نص السؤال : " ينبغي أن تكون الحتمية المطلقة أساسا للقوانين التي يتوصل إليها العلم " ما رأيك؟
طرح المشكلة إن الغاية من العلم هو الوصول إلى تفسير الظواهر تفسيرا صحيحا ، أي معرفة الأسباب القريبة التي تتحكم في الظواهر و أنه إذا تكرر نفس السبب فإنه سيؤدي حتما إلى نفس النتائج وقد اصطلح على تسميته من طرف العلماء بمبدأ الحتميةالقرن(19) ؛ إلا أنه شكل محل خلاف بين الفلاسفة فقد كان نظاما ثابتا يحكم كل الظواهر عند فريق مبدأ الحتمية ثم أفلتت بعض الظواهر عنه حسب الفريق الثاني بظهور مجال جديد سمي بلاحتمية القرن (20) فأي الفريقين على صواب أو بمعنى أخر : هل يمكن الإعتقاد بأن الحوادث الطبيعية تجري حسب نظام كلي دائم ؟ أم يمكن تجاوزه ؟
محاولة حل المشكلة

الأطروحة إن الطبيعة تخضع لنظام ثابت لا يقبل الشك أو الإحتمال لأنها غير مضطرة و معقدة وبالتالي فمبدأ الحتمية هو أساس بناء أي قانون علمي ورفضه هو إلغاء للعقل وللعلم معا . لأنه هو يسمح بعملية التعميم أي الإستقراء ومفاده أن نفس العلل تحدث نفس المعلولات ، أو بعبارة أخرى إذا تكررت نفس الشروط تكررت نفس الظواهرلأن العالم متسق تجري حوادثه على نظام دائم لا يشذ عنه في الزمان والمكان،وبفضل هذا المبدأ نحكم على المستقبل إذا عرفنا شروط وقوعها

الحجج : ذهب الفلاسفة العقليون إلى أن المبادئء العقلية فطرية لا يكتسبها العقل من التجربة وبالتالي فهي مطلقة ، فقد إعتبر كانط :مبدأ السبب مقولة عقلية فطرية وسابقة على التجربة. ويرى علماء ( المادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية الحديثة) وفلاسفة القرن التاسع عشر ( نيوتن ، كلود برنار ، لابلاس ، غوبلو، بوانكاريه ) أن الحتمية مبدأ مطلق . فجميع ظواهر الكون سواء المادية منها أوالبيولوجية تخضع لمبدأ إمكانية التنبؤ بها . ولقد أشار نيوتن في القاعدة الثانية من أسس تقدم البحث العلمي و الفلسفي : " يجب أن نعين قدر المستطاع لنفس الآثار الطبيعية نفس العلل " كما إعتبر بوانكاريه:أن الحتمية مبدأ لا يمكن الإستغناء عنه في أي تفكير علمي أو غيره فهو يشبه إلى حد كبير البديهيات إذ يقول " إن العلم حتمي وذلك بالبداهة " كما عبر عنها لابلاس: عن مبدأ الحتمية أصدق تعبير عندما قال " يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة ، وسببا في حالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة لحالته السابقة ، وسببا في حالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة "" وكلود برنار: يضيف أن الحتمية ليس خاصة بالعلوم الفيزيائية وحدها فقط بل هي سارية المفعول حتى على علوم الإحياء . وأخيرا يذهب غوبلو: إلى القول : "بأن العالم متسق ، تجري حوادثه على نظام ثابت وأن نظام العالم كلي وعام فلا يشذ عنه في المكان حادث أو ظاهرة فالقانون العلمي هو إذن العلاقة الضرورية بين الظواهر الطبيعية "

النقد : لكن مع اقتراب القرن 19 من نهايته اصطدم التفسير الميكانيكي ببعض الصعوبات لم يتمكن من إيجاد حل لها مثلا : افتراض مادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية نيوتن أن الظواهر الطبيعية مترابطة و متشابكة مما يقلل من فعالية ووسائل القياس عن تجزئتها إلى فرديات يمكن الحكم على كل واحد منها بمعزل عن الأخرى . ولن يكون صورة كاملة عن هذا العالم إلا إذا وصلت درجة القياس لدي حواسنا إلى درجة النهاية وهذا مستحيل .
نقيض الأطروحة: يرى علماء ( المادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية المعاصرة ) و فلاسفة القرن العشرين ( بلانك ، ادينجتون ، ديراك ، هيزنبرغ ) أن مبدأ الحتمية غير مطلق ونسبي فهو لا يسود جميع الظواهر الطبيعية ،فمبدأ الحتمية في طريق الزوال لأنه يصدق في مجال الظواهر المركبة ولا يصدق في مجال العناصر الصغيرة حيث تسود اللا حتمية ، والطبيعة تجد نفسها في لحظات معينة في مفترق طرق،فتختار إتجاهها بنفسها ، فلا يمكن حينئذ التنبؤ بنتائجها إلا على سبيل الإحتمال.
الحجج : لقد أدت الأبحاث التي قام بها علماء المادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية والكيمياء على الأجسام الدقيقة ، الأجسام الميكروفيزيائية إلى نتائج غيرت الإعتقاد تغييرا جذريا . حيث ظهر ما يسمى باللاحتمية أو حساب الإحتمال أو بعبارة أخرى قوانين المصادفة وهي الحوادث التي لا نتنبأ بها ومحيرة للعقل وتجعل الإنسان عاجزا وقاصرا أمام الطبيعة ، فمذا فعل العقل أمام هذه الظواهر التي يصعب التنبؤ بها وبذلك ظهر ما يسمى بأزمة المادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية المعاصرة و المقصود بهذه الأزمة ، أن العلماء الذين درسوا مجال العالم الأصغر أي الظواهر المتناهية في الصغر ، توصلوا إلى أن هذه الظواهر تخضع للاحتمية وليس للحتمية ورأى كل من ادينجتون و ديراك: أن الدفاع عن مبدأ الحتمية بات مستحيلا ، وكلاهما يرى أن العالم المتناهي في الصغر عالم الميكرومادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية خاضع لمبدأ الإمكان و الحرية و الإختيار . ومعنى هذا أنه لا يمكن التنبؤ بهذه الظواهر ونفس الشيء بالنسبة لبعض ظواهر العالم الأكبر (الماكرومادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية ) مثل الزلازل . وقد توصل هايزنبرغ عام 1926 إلى أن قياس حركة الإلكترون أمر صعب للغاية ، واكتفى فقط بحساب إحتمالات الخطأ المرتكب في التوقع أو ما يسمى بعلائق الإرتياب حيث وضع هايزنبرغ : القوانين التالية :
كلما دق قياس موقع الجسم غيرت هذه الدقة كمية حركته .
كلما دق قياس حركته التبس موقعه .
أي يمتنع أن يقاس موقع الجسم وكمية حركته معا قياسا دقيقا ، أي يصعب معرفة موقعه وسرعته في زمن لاحق . وبدا للعلماء أن مبدأ الحتمية فقد من مطلقيته بل وهناك من أخذ يشكك فيه
إذا هذه الحقائق غيرت المفهوم التوليدي حيث أصبح العلماء الفيزيائيون يتكلمون بلغة الإحتمال و عندئذ أصبحت الحتمية فرض رائعية علمية نسبية ، ولم تعد مبدأ علميا مطلقا يفسر جميع الظواهر .
نقد: لكن رغم أن النتائج و البحوث العلمية أثبتت أن عالم الميكرومادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية يخضع للاحتمية وحساب الإحتمال فإن ذلك مرتبط بمستوى التقنية المستعملة لحد الآن . فقد تتطور التقنية وعندئذ في الإمكان تحديد موقع وسرعة الجسم في آن واحد .
التركيب : ذهب بعض العلماء أصحاب الرأي المعتدل على أن مبدأ الحتمية نسبي و يبقى قاعدة أساسية للعلم ،ويرى العالم لانجفان : " و إنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة أي تهدم المذهب التقليدي "
أي: النظريات الحديثة في ميدان الفزياء الذرية لا تهدم مبدأ الحتمية ، بل تهدم القوانين الصارمة الأكيدة أي المذهب الميكانيكي التقليدي ، أما اللامتناهيات فلها قوانينها الخاصة التي تعتمد على الإحصاء والإحتمال.فقد طبق الإحتمال في العلوم الطبيعية و البيولوجية وتمكن العلماء من ضبط ظواهر متناهية في الصغر واستخرجوا قوانين حتمية في مجال الذرة و الوراثة
حل المشكلة : ومنه يمكن القول أن كل من الحتمية المطلقة والحتمية النسبية يهدفان إلى تحقيق نتائج علمية كما أن المبدأين يمثلان روح الثورة العلمية المعاصرة ، كما يتناسب هذا مع الفطرة الإنسانية التي تتطلع إلى المزيد من المعرفة ،وواضح أن مبدأ الحتمية المطلق يقودنا على الصرامة وغلق الباب الشك و التأويل لأن هذه العناصر مضرة للعلم ، وفي الجهة المقابلة نجد مبدأ الحتمية النسبي يحث على الحذر و الابتعاد عن الثقة المفرطة في ثباتها ، لكن من جهة المبدأ العام فإنه يجب علينا أن نعتبر كل نشاط علمي هو سعي نحو الحتمية فباشلار مثلا يعتبر بأن مبدأ اللاتعيين في المادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية المجهرية ليس نفيا للحتمية ، وفي هذا الصدد نرى بضرورة بقاء مبدأ الحتمية المطلق قائم في العقلية العلمية حتى وإن كانت بعض النتائج المتحصل عليها أحيانا تخضع لمبدأ حساب الإحتمالات.




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©