التأدب مع كلام الله :

أول ما يتميز به تالي القرآن هو أن يكون متأدبًا مع كلام الله تعالى، بأن يكون متوضئًا، مُسْتَقْبِلَ القبلة([1])، مُتَخَشِّعًا، مُطْرِقَ الرأس، جالسًا كأنه يجلس بين يدي أستاذه الذي يُعَلِّمُه كلامَ الله تبارك وتعالى، مُقبلًا على كلام الله جل وعلا.

فإذا ما تحقق له ذلك فإنه يُوشك أن يُقْبِل على كلام الله تعالى ، أما تلك الحالة التي نراها في بعض الناس؛ أن يكون أحدهم مُتَّكِئًا، أو مائلًا، أو مُتكبرًا، أو على حالة من الحالات التي تبين عدم اهتمامه وتعظيمه لكلام الله تعالى، وأنه يتلوه كما يتلو كلامًا آخر، أو يقرأه ويُقْبِل عليه كما يُقْبل على شيء مِن الدُّنيا، يتساوى عنده كلام الرَّب وكلام العبد، لا! لا ينبغي ذلك.

ولكن المؤمِن يكون على هيئات الأدب والخشوع والإقرار والإقبال ينتظر ذلك الفضلَ من الله تعالى. وإن كان على أي حال يأخذ فضله وأجره، ولكنه كما قال تبارك وتعالى: الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ماخلقت هذا باطلاً صبحانك فقنا عذاب النار[آل عمران:191].

فبَيَّن أحسن أحوالهم أن يقرؤوا قائمين، أو أن يذكروا الله تعالى قائمين، ثم قاعدين، ثم مضطجعين. فمدحَ الكلَّ، ولكنَّه قدَّم هؤلاء القائمين..

لذلك استنبط أهل العلم منها:

أن أحسن حالة، وأتم هيئة يُقْرأ فيها كلام الله تعالى أن يكون قائمًا في الصلاة في المسجد؛ فهي تلك الحالة التي ينبغي أن يَتَحَلَّى بها المرء كما قال:

يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا [المزمل:1-2].

فهاتان الحالتان التي ينبغي أن لا ينساهما أهل الإيمان، وأن يُلازموهما:

حالة الترتيل، وحالة البكاء.

وهما الحالتان اللتان يُقصِّر فيهما المرء في قراءته لكلام ربه، وبالتالي تقل عظمة كلام الربِّ جلَّ وعلا في قلبه، ويَقِلُّ أجر هذا المرء وثوابه، ويقل انتفاعه بهذه الآيات الانتفاع الذي يَحْيَي به القلبُ، وهذه الآيات التي إن انتفع بها المرء فَإنه يُقْبِل على الله تبارك وتعالى، ويجد حلاوة الإيمان، وحلاوة الطَّاعة، وتَخِفُّ عليه أسباب النكد والضيق، وأسباب المعصية وشؤمها. يخف عليه ذلك كله فإذا به إنسان جديد مُقْبِل على ربه يتدبر آياته ويتلوها.

والترتيلُ يبيِّن هذا المعنى-ليست هذه الْهَذْرَمة التي يقرؤها النَّاس اليوم- وليس هذه القراءة التي لا يتدبرون فيها كلام الله تعالى، وإنْ كان مِن فضله وكرمه وجوده سبحانه وتعالى أن يُعْطِى لكلِّ تالٍ لكلامه من الأجر ما يناسبه؛ لا يَحْرِمُ أحدًا، إلا أن يخرج عن حد التدبر، والتفهم، وحضور القلب، فأنَّى يكون ذلك مقبلًا على ربه؛ إذْ لا يَقْبَل الله تعالى من القلب اللاهي الغافل عنه جل وعلا؟ ([2])

حضور القلب والتدبر :

والحالة التالية التي ينبغي أن يكون عليها تالي القرآن الكريم؛ ليكون له عبرة وغذاء وشِفاء ونورًا وهداية ورحمة، يستعد بهذه الحالة لـ"رمضان" وبعد "رمضان"، وأن يكون ذلك دأبه وحاله مع الله تعالى، هذه الحالة هي حضور القلب والتدبر.

ومعناه: أن يكون إقباله على كلام الله تعالى، مُنْصَرَف الهمة إليه، لا إلى غيره، يعني: أن يأخذ الكتاب كامل بِجِدٍّ.

قيل لبعضهم: هل تُحَدِّثُك نفسك بشيء إذا كنت تتلو كلام الله؟

قال: وأي شيء أحب إليَّ من كلام الله تعالى حتى تُحدثني نفسي به؟!

أيها المسكين: أي شيء أحب إليك من كلام الله حتى توسوس نفسك لك به ؟

وانظر إلينا اليوم !! كيف يُقبل المرء على كلام الله تعالى، فينتفي عنه الخشوع والتَّدبر والإقبال، وإذا به في سوقه ومشاكله ، وولده ، وماله ، وعِرَاكه وشِجاره وما كان، وما يمكن أن يكون حتى يخرج عن كلام الله تعالى، في صلاة أو في غير الصلاة، وإن كان عنده بقية من إيمان يقول: «إنْ شاء الله! في الصلاة التالية أكون أحسن!» وهذه الحالة لا خشوع فيها ولا تدبر ولا إقبال.

ومن ثم ينبغي أن يُقْبِل بقلبه على الله تعالى.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو كلام الله تعالى على الحال التي أشرنا، ثم كان يقف عند الآيات، ذكروا أنَّه قام بآية واحدة يرددها طوال لَيْلِهِ صلى الله عليه وسلم ؛ وهي قوله تعالى: إن تعذبهم فإنهم عبادكم وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [المائدة:118] ([3]) .

طوال ليله صلى الله عليه وسلم يقرأها، وقف عندها لا يتعداها! لِما ورد على قلبه صلى الله عليه وسلم من المعاني، ولما ورد على قلبه من التدبر والتفهم، يقف عند هذه الآية، وكان ذلك كذلك أيضا في كثير من سلف الأمة الصالحين وعباد الله المتقين؛ «ذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي الضّحاك عن مسروق قال : قال رجل من أهل مكة : هذا مقام تميم الداري رضي الله عنه ؛ لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يُصبحَ يقرأُ آيةً من كتاب كامل الله ويركعُ ويسجد ويبكي:أم حسب الذين إجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [الجاثية:21] الآية كلها .

وقال بشير : بِتُّ عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمرّ بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يَعْدُها ببكاء شديد .

وقال إبراهيم بن الأشعث : كثيراً ما رأيت الفُضيل بن عياض يردّد من أوّل الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها ، ثم يقول : ليت شِعْري! من أي الفريقين أنت؟ وكانت هذه الآية تسمى مُبكاة العابدين»([4]).





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©