القول المفيد في وجوب التجويد


فإن سأل سائل عنْ حكم تجويد القرآن الكريم؛ نقول وبالله التوفيق:
إنه واجب وجوباً عينيا على كلّ مكلف يريد قراءة القرآن الكريم* سواءُ أكان ذكراً أم أنثى* وذلك للأمر به في القرآن المجيد* والسنة النبوية* وإجماع علماء الإسلام من السّلف والخلف إلا من شذّ* ولا عبرة بالشواذ!
1. أما القرآن:
فقولـه سبحانه وتعالى: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } (المزمل: من الآية4) والترتيل: تجويد الحروف* ومعرفة الوقوف. وهو تفسير على بن أبي طالب أحد الخلفاء الرّاشدين* والأئمة المهديين* الذين أمرنا باتباع سنتهم وسبيلهم.
و معلوم أن تجويد الحروف لا يكون بغير معرفة أحكام القراءة واتباع صفة القراءة المتلقاة من صاحب الرّسالة* إمام القرّاء قاطبة: إنسهم وجنّهم* وعربهم وعجمهم* محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم* والأمر في الآية على الوجوب؛ كما هو مذهب جمهور علماء الأصول* إذ أن الأمر يقتضي الوجوب إلا لقرينة تصرفه عن ذلك للندب* كما هو مقررٌ في علم أصول الفقه* ولا نعلم قرينة تصرف هذا الأمر في الآية من الوجوب إلى الندب أو الاستحباب* فيبقى الأمر على الأصل* وهو: الوجوب.
و من الأدلة أيضا قولـه سبحانه وتعالى:{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}(البقرة: من الآية121) وحقَّ التلاوة: لا يكون من غير تجويد* وحسن أداء* إذ بدونهما يذهب حقّ التلاوة* وتصبح التلاوة هذرمة* وفحشاً* وتعسفاً في الأداء والقراءة؛ فإن كلام الله ليس ككلام البشر* فكلام الله له صفة يتلى بها لا يجوز العدول عنها.
و قد مدح الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة عباده الذين يقرؤون القرآن حقّ قراءته* ويتلونه حقّ تلاوته* وفي هذا إشارة إلى وجوب اتباع صفة التلاوة التي نزل بها جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وتلقتها الأمة منه صلى الله عليه وسلم* وأن على القارئ أن يعطيها حقها المطلوب في الآية الكريمة* وفيها ثناء الله ومدحه ومحبته لمن أدى هذه الصفة؛ وتلقاها قراءةً وإقراءاً.
و من الأدلة قولـه سبحانه وتعالى: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } ففي هذه الآية بيان من الله سبحانه وتعالى أن الترتيل صفة تكلّم الله بالقرآن* فمن قرأ القرآن مرتلا* فإنما تلاه على نحو ما رتّله الله سبحانه وتعالى * وأمر بترتيله* وبذلك أوحى الله به إلى جبريل عليه السلام * وجبريل نقل هذه الصّفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم* والنبي علّمها أصحابه* وهكذا أخذها التابعون عن الصحابة إلى أن وصلت إلينا على حالها دون تبديل أو تحريف.
فالترتيل في قولـه سبحانه وتعالى : { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } صفة أزلية لكلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوقة* وهذا معتقد أهل السنة والجماعة من السّلف* فيجب القراءة بهذه الصفة المتلقاة عن ربّ العزة والجلال* وقد ضلّ أقوام(1) زعموا أن القرآن هو الكلام النّفسي لله سبحانه وتعالى وغيرهم كانوا أكثر منهم ضلالاً؛ حيث قالوا بخلق القرآن الكريم* وعلى رأس أولئك الجهمية والمعتزلة ومن لفَّ لفهم.
و من الأدلة: - أيضا- من القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى:{ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(الزمر:28) فمن قرأ القرآن بغير تجويد ولا ترتيل؛ فقد خالف هذه الصّفة* وهي: كونه عربياً؛ لأن اللحن والخطأ في القراءة يتنافيان وفصاحة القرآن العربيّ* الذي هو حجة على اللغة وأهلها* فمن قرأه من غير ترتيل؛ فإنما قرأه على عوج؛ لأن الترتيل: تجويد الحروف* ومعرفة الوقوف* فقراءة القرآن بسلامة واستقامة تنفي عنه صفة العجمة* وهذا لا يكون إلا بترتيله وتجويده.
2. أمّا الأدلة من السّنة فكثيرة* منها:
• سئل أنس رضي الله عنه :« كيف كانت قراءة النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدّاً مدّاً* ثمّ قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
• يمد { بِسْمِ اللَّهِ }* ويمدّ بـ { الرَّحْمَنِ }، ويمدّ بـ { الرَّحِيمِ }.
قلتُ: والمدّ في {بِسْمِ اللَّهِ } أي في لفظ الجلالة، ويمد مدّاً طبيعياً حال الوصل* ويمد من حركتين إلى ست حركات حال الوقف* ومثله : { الرَّحْمَنِ }* و{ الرَّحِيمِ }.
• و عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقطِّع قراءته، يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف، ثم يقول: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ثم يقف»(2).
قلت: أفاد الحديث أنّ الوقوف على رؤوس الآي سنّة نبوية كريمة؛ ولو كان للآية الموقوف عليها تعلّق بما بعدها، خلافاً لمنع كثير من القرّاء، فإن في ذلك مخالفة لسنّة الوقوف على رؤوس الآي* التي كان يلتزمها صلى الله عليه وسلم في قراءته كلّها* كما أفاده حديث أم سلمة رضي الله عنها.
• وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة من القرآن على أبي بن كعب معلّماً مرشداً، فعن أنس رضي الله عنه قال: « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: وسمّاني لك؟! قال: نعم قال: فبكى»(3).
قال النووي رحمه الله: «واختلفوا في الحكمة في قراءته على أُبيّ، والمختار أن سببها أن تستن الأمة بذلك في القراءة على أهل الإتقان والفضل* ويتعلّموا آداب القراءة* ولا يأنف أحد من ذلك وقيل: للتنبيه على جلالة أبي وأهليته لأخذ القرآن عنه* وكان بعده صلى الله عليه وسلم رأساً وإماماً في إقراء القرآن* وهو أجلّ ناشرته أو من أجلّهم».
• و أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه ما تيسّر من القرآن، فقال له ابن مسعود رضي الله :
يا رسول الله ! أقرأ عليك* وعليك أُنزل؟* قال:« إني أشتهي أن أسمعه منْ غيري، فقرأتُ عليه النساء حتّى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} (النساء:41) فقال: حسبك، فرفعتُ رأسي؛فإذا عيناه تذرفان»(4).
فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله على صفةٍ مخصوصةٍ هي التي أمر بها في كتاب كامله، وهو نفسه (أي ابن مسعود) الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ القرآن كما أنزله الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل؛ فليقرأه على قراءة ابن أمِّ عبد»(5)* فهو إقرار من الرّسول صلى الله عليه وسلم لابن مسعود على قراءته الصّحيحة السّليمة المرتلة المجوّدة، وهي دعوة للأمّة - أيضا - أن تقرأ القرآن على نحو ما أنزل، ولا يقرأُ القرآن كما أنزل إلاّ بالتلقي والسّماع من أفواه أئمة القراءة المتقنين* ومنهم ابن مسعود رضي الله عنه .
• و أمر صلى الله عليه وسلم أن يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب كامل الله.
• و أمر صلى الله عليه وسلم أن نزيّن القرآن بأصواتنا، والتزيين إنما يكون بترتيل القرآن الذي يلزم منه تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف وهما حلية التلاوة، إذ بدونهما لا يتحقّق أمره - عليه الصلاة والسّلام- بقولـــــه :«حسّنوا القرآنَ بأصواتكم؛فإنّ الصوت الحسن يزيدُ القرآنَ حُسناً»(6).
• و من أقوى الأدلة على الوجوب ما رواه سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله بن مسعود كان يُقرئ رجلاً، فقرأ الرجل: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } (التوبة: من الآية60) مرسلة(7) فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فـقال كيف أقرأكها يا أبا عبد الرّحمن؟ فقال: { لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } فمدّها(8).
قال الإمام الكبير ابن الجزري(9) بعد إيراده هذا الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم:«هذا الحديث جليل حجة ونص في هذا الباب (أي باب وجوب التجويد) رجال إسناده ثقات* رواه الطبراني في معجمه الكبير».
قلت: وقد كنت في شوقٍ شديدٍ لمعرفة صحة هذا الحديث الذي قوّاه ابن الجزري رحمه الله * فعرضته على شيخي وأستاذي - إمام العصر في علم الحديث- : أبي عبد الرحمن محمّد ناصر الدّين الألباني - نصر الله به دينه، وأعلى به كلمته - فنظر في إسناده؛ فأخبرني بعد حين أنّ الحديث صحيح- ولله الحمد- فوافق ابن الجزري على تصحيح نمذجي مفصله، ولمّا أخبرني شيخي الألبانيّ أنه أودعه في (سلسلته الصحيحة) برقم (2237) فرحتُ جدًّا لأمور؛ منها:
• أنّ هذا الحديث ردٌّ ملزمٌ للمتشدقين، الذين يهرفون بما لا يعرفون، فينكرون التجويد أو بعض قواعده وأصوله.
• أنّني كنتُ سبباً في تصحيح نمذجي مفصل الشيخ رحمه الله له، ووضعه في (سلسلته).
• تأكدت قناعتي واعتقادي بصحته بعد أن ذهب شيخنا - محدّث العصر-* فوافق شيخ المقرئين ابن الجزري رحمه الله ، رحم الله ابن الجزري؛ فقد كان إماماً في الحديث ولم يكن إماماً في القراءات فحسب!
* قال شيخنا العلاّمة عبد الفتاح المرصفيّ رحمه الله :« فابن مسعود الذي كان أشبه الناس سمتاً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر على الرّجل أن يقرأ كلمة: { لِلْفُقَرَاءِ } من غير مدّ، ولم يرخص له في تركه، مع أنّ فعله وتركه سواء في عدم التأثير على دلالة الكلمة ومعناها؛ ولكن لأنّ القراءة سنّة متبعة يأخذها الآخر عن الأول كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه واستفاض النقل عنه بذلك أنكر ابن مسعود رضي الله عنه على الرّجل الذي قرأ بغير قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، التي أقرأ بها أصحابه رضي الله عنهم جميعاً، فدلّ ذلك على وجوب تعلّم التجويد، واتباع أحكامه عند التلاوة، لدلالة مثل هذا النص بالجزء على الكل»(10).
قلتُ: جزى الله شيخنا العلاّمة المرصفيّ رحمه الله خيراً على هذا البيان الذي يقطع جهيزة كلّ من شذّ فخالف: ما أجمعت عليه الأمّة من وجوب تجويد كلام الحق جل جلاله .
* وللعلماء رحمهم الله في وجوب التجويد وترتب الإثم على تركه تفصيل حسن يجدر ذكره وبيانه، فهم يقسمونه إلى قسمين:
1. واجب:
و هو ما يتوقف عليه صحة النّطق بالحرف، فالإخلال به يغيّر الكلمة أو يفسد معناها، وذلك مثل معرفة مخارج الحروف وتحقيقها، ومعرفة الصفات التي تتميز بها بعض الحروف؛ كالاستعلاء، والإطباق في الطاء* وكالتفشي في الشين، ومثل: إظهار المظهر، وإدغام المدغم، وتفخيم المفخم، وترقيق المرقق، ومدّ ما يجب مدّه، وقصر ما يلزم قصره، ونحو ذلك من الأحكام المتعلّقة ببُنية الكلمة، فمن أخلّ بشيء من ذلك فقد أخلّ بالواجب، فيأثم، وهذا القسم من التجويد يلزم كل قارئ للقرآن تحقيقه على قدر طاقته، وبذل وسعه في إتقانه حتى يصحح نطقه بالقرآن، ويسلم من الوقوع في التّحريف في كتاب كامل الله.
2. صناعي:
و هو ما يتعلّق بالمهارة في إتقان النّطق الصّحيح، وذلك ببلوغ الغاية في تحقيق الصّفات والأحكام، وضبط مقادير المدود ضبطاً دقيقاً لا يزيد نصف درجة ولا ينقص؛ بل بعض القرّاء يزن المدود بأدق منْ ذلك؛ فيفرق بين ربع الحركة في الزيادة أو النّقص، ويدخل فيه مراعاة المعاني الخفية في الوقوف، فإن ذلك لا يدركه إلاّ المهرة في فهم القرآن، وهذا القسم لا يتعلّق به إخلال بالنّطق، ولذا لا يجب على العامّة إتقانه، ولا يطالبون به، ولا يأثمون بتركه؛ لأنه من أسرار هذا العلم وخفاياه التي لا يدركها إلا ّالمهرة(11).
قلت: والأول هو الذي يطلق عليه علماء القراءات: «اللحن الجلي» ، أي: الواضح، البين، الظّاهر للعالم والجاهل.
و الثاني وهو ما يُسمى: «اللحن الخفي»، أي: الذي لا يدركه إلاّ أهل الفن المهرة الكُمّل* ويخفى أمره على غير المشتغلين بهذا العلم قراءةً وإقراءاً.


______________________
(1) وهم الأشاعرة، وقد سبق الرّد عليهم بتفصيل. انظر الباب الأول (ص:67 ).
(2) أخرجه أحمد (2/306) وأبو داود (4001) والترمذي(2928) وصححه شيخنا في «صحيح الجامع» برقم (4876).
(3) (15) أخرجه البخاري (3809) ومسلم (799) وأحمد (3/130).
(4) رواه البخاري (5050) ومسلم(800).
(5) مضى تخريجه (ص: 92).
(6) رواه الدّارمي ، والحاكم في مستدركه* وصححه شيخنا في صحيح الجامع برقم (3140).
(7) أي من غير مدّ.
(8) أخرجه الطبراني في «الكبير» (8677) وابن الجزري في النشر (1/ 313).
(9) النشر (1/315).
(10) «هداية القاري إلى تجويد كلام الباري» (ص: 40) لشيخنا في القراءات العشر عبد الفتاح المرصفي رحمه الله تعالى.
(11) «قواعد التجويد» (ص:26).




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©