سلسلة أخبار السلف : الإنصاف والرجوع إلى الحق

كتب عمر الى أبي موسى الأشعري: «لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك ان ترجع فيه الى الحق، فان الحق قديم، والرجوع الى الحق أولى من التمادي في الباطل» [جامع بيان العلم وفضله (921/2(]، وذكر على الزبير رضي الله عنه شيئاً عهده اليهما رسول الله فذكره حتى انصرف عن القتال.
قال ابن عبد البر: «وفيه دليل على عظيم ما كان عليه القوم من الانصاف للعلم والانقياد، وكيف لا يكون كذلك وهم خير الأمم رضي الله عنه» [النبذ (ص: 218)].

عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول قال لي الشافعي أنتم أعلم بالأخبار والصحاح منا، فإن كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيًا كان أو بصريًا، أو, شاميًا(السير 10/33)


- عن ابن وهب قال: كنت عند مالك، فسئل عن تخليل الأصابع فلم ير ذلك، فتركته حتى خف المجلس، فقلت إن عندنا في ذلك سنة: حدثنا الليث وعمرو بن الحارث عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إذا توضأت فخلل أصابع رجليك))، فرأيته بعد ذلك يسأل عنه فيأمر بتخليل الأصابع. (السير 09/232)


- عن طاوس أن زيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم تماريا في صدر الحائض قبل أن يكون اخر عهدها الطواف بالبيت، فقال إبن عباس: تنفر، وقال زيد لا تنفر، فدخل زيد على عائشة فسألها فقالت: تنفر، فخرج زيد وهو يبتسم ويقول: مالكلام إلا ماقلت!( التمهيد 17/270) قال إبن عبد البر: هكذا يكون الإنصاف.

- عن الشافعي قال: ماأوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته وأعتقدت مودته! ولا كابرني احد على الحق ودفع الحجة الصحيحة إلا سقط من عيني ورفضته!(الحلية9/117) والسير10/33)

- عن عبد الواحد قال لقيت زفر فقلت له صرتم حديثًا في الناس وضحكه، قال وماذاك؟ قلت: تقولون أدراؤوا الحدود بالشبهات ثم جئتم إلى أعظم الحدود فقلتم بالشبهات قال وماهو؟ قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لايقتل مسلم بكافر)) فقلتم به يعني بالذمي قال :فإني أشهدك الساعة أني رجعت عنه!!( السير8 / 41)


قال الشيخ القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في تفسير سورة البقرة من كتاب كامله (أحكام القرآن) :

أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة : وصلت الفسطاط مرة ، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري ، وحضرت كلامه على الناس ، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه : إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى ، فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة ، فجلس معنا في الدهليز ، وعرفهم أمري ، فإنه رأى إشارة الغربة ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه ، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي : أراك غريبا ، هل لك من كلام ؟ قلت : نعم .
قال لجلسائه : أفرجوا له عن كلامه .
فقاموا وبقيت وحدي معه .
فقلت له : حضرت المجلس اليوم متبركا بك ، وسمعتك تقول : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت ، وطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت .
وقلت : وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لم يكن ، ولا يصح أن يكون ؛ لأن الظهار منكر من القول وزور ؛ وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم .
فضمني إلى نفسه وقبل رأسي ، وقال لي : أنا تائب من ذلك ، جزاك الله عني من معلم خيرا .
ثم انقلبت عنه ، وبكرت إلى مجلسه في اليوم الثاني ، فألفيته قد سبقني إلى الجامع ، وجلس على المنبر ، فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته : مرحبا بمعلمي ؛ أفسحوا لمعلمي ، فتطاولت الأعناق إلي ، وحدقت الأبصار نحوي ، وتعرفني : يا أبا بكر يشير إلى عظيم حيائه ، فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه خجل لعظيم حيائه ، واحمر حتى كأن وجهه طلي بجلنار قال : وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعوني حتى بلغت المنبر ، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض ، والجامع غاص بأهله ، وأسال الحياء بدني عرقا ، وأقبل الشيخ على الخلق ، فقال لهم : أنا معلمكم ، وهذا معلمي ؛ لما كان بالأمس قلت لكم : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلق ، وظاهر ؛ فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي ، فاتبعني إلى منزلي ، وقال لي كذا وكذا ؛ وأعاد ما جرى بيني وبينه ، وأنا تائب عن قولي بالأمس ، وراجع عنه إلى الحق ؛ فمن سمعه ممن حضر فلا يعول عليه .
ومن غاب فليبلغه من حضر ؛ فجزاه الله خيرا ؛ وجعل يحفل في الدعاء ، والخلق يؤمنون .
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين ، والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملإ من رجل ظهرت رياسته ، واشتهرت نفاسته ، لغريب مجهول العين لا يعرف من ولا من أين ، فاقتدوا به ترشدوا .اه

قال العلامة الألباني -رحمه الله-: أخرج الطبراني في مسند الشاميين بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قدم العراق، فجلس إلى رفقة فيها ابن مسعود -رضي الله عنه-، فتذاكروا الإيمان، قال أبو مسلم: فقلت: "أنا مؤمن"، فقال ابن مسعود: "أتشهد أنك في الجنة؟"، فقلت: "لا أدري مما يحدث الليل والنهار".فقال ابن مسعود: "لو شهدت أني مؤمن لشهدت أني في الجنة".
فقال أبو مسلم: "يا ابن مسعود، ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ثلاثة أصناف: مؤمن السريرة مؤمن العلانية، كافر السريرة كافر العلانية، مؤمن العلانية كافر السريرة؟".
قال: "نعم".
قلت: "فمن أيهم أنت؟"، قال: "أنا مؤمن السريرة مؤمن العلانية".
قال أبو مسلم: قلت: "وقد أنزل الله -عز وجل-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (التغابن:2)، فمن أي الصنفين أنت؟".
قال: "أنا مؤمن".
قلت: "صلى الله على معاذ"، قال: "وماله؟"، قلت: "كان يقول: اتقوا زلة الحكيم، وهذا منك زلة يا ابن مسعود".
فقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أستغفر الله".
يقول الألباني: "رضي الله عن ابن مسعود، ما أجمل إنصافه وأشد تواضعه، لكن يبدو لي أنه لا خلاف بينهما في الحقيقة، فأحدهما نظر إلى المآل، والآخر نظر إلى الحال"

قال ابن بطة: «فاعلم يا أخي ان من كره الصواب من غيره، ونصر لخطأ من نفسه، لم يؤمن عليه ان يسلبه الله ايمانه، لأن الحق من رسول الله اليك، افنرض عليك فمن سمع الحق فأنكره بعد علمه له فهو من المتكبرين على الله، ومن نصر الخطأ فهو من حزب الشيطان». [«الابانة» (547/2)].قال ابن حزم: «جوامع الحق اتباع القرآن، وفيه اتباع بيان الرسول، وأخذ الحق ممن أتى به، وان كان لا خير فيه، وممن يجب بغضه وابعاده، وأن لا يقلد خطأ فاضله، وان كان محبوبا واجبا تعظيمه» [الاحكام في أصول الأحكام (186/4)]

ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية في وصف الأئمة القائمين بالحق: «والمقصود هنا: ان هذه الأمة- ولله الحمد- لم يزل فيها من يتفطن لما في كلام أهل الباطل من الباطل، ويرده.وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيا ورواية من غير تشاعر ولا تواطؤ» [الرد على المنطقيين (ص: 239)].





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©