبالها التي يبلغ ارتفاعها فقط عدة كيلومترات.

والتوازنية هي الآلية المُنسّقة التي تربط تطور الجبال التكتوني أو الداخلي بتطورها الجيومورفولوجي (الشكلي) أو الخارجي. فعندما يزيل الانجراف كتلة ما من على السطح تستجيب التوازنية برفع سلسلة الجبال بكاملها نحو الأعلى لتحلّ محل نحو 80% من الكتلة المُزالة. ويفسّر هذا الارتفاع عددا من الظواهر التي كانت مُحيرة قبل أن يدرك الباحثون تماما دور التغذية المرتدة في تشكل الجبال.


يحدث الارتفاع التوازني نتيجة طفو جبل من الجبال عندما «يعوم» على وشاح (غير مرئي في الشكل) شبه مائع وأكثر كثافة منه. ويؤدّي الانجراف إلى ارتفاع القشرة نحو الأعلى في حين يؤدي ترسيب الرواسب الناتجة منه إلى هبوط القشرة نحو الأسفل.

فقد كشفت مسوح عالية الدقة على طول شاطئ الأطلنطي في الولايات المتحدة مثلا أن اليابسة ترتفع باستمرار بمعدّل يتراوح ما بين عدة ملّيمترات وعدة سنتيمترات كل 100 سنة. وكان هذا محيرا لأن جبال الأپالاش تقع داخل صفيحة أمريكا الشمالية حيث لا توجد حدود لصفائح متقاربة لتعليل الارتفاع. فقد افترض بعض الجيولوجيين أن نتائج المسح يجب أن تكون خاطئة بسبب ذلك. ولكن مع تفسيرنا الجديد فإن بعض أو كل الارتفاع المُقاس يمكن أن يُمثّل مع ذلك الاستجابة التوازنية للانجراف وبخاصة في المناطق ذات التضاريس العالية في جبال الأپالاش. فمواد التحات الصخرية التي انتهى بها المطاف لتستقر في قيعان الأودية والأنهار قد تكون ذا شأن لأنها تستطيع رفع قمم الجبال إلى ارتفاعات أعلى مما كانت عليه قبل أن يبدأ التحات. ومع أن إزالة الكتلة تتمّ في الوديان فإنّ هذا الرفع يكون محتملا لأنّ الاستجابة التوازنية ترفع كتلة الجبال كاملة، التي تشمل الوديان والقمم على السواء.

وعلى الرغم من أنّ التوازنية تستطيع أن ترفع قمم الجبال طوال ملايين السنين فإنّ سطح الأرض، حتى من دون الرفع التكتوني، سيخضع بالفعل في نهاية المطاف إلى الانجراف. فقد أشارت عدة دراسات إلى أنّ مساحات واسعة من أستراليا هي أمثلة جيدة عن أراض قديمة جدا منجرفة. وهذه المساحات التي لم تتعرّض إلى رفع تكتوني طوال مئات الملايين من السنين تكون، على الأكثر، على ارتفاع عدة مئات من الأمتار فقط فوق سطح البحر. ويبدو أنّ معدلات سرعة ارتفاع سطوحها مرتبطة فقط باستجابة عملية التوازن للانجراف. أمّا في أمثال الجبال الناشطة من الناحية التكتونية مثل جبال الهيمالايا وجبال الألب الأوروبية فإنّ الارتفاع المُقاس يعكس جمعا لقوى تسيّرها التكتونية مع ارتفاع توازني يسيّره الانجراف. وإذا علمنا معدلات سرعة ارتفاع الجبال وانجرافها نستطيع أن نُخمّن أنّ عشرات من السلاسل الجبلية الرئيسية قد تشكلت واندثرت على الكرة الأرضية عبر مادة التاريخها الطويل.


تُشير الأوروغرافيا (مادة الجغرافيا الجبال) orography إلى الظاهرة التي ترفع الجبال بوساطتها التيارات الهوائية التي تهبّ عليها مؤدية إلى زيادة هطل الأمطار فوق القمة وعلى منحدرات السلسلة الجبلية الواقعة مقابل مهبّ الرياح. فمثلا حينما تهبّ، في سلسلة جبلية بالقرب من محيط، رياح سائدة من جهة البحر معاكسة لجهة الاندساس (a)، فإنّ الانجراف يتركّز على الجانب الداخلي (البري) من السلسلة مؤديا إلى تكشّف الصخور الأعمق والأكثر تشويها في تلك المنطقة. أمّا عندما تهبّ الرياح في اتجاه الاندساس نفسه (b) فإن الانجراف يعري الجانب الشاطئي من السلسلة مؤديا إلى تكشّف الصخور المنطمرة إلى السطح. وفي هذه الحالة فإن الجانب الداخلي من السلسلة الجبلية يقع في «ظل الأمطار» الجافة مثل الصحراء الشرقية في السييرا نيڤادا (الصورة).

أزمنة تكتونية غير اعتيادية؟
إن عملية تشكل الجبال، التي تشمل أيضا الجبال القديمة التي تشكلت واندثرت في الماضي البعيد، يمكن أن تترك أدلّة متنوعة في السجل الجيولوجي: مثل تدفُّق اللابات lava واندساس المهل وتكشُّف الصخور التي كانت عميقة فيما مضى وكذلك الرواسب الغزيرة المترسبة في أحواض الأراضي المنخفضة والمستحاثات النباتية التي كانت تعيش على ارتفاعات عالية. ويستطيع الجيولوجيون، بعد دراسة أمثال هذه الأدلة في كثير من الأدوار الجيولوجية المختلفة، أن يستنتجوا مدى امتداد تشكّل الجبال على الكرة الأرضية في أزمنة مختلفة ويتوصّلون بذلك إلى إدراك تطوّر كوكب الأرض.

ولقد درس كثير من الجيولوجيين الغزارة النسبية من الرواسب ونشاطات المهل والأدلة الأخرى الممكنة الناجمة عن تشكل الجبال واستنتجوا أنّ الأربعين مليون سنة الماضية تمثّل نشاطا غير عادي من الفعاليات التكتونية وتشكل الجبال. وهذا الزمن الجيولوجي نفسه صادف مع ذلك أيضا تغيرا مناخيا كبيرا على الكرة الأرضية تمثّل بتبريد شامل حوّل گرينلندا والقطب الجنوبي من أراض مغطاة بالنباتات وذات مناخ معتدل إلى أغطية جليدية دائمة بلغت ذروتها في تشكل الجليديات التي غطت أمريكا الشمالية وأوروبا خلال المليوني سنة الماضية. وهكذا توجد في الوقت الحاضر نظريتان متناقضتان حول تشكل الجبال والمناخ خلال الأربعين مليون سنة الماضية: فإمّا أن يكون نشاط تشكل الجبال هو الذي سبّب تغيّر المناخ الشامل وإمّا أن يكون تغيّر المناخ هو الذي سبّب نشاط تشكل الجبال.

تجزم النظرية الأولى من هاتين النظريتين بأنّ تشكل الجبال الفعّال الواسع الانتشار برّد الكرة الأرضية كنتيجة للتغذية المرتدة بين الجبال والمناخ. فعلى سبيل المثال تميل الجليديات إلى المحافظة على نفسها: فحالما تتشكّل فإنّها تزيد الانعكاسية على السطح ـ أي انعكاس جزء من الإشعاع الوارد على السطح ـ وبذلك تنخفض درجات الحرارة وتُتيح تشكّل جليد أكثر. ويمكن أن يكون ارتفاع الكتل الجبلية الضخمة الواسعة الانتشار في الأربعين مليون سنة الماضية قد أدّى إلى زيادة مساحة الأرض المغطاة بجليديات الجبال التي أدّت بالتالي إلى زيادة انعكاسية الكوكب. وقد يكون ثنائي أكسيد الكربون الجوي عاملا مهمّا آخر من عوامل التغذية المرتدة. فأحد التفسيرات يؤكد أن تشكّل الجبال يمكن أن يغيّر التوزّع الشامل لهطل الأمطار وسقوط الثلوج ممّا يزيد من سرعة تفكك الصخور عن طريق الانحلال والتفاعلات الكيميائية. وطبقا لهذه النظرية فإنّ التجوية الكيميائية المتسارعة خفّضت نسبة ثنائي أكسيد الكربون في الغلاف الجوّي وحدّت من مفعول ظاهرة الدفيئة وأدت إلى مناخ شامل أكثر برودة.

ولكن ربّما كان تغيّر المناخ هو التغيّر الأكثر تميّزا وفعالية خلال الأربعين مليون سنة الماضية. وتفترض هذه النظرية أن تغيّر المناخ قدّم دليلا جيولوجيا كان قد فُسّر بشكل غير صحيح وكأنه يزيد من سرعة نشوء الجبال. إذ يعتقد معظم علماء المناخ أنّ التبريد الشامل كان ينجم عن انزياح القارات الذي غيّر توزّع مناطق اليابسة والمحيطات بالنسبة إلى خطوط العرض وغيّر أيضا نظم التيارات البحرية التي هي الآليات الرئيسية التي توازن الأرض بوساطتها اختلال التوازن الحراري بين خط الاستواء والقطبين [انظر: «مناخ شواشي»، مجلة العلوم، العدد2 (1996)، ص 38]. إذًا كيف أمكن لهذه التغيّرات المناخية أن تؤدي إلى تشكل الجبال؟ يتم ذلك من خلال الارتفاع التوازني. وبحسب هذا التفسير فإنّ التبريد الشامل جعل الانجراف أكثر شدة في عدد من السلاسل الجبلية. فالانجراف المستمر، وبصورة خاصة في قاع وديان الأنهار والجليديات أدّى إلى ارتفاع متزايد لقمم الجبال كتعويض توازني للانجراف.

اعتُبر غموض السبب والنتيجة بين المناخ الشامل وبين تشكل الجبال مفارقة جيولوجية تنافس مسألة البيضة والدجاجة، ولكن هذا الدوران في حلقة مفرغة شائع في الأنظمة الغنية بالتغذية المرتدة. فالجيولوجيون قد يجهلون حاليا ما الذي سبّب تغيّرات المناخ والطبوغرافيا التي حدثت خلال الأربعين مليون سنة الماضية، ولكنّهم يدركون أنّ الأنواع الكثيرة من التغذية المرتدة في هذا النظام تكون قادرة على تضخيم أي تغيّر وأن العمليات التكتونية والمناخية والانجرافية لا بدّ أنها تفاعلت معا في تقديم الدليل الجيولوجي الذي نجده في الوقت الحاضر.

قوة الانجراف الساحبة
يكشف تعرّف الكثير من أنماط التغذية المرتدة في نظام تشكل الجبال، عن أنّ الانجراف لا يشترك وحده في إعطاء شكل للجبال وإنّما يقود أيضا عمليات تكتونية عميقة ضمن قشرة الأرض. فالقوة المُحددة النهائية لتشكُّل الجبال هي الثقالة gravity. وهكذا فإن الانجراف يزيد في الواقع، بإنقاصه وزن السلسلة الجبلية، سرعة العمليات التكتونية تحت الجبال. ولهذا السبب يمكن اعتبار العمليات الانجرافية وكأنها «ماصة» sucking أو ساحبة للقشرة نحو السلاسل الجبلية وإلى الأعلى نحو السطح. وبهذه الطريقة يترك الانجراف بصمة واضحة على الصخور وعلى طراز تشوّه القشرة الأرضية في الجبال وتحتها.

يتحدَّد نمط الصخور عند سطح جبل من الجبال جزئيا بالمناخ المحلّي وبمعدّل سرعة الانجراف وطرازه. وبهذه الطريقة يؤثّر الانجراف في كل من الطبوغرافيا وتركيب الجبال وبنيتها أيضا. ويتحكم كل من الضغط والحرارة ضمن قشرة القارات في تحوّل metamorphism الصخور (تغيّرات تنجم عن التسخين والضغط) وفي تكوين الكثير من المعادن المشكّلة للصخور. ويبدو أنّ فروقا بسيطة للمناخ والانجراف، مثل سرعة الرياح واتجاهها أو الاختلافات المن التعليم الثانوية للمواقع بحسب خطوط العرض، قد تؤثّر بشكل فعّال في سجل الحرارة المادة التاريخي وبالتالي تؤثّر في نمط الصخور المتشكّلة بينما تتطوّر السلسلة الجبلية.

وحديثا، تحرّت نماذج حاسوبية عن مدى تأثير اتجاه الرياح المسيطرة والأوروغرافيا (مادة الجغرافيا الجبال) في توزيع مناطق التحوّل المختلفة في السلاسل الجبلية. فبالنسبة إلى الجبال المتشكلة نتيجة لعملية الاندساس تسبّب الرياح المسيطرة التي تهبّ في الاتجاه نفسه الذي يحدث فيه الاندساس، سقوط معظم الأمطار على الجهة البحرية من السلاسل الجبلية التي تواجه الصفيحة المندسّة.

وهذه الظاهرة تُزيد في شدة تشوّه الصخور العميقة في قشرة الأرض وتؤدي إلى تكشّفها. أمّا في حالة هبوب الرياح من الاتجاه المعاكس للجهة التي يحدث فيها الاندساس فيتركّز الانجراف على جانب سلسلة الجبال المقابل لليابسة حيث يكون التشوّه متجانسا نسبيا على هذا الجانب من السلسلة ويكون تكشّف الصخور العميقة مقتصرا على الجانب الداخلي أو القاري من السلسلة. فقد بيّنت دراسة اللباب (النوى) cores الجبلية المنجرفة لعدة سلاسل جبلية قديمة أن البصمة الأوروغرافية (بصمة جغرافية الجبال) واتجاه الرياح يظلان واضحين في توزّع الصخور «المسحوبة» sucked نحو السلسلة الجبلية بالانجراف الناجم عن المناخ، حتى إلى نحو بليوني سنة بعد أن تكون السلاسل قد أصبحت هامدة من الناحية التكتونية.

ومع الأدلة المتزايدة على أنّ الارتفاع التكتوني والانجراف قد يحدثان في الزمن نفسه وبمعدلات سرعة متساوية، استنتج عدد كبير من الباحثين أن بعض السلاسل الجبلية وصلت إلى حالة طبوغرافية مستقرة. وفي هذه الحالة، يمكن أن يبقى حجم الجبال وشكلها الأساسي من دون تغيير لمئات من آلاف السنين لا بل إلى ملايين السنين، يتعرّضان لتغيّرات طفيفة أو لا، لكون معدل سرعة الانجراف يكافئ معدل سرعة الارتفاع.

جبال الهيمالايا وجبال الأپّالاش
تمثل جبال الهيمالايا والأپالاش أكبر السلاسل الجبلية على الكرة الأرضية، فقد تشكلتا معا من تصادم قاري، ولكن تختلف إحداهما عن الأخرى كما تختلف الجبال فيما بينها. وتوضح مقارنة الأولى بالأخرى بشكل جيد مبادئ تفسير فكرة تشكل الجبال الجديدة «كنظام يتكيّف مع الظروف» system-oriented.
تعدّ جبال الهيمالايا التي تمتد 2500 كيلومتر عبر شمال الهند وجنوب التيبت ملكة السلاسل الجبلية. ترتفع في هذه السلسلة الكثير من أعلى قمم العالم التي تتضمن جبل إڤرست وهو أعلى الجبال ويصل ارتفاعه إلى 8848 مترا. وتُمثّل جبال الهيمالايا مع نجد (هضبة) التيبت الواقع في شمال السلسلة وجنوب غرب الصين أكبر كتلة جبلية على الكرة الأرضية. ولقد افتُرض أنّ هذا النطاق الجبلي هو أعلى كتلة مرتفعة وصلتها الأرض عبر الألف مليون سنة الماضية. ويعطي النجد، من ناحية أخرى، انطباعا بأنّه سهل صحراوي منخفض ما عدا أن ارتفاعه يُسبّب ضيق النفس. والنجد هو أكبر امتداد من اليابسة على الكرة الأرضية يزيد ارتفاعه على 5000 متر ـ تبلغ مساحته نصف مساحة الولايات المتحدة القارية، ويبلغ ارتفاع معظم مساحته أعلى بنحو 600 متر على الأقل من جبل وايتنيه Whitney الذي هو أعلى نقطة في الولايات المتحدة.
إنّ كل هذه الطبوغرافيا المثيرة والمتنوعة تطوّرت خلال الخمسين مليون سنة الماضية نتيجة لتصادم بين الهند وصفائح آسيا التكتونية. بدأ التصادم بعصر squeeze كل من الهند والتيبت وبتكوين (تنشيط) صدوع انضغاطية ضخمة على مستوى القشرة الأرضية، دفعت قسما من القارة الهندية تحت جنوب القارة الآسيوية. كانت سرعة الهند أثناء حركتها نحو الشمال قبل التصادم تتراوح ما بين 15 و 20 سنتيمترا في السنة في حين أصبحت بعد التصادم 5 سنتيمترات في السنة. إنّ مثل هذا التباطؤ في السرعة لكامل القارة هو أقل دهشة من حقيقة أن الهند لاتزال مستمرة في التقدّم نحو وضمن جنوب آسيا بسرعة 5 سنتيمترات في السنة طوال الأربعين أو الخمسين مليون سنة الماضية. فقد تقدمت القارة الهندية نحو 2000 كم في الصفيحة الآسيوية، وتضاعفت تقريبا ثخانة القشرة وارتفعت جبال الهيمالايا ونجْد التيبت وضغطت مساحات ضخمة من الهند الصينية وشرق الصين نحو الشرق والجنوب الشرقي.

تشكلت جبال الأپالاش والهيمالايا بمجموعة العمليات الجيولوجية نفسها ولكن بفارق زمني قدره نحو 250 مليون سنة. لقد أعطت السنين الكثيرة والطويلة إلى جبال الأپالاش الأقدم (في اليسار)، مظهرا أقل وعورة من جبال الهيمالايا (في اليمين) التي لاتزال ترتفع باستمرار بوساطة قوى تكتونية شديدة. وقد تكون جبال الهيمالايا الجبال الأكبر والأكثر ارتفاعا التي تشكلت على الكرة الأرضية خلال الألف مليون سنة الماضية.

إن تشكل جبال الهيمالايا ونجد التيبت يوضّح الكثير من مبادئ نظام تشكّل الجبال الغني بالتغذية المرتدة feedback-rich. فعلى سبيل المثال إنّ ارتفاع النجد سبّب على ما يبدو تغيّرا مناخيا منذ نحو 8 ملايين سنة، مما أدّى إلى زيادة مفاجئة في شدة الرياح الموسمية الآسيوية التي هي نمط من هطل مطري شديد يحصل في جنوب آسيا. وهذا النمط من الرياح الموسمية أدّى إلى زيادة كبيرة في شدة الانجراف في جبال الهيمالايا مؤديا إلى زيادة دفق الرواسب من الأنهار الهندية والبنغالية زيادة كبيرة مضروبة بعامل 13. ويبدو أنّ زيادة شدة الرياح الموسمية الآسيوية دفعت جبال الهيمالايا إلى الارتفاع نتيجة استجابة توازن (قابلية الطفو) القشرة إلى الانجراف الذي ازدادت شدته في المنطقة. وخلال ذلك كان تطوّر الجزء الداخلي من نجد التيبت بطيئا نسبيا لأنه كان يقع ضمن ظل أمطار rain shadow جبال الهيمالايا ولأن الأنهار الرئيسية لم تكن قد بدأت بعد في حفر مجاريها في هذه المنطقة.
وعلى الرغم من أنّ جبال الأپالاش هي في الوقت الحاضر أقل إثارة من جبال الهيمالايا فقد تشكلت بالعمليات التكتونية نفسها وهي تأخذ شكلها (تتشكّل) حاليا بنظام التغذية المرتدة نفسه. والاختلاف الأساسي بينهما هو الاختلاف في العمر: فعمر جبال الهيمالايا نحو 50 مليون سنة في حين وصلت جبال الأپالاش إلى أقصى ارتفاعها منذ ما بين 250 و 350 مليون سنة. من الناحية الجيولوجية يعدّ الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة الجانب الهادئ من القارة في الوقت الحاضر. ومع ذلك فقد كان قبل نحو 200 مليون سنة مركزا فعالا لتشكل الجبال. فخلال عدة مئات من ملايين السنين السابقة كان سلف المحيط الأطلنطي (المسمّى محيط اللپتس Lapetus) يندس تحت القسم الشرقي من شمال أمريكا. فعندما كان ينغلق محيط اللپتس تدريجيا كانت ثلاث كتل أرضية صغيرة على الأقل، يُحتمل أنّها أقواس جزيرية island arcs مشابهة للجزر اليابانية الحالية، تصطدم بالقارة. وصلت عملية تشكّل الجبال فيما بعد إلى الأوج عندما تصادمت أفريقيا مع القسم الشرقي من الولايات المتحدة. وقد قُدّر عرض جبال الأپالاش المبكرة التي نجمت عن عمليات التصادم بما بين 250 و 350 كيلومترا مع من التعليم المتوسط ارتفاع يتراوح ما بين 3500 و 4500 متر، وفي قمم منعزلة ربّما كان أعلى من ذلك. وقدّرت إحدى الدراسات أنّ الانجراف أزال، خلال 270 مليون سنة الماضية، ما بين 4500 و 7500 متر من مواد سطح جبال الأپالاش. (وهذه الحقيقة لا تعني أنّ الجبال كانت فيما مضى أعلى بنحو ما بين 4500 و 7500 متر، ويجب أن لا ننسى أنّ الجبال ترتفع باستمرار نحو الأعلى بالارتفاع التوازني استجابة إلى الانجراف). وخلال الـ 200 مليون سنة الماضية وفي حين كانت شمال أمريكا تبتعد عن أفريقيا وفي حين كان ينفتح المحيط الأطلنطي، يمكن أن تكون أحداث من التعليم الثانوية قد حصلت مما سبب ارتفاعا غير مهم، غير أن الانجراف كان يمثل العملية المسيطرة التي أعطت سلسلة الجبال شكلها.

ثلاث مراحل
على الرغم من الاعتقاد بأن عددا قليلا نسبيا من جبال الأرض هي الآن في حالة توازن كامل فإنّ عددا كبيرا منها وصل إلى مثل هذا التوازن في زمن ما من مادة التاريخها الجيولوجي. فالسلاسل الجبلية، كما يظهر، كثيرا ما تمرّ بثلاث مراحل متميّزة: الأولى مرحلة التشكّل وتبدأ مع تقارب الصفائح أو مع بعض أحداث تكتونية أخرى تؤدي إلى تثخين القشرة وتسبّب صعود الطبوغرافيا. وخلال هذه المرحلة تتجاوز معدّلات سرعة الارتفاع معدّلات سرعة الانجراف. ومع ذلك تزداد معدلات سرعة الانجراف بشكل كبير مع ازدياد الارتفاعات والتضاريس. واعتمادا على حجم السلسلة الجبلية وعلى المناخ المحلي، قد يستمر الارتفاع حتى توقِفَ معدلات سرعة الانجراف أو متانة القشرة استمرار تزايد ارتفاع السلسلة المن التعليم المتوسط. وهذه هي المرحلة الثانية التي هي حالة مستقرة تستمر مادامت معدلات سرعة الارتفاع والانجراف متكافئة. وعندما يتناقص الارتفاع يبدأ الانجراف بالسيطرة وبالتالي تبدأ المرحلة النهائية. إذ يبدأ الارتفاع المن التعليم المتوسط للسلسلة الجبلية بهبوط بطيء وطويل الأمد. ويمكن أن تتعقّد أو تتقطّع الدورة في أية مرحلة من مراحلها بأحداث مناخية أو تكتونية، وبالتغذية المرتدة بين هذه العمليات والانجراف.

ويُبشر النموذج مقترح الجديد عن طريقة تطوّر الجبال بنجاح ثوري مثل النجاح الذي حققته منذ نحو ثلاثة عقود نظرية تكتونية الصفائح. وتماما وكما نجحت تكتونية الصفائح في تفسير التوزّع العالمي للزلازل والبراكين والمستحاثات والكثير من الصخور والمعادن المختلفة، فإنّ الفهم الجديد لتشكّل الجبال يُبيّن الطريقة التي تتفاعل فيها القوى التكتونية مع مناخ الكرة الأرضية وطبوغرافيتها لتكوين أروع المظاهر الطبيعية على سطح الأرض. ومثل تكتونية الصفائح، يُفسّر النموذج مقترح الجديد ظواهر حيّرت الجيولوجيين مدة طويلة. فمثلا، نجحت عمليات المحاكاة الحاسوبية التي دمجت الكثير من مبادئ النموذج مقترح الرئيسية نجاحا باهرا في تقليد تأثير الأحداث التكتونية المعقدة عبر الأزمنة الجيولوجية وتقليد تأثير التقلبات المناخية والشروط (البيئات) الجيولوجية الأخرى. وسوف يُزوّدنا البحث المتواصل بتفصيلات أكثر عن الطريقة التي أدّت إلى ارتفاع سلاسل جبال الأرض الرائعة وتطوّرها وانحطاطها، كما يزودنا بتفصيلات تتعلق بأهمية الجبال في تطوير (تشكيل) المناخ والتكتونيك على كوكبنا.

المؤلف
Nicholas Pinter - Mark T. Brandom
بدأ المؤلفان في تعاونهما بجامعة ييل في حقل علم البنيوية (التكتونيك) الناشط في أوج التطوّر الذي يشدّد على التفاعلات بين التشوّه التكتوني وطبوغرافية سطح الأرض. إن پنتر هو أستاذ مساعد في جامعة إيلينوي، وقد تركزت أبحاثه على تأثير العمليات التكتونية في الطبوغرافيا ولا سيما المتعلقة بنشاطات الصدوع والخطر الزلزالي. أمّا براندون فهو الآن أستاذ مشارك للجيولوجيا التركيبية والتكتونيك في جامعة ييل. تركّز بحثه في ولاية واشنطن بكامشاتكا ونيوزيلندا على فهم التفاعل بين الارتفاع التكتوني والانجراف في مناطق الاندساس وسلاسل الجبال المتشكلة في مناطق التصادم.

مراجع للاستزادة
LANDFORM DEVELOPMENT BY TECTONICS AND DENUDATION. T. Yoshikawa in Themes in Geomorphology. Edited by A. Pitty. Croom Helm, 1985.
EROSIONAL CONTROL OF ACTIVE COMPRESSIONAL OROGENS. C. Beaumont, P. Fullsack and J. Hamilton in Thrust Tectonics. Edited by K. R. McClay. Chapman and Hall, 1992.
”LONG-TERM&quot; LAND SURFACE PROCESSES: EROSION, TECTONICS AND CLIMATE HISTORY IN MOUNTAIN BELTS. B. L. Isaacs in TERRA-1: Understanding the Terrestrial Environment: The Role of Earth Observations from Space. Edited by P. M. Mather. Taylor and Francis, 1992.
TECTONIC FORCING OF LATE CENOZOIC CLIMATE. R. E. Raymo and W. F. Ruddiman in Nature, Vol. 359, No. 6391, pages 117-122; September 10, 1992.
HOW FLAT IS TIBET? E. Fielding, B. Isacks, M. Barazangi and C. Duncan in Geology, Vol. 22, No. 2, pages 163-167; February 1994.
MEGAGEOMORPHOLOGY. E. A. Keller and N. Pinter in Active Tectonics: Earthquakes, Uplift and Landscape. Prentice Hall, 1996.
Scientific American, April 1997

مجلة العلوم : أغسطس - سبتمبر1997 / المجلد 13

مع تحياتي الجغرافية
الجغرافية السوري







©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©