هناك افتراض شائع مؤداه أن حالة من السلبية والتواكل والانكفاء حول الذات قد غلبت على مشاركة المرأة في المادة التاريخ الإسلامي، وهو الافتراض الذي تحول إلى قناعة رسختها سلسلة من الأدبيات المادة التاريخية مثل: ألف ليلة وليلة، والمؤلفات المبكرة للمستشرقين.. وهذه الحالة من السلبية لم يتم تجاوزها وصولا إلى العصر الراهن- وفقًا لرؤية الأمم المتحدة - التي تجمع تقاريرها أن المرأة المسلمة تعاني من التهميش المادة التاريخي المتجذر في بنية الثقافة الإسلامية، وبفعل التهميش تم إقصاؤها من عملية التنمية واستبعادها من المشاركة في الموارد الاقتصادية، وإذا ما أريد النهوض بواقع المرأة ينبغي أن يتم دمجها في عملية التنمية ،إذ هي السبيل الوحيد للنهوض بأوضاعها.
وانطلاقًا من تلك الرؤية لم تشأ الأمم المتحدة النظر إلى التجربة الإسلامية في الوقف باعتبارها تجربة تنموية إسلامية، وخبرة مادة التاريخية لم تعهدها الحضارة الغربية، وتجاهلتها بصورة كلية في إطار تقاريرها وبياناتها التي تصدرها والمعنية برصد واقع التنمية في البلاد الإسلامية وعلاقة المرأة بها، وهذا الإحجام له ما يبرره ،إذ إن الإتيان على دور المرأة في الوقف يبدد الادعاءات القائلة بتهميش المرأة ،وينفي سلبيتها ويبرز فاعليتها، وإزاء هذا التجاهل فإننا نجد أن هناك ضرورة ملحة للتعريف بماهية الوقف وإسهام النساء فيه.
المنشأ والوظيفة:
الوقف لغة هو الحبس والمنع، وفي الاصطلاح حبس العين عن تمليكها لأحد من العباد والتصدق بالمنفعة على مصرف مباح.
ويعود الأساس الديني للوقف إلى توجيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في كيفية التصرف في غنيمته من فتح خيبر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أصاب عمر بخيبر أرضا فأتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه». (صحيح البخاري، كتاب كامل الوصايا باب الوقف كيف يُكتب).
ويُنظر إلى الوقف باعتباره المؤسسة الإسلامية الأكبر لرعاية الفئات والشرائح المجتمعية الأضعف في المجتمع (الفقراء، اليتامى، الأرامل) وهو يتسم بصفات خاصة تميزه عن غيره من تنظيمات المجتمع المدني الحديثة الوافدة من الغرب، ومن أهمها:
1- الوقف نظام عقدي اجتماعي، ارتبط بالقيم القرآنية مثل التراحم، التواد، والإحسان.
2- انتشر الوقف في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، فقد أسهمت فيه الشرائح الوسطى إلى جانب الأغنياء، كما انخرطت فيه النساء إلى جوار الرجال سواء بسواء.
3- استطاع الوقف أن يقرر مفهوم التكامل الاجتماعي ويقلل من غلواء الفردية.
4- وفر الوقف مساحة من الاستقلالية للمجتمع في مقابل الدولة.
الوقف واتساع قاعدة المشاركة النسائية:
تعود الإسهامات الوقفية النسائية الأولى إلى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فهن أول من أوقف من النساء، على حين تؤول أول إدارة نسائية للوقف إلى أم المؤمنين السيدة حفصة رضي الله عنها، التي عهد إليها الخليفة عمر بن الخطاب بمهمة الإشراف على بعض الأوقاف التي يملكها في حال وفاته، فدلل هذا على جواز ولاية المرأة للوقف، وقد توالت المشاركات الوقفية النسائية طوال المادة التاريخ الإسلامي وحتى عصرنا الراهن ولم تعرف انقطاعا قط، إذ استطاعت مؤسسة الوقف أن تستقطب النساء على اختلاف مواقعهن الاجتماعية وتوزعهن ما بين نساء النخبة ونساء الطبقات الدنيا، وهكذا تراوحت الأوقاف النسائية بين الضخامة والضآلة تبعا للموقع الاجتماعي للمرأة الواقفة.
أنماط المشاركة النسائية:
عُرف عن النساء أنّهن أوقفن في المجالات كافة ، فلم تكن إسهاماتهن قاصرة على مجال دون آخر، ولكننا نلمس أن هناك حضورًا نسائيًا مميزًا في مجالين:
الأول: تشييد الأربطة ،وهي أماكن أقيمت خصيصا لسكنى الأرامل والمطلقات والعجائز ومن لا عائل لهن، وقد سمح لهن بالإقامة الدائمة فيها مع تقديم الغذاء والكساء والرعاية الصحية، وإلى جانب تلك الوظائف الرعائية قدمت الأربطة لنزيلاتها دروس مفصلةا دينية ،ووفرت لهن محفظات لتيسر عليهن مهمة إتمام حفظ كتاب كامل الله ،فكانت بذلك مؤسسة متكاملة رعائية واجتماعية وإنسانية.
وأما المجال الثاني تشييد المنشآت العلمية بغرض نشر العلم.
حدود المشاركة وضوابطها:
هناك من المؤشرات ما يرجح أن المشاركة الوقفية النسائية خلال المادة التاريخ الإسلامي كانت مشاركة واسعة وضخمة، ومن هذه المؤشرات ما حفلت به المؤلفات المادة التاريخية والفقهية من ذكر للوقفيات النسائية، ومنها أيضا كتب السير والتراجم التي أرّخت لحياة كثير من الواقفات ،والتي اتضح من خلالها أن نسبة منهن كن عالمات فضليات، أما في عصرنا الراهن فتتكفل الإحصاءات ببيان حجم المشاركة النسائية حين تذكر أنها تبلغ حوالي 25 بالمائة من حجم الأوقاف الحالية في العالم الإسلامي، ويبدو أن هذه النسبة تمثل من التعليم المتوسط المشاركة النسائية، إذ ترتفع النسبة في الدول الخليجية حتى تصل إلى 40 بالمائة، وهذا يدل على أن نساء الخليج لسن جميعا على تلك الصورة التي تروج لها وسائل الإعلام، حيث يشغلهن هاجس المشاركة الاجتماعية، وتخفيف العبء عن الشرائح الدنيا في المجتمع، ولكنه يظل بعدا مضمرا في ظل التركيز الإعلامي على الفعاليات السياسية والفنية والرياضية وعزوفه عن متابعة ما سواها.
المصدر: مجلة الوعي




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©