داء الكَلَب .. داء الأهواء الردية
للإمام الشاطبي
عن معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرُقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، يَعْنِي الأَهْوَاءَ، وَكُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ»،
وَقَالَ: «إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَتَجَارَى بِهِمُ الأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ، فَلا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إِلا دَخَلَهُ».
إسناده صحيح : أخرجه أحمد (4/102 ، رقم 16979) ، والدارمي (2521) ، والطبرانى في الكبير (19/377 ، رقم 885) ، والحاكم (1/218 ، رقم 443) . ومحمد بن نصر في السنة (50-51) ، وابن بطة في الإبانة (1/371) وأخرجه أيضًا : أبو داود (4/198 ، رقم 4597) ، وابن أبى عاصم فى السنة (1/7 ، رقم 2) . وصححه الألباني في ظلال الجنة : رقم 2 والصحيحة ( 204 ) وصحيح الجامع الصغير ( 2641 ).
قال شيخ الإسلام : هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبد الله الحرازي وعن أبي عامر عبد الله بن يحيى عن معاوية ورواه عنه غير واحد منهم أبو اليمان وبقية وأبو المغيرة رواه أحمد وأبو داود في سننه وقد روى ابن ماجه هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي ويروى من وجوه أخر.
[شَرْحُ الْغَرِيبِ]
يتجارى: التجاري، تفاعل من الجري، وهو الوقوع في الأهواء الفاسدة، والتداعي فيها، تشبيها بجري الفرس.
الكَلَب : قال ابن الأثير: داء يَعْرِض للإنسان من عَضِّ الكَلْب الْكَلِبِ فيُصِيبُه شِبْه الجُنون فلا يَعَضُّ أحداً إلاّ كَلِب، وتَعْرِض له أعْراضٌ رَدِيئة، ويَمْتَنِع من شُرْب الماء حتى يموت عَطَشاً.
قال العباد: يحصل لذلك المعضوض بسبب هذه العضة ضرر وألم يصل إلى جميع جسده، ولا يبقى منه مفصل أو عرق إلا دخله.
قال الإمام الشاطبي:
معنى هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها، على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء، وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء، فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه، وأشرب حبه، لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه.
فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشيء، ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئا، ولا راجعوا عقولهم لمراجعة شاملة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال (وهو شأن المعتبرين من أهل العقول) وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه، ولم يعبأ بعذل العاذل فيه، ثم هناك أصناف أخر تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى في قلوبهم، حتى لا يبالوا بغير ما هو عليه.
قوله عليه الصلاة والسلام: «إنه سيخرج من أمتي أقوام» على وصف كذا، يحتمل أمرين :
أحدهما: أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها، فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع أبدا عن هواه ولا يتوب من بدعته.
والثاني: أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ومنهم من لا يكون كذلك، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها.
ويدل عل صحة الأول النقل المقتضي الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم، كقوله عليه الصلاة والسلام: «يمرقون من الدين ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه» وقوله: «إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة»، وما أشبه ذلك، ويشهد له الواقع، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة.
روي عن الشافعي أنه قال: مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برئ، فأعقل ما يكون قد هاج.
والدليل على الثاني أنا وجدنا من كان عاملاً ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس - رضي الله عنهما -، وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهم ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها.
وذلك بأن يكون في الفرقة من يتجارى به الهوى كتجاري الكلب، ومن لا يتجارى به ذلك المقدار، لأنه يصح أن يختلف التجاري، فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد، ومنه ما لا يكون كذلك.
والحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراب أو عدمه، ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء، فدل أن فيهم من لا يشربها، وإن كان من أهلها.
فمن القسم الأول : الخوارج بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، ومنه هؤلاء الذين أغرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب كامل الله وسنة نبيه، وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم.
ومن القسم الثاني : أهل التحسين والتقبيح على الجملة، إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم.
فيقال: من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له، لكن على قدرها، وبذلك أيضا تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له، لكن التجاري المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة، إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع ذلك الإشراب، وبين من لم يبلغ ممن هو معدود في الفرق، فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء.
وسبب التفريق بينهما - والله أعلم - أمران:
إما أن يقال: إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته، فيظهر بسببها المعاداة، والذي لم يشربها لا يدعو إليها ولا ينتصب للدعاء إليها، ووجه ذلك أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بحيث يطرح ما سواها في جنبها، حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها، وقد أعمت بصره وأصمت سمعه واستولت على كليته وهي غاية المحبة. ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة والى بسببه وعادى، ولم يبال بما لقي في طريقه، بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ، فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها، ونكتة اهتدى إليها فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على من وافق وخالف، لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة النكال والقيام عليه بأنواع الإضرار، ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء، فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها.
وإما أن يقال: إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم، وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم.
مثل هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية، وصغروا في أنفسهم حملة السنة وحماة الملة، حتى وقفوهم مواقف البلوى، وأذاقوهم مرارة البأساء والضراء، وانتهى بأقوام إلى القتل، حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي دؤاد وغيرهما.
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث، وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم، بل استتروا بها جدا، ولم يتعرضوا للدعاء إليها جهارا، كما فعل غيرهم، ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم شهرتهم بما انتحلوه.
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب، وبالله التوفيق.
[فائدة] داء الكَلَب فيه ما يشبه العدوى وكذلك البدع
وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى، فإن أصل الكلَب واقع بالكلْب. ثم إذا عض ذلك الكلب أحدا صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته، بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته، وإما أن يثبت في قلبه شكا يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر.
هذا بخلاف سائر المعاصي فإن صاحبها لا يضاره ولا يدخله فيها غالبا إلا مع طول الصحبة والأنس به، والاعتياد لحضور معصيته. وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى. فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالمتهم وكلام مُكالمهم، وأغلظوا في ذلك، وقد تقدم منه في الباب الثاني آثار جمة.
ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال: من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ألصق من الجرب.
وعن حميد الأعرج قال: قدم غيلان مكة يجاور بها، فأتى غيلان مجاهدا فقال: يا أبا الحجاج، بلغني أنك تنهى الناس عني وتذكرني، وأنه بلغك عني شيء لا أقوله؟ إنما أقول كذا، فجاء بشيء لا ينكر، فلما قام قال مجاهد: لا تجالسوه فإنه قدري. قال حميد: فإني لما كنت ذات يوم في الطواف لحقني غيلان من خلفي يجذب ردائي، فالتفت فقال: كيف يقول مجاهد خرف وكذا؟ فأخبرته، فمشى معي، فبصر بي مجاهد معه، فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد علي، وأسأله فلا يجيبني فقال - فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال، فقلت: يا أبا الحجاج! أبلغك عني شيء؟ ما أحدثت حدثا، ما لي! قال: ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه؟ قال، قلت: يا أبا الحجاج ما أنكرت قولك، وما بدأته، وهو بدأني. قال: والله يا حميد لولا أنك عندي مصدق ما نظرت لي في وجه منبسط ما عشت، ولئن عدت لا تنظر لي في وجه منبسط ما عشت.
وعن أيوب قال: كنت يوما عند محمد بن سيرين إذ جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام، فقلت لعمرو: انطلق بنا - قال - فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت فقلت: يا أبا بكر؟ قد فطنت إلى ما صنعت. قال: أقد فطنت؟ قلت: نعم! قال: أما إنه لم يكن ليضمني معه سقف بيت.
وعن بعضهم قال: كنت أمشي مع عمرو بن عبيد فرآني ابن عون فأعرض عني. وقيل: دخل ابن عبيد دار ابن عون فسكت ابن عون لما رآه، وسكت عمرو عنه فلم يسأله عن شيء - فمكثت هنيهة ثم قال ابن عون: بم استحل أن دخل داري بغير إذني؟ - مرارا يرددها - أما إنه لو تكلم. . .
وعن مؤمل بن إسماعيل، أنه قال: قال بعض أصحابنا لحماد بن زيد: ما لك لم ترو عن عبد الكريم إلا حديثا واحدا؟ قال: ما أتيته إلا مرة واحدة لما ساقه في هذا الحديث، وما أحب أن أيوب علم بإتياني إليه وأن لي كذا وكذا، وإني لأظنه لو علم لكانت الفيصل بيني وبينه.
وعن إبراهيم، أنه قال لمحمد بن السائب: لا تقربنا ما دمت على رأيك هذا. وكان مرجئا.
وعن حماد بن زيد قال: لقيني سعيد بن جبير فقال: ألم أرك مع طلق؟ قلت: بلى! فما له؟ قال: لا تجالسه فإنه مرجئ.
وعن محمد بن واسع قال: رأيت صفوان بن محرز وقريب منه شيبة، فرآهما يتجادلان، فرأيته قائما ينفض ثيابه ويقول: إنما أنتم جرب.
وعن أيوب قال: دخل رجل على ابن سيرين فقال: يا أبا بكر! أقرأ عليك آية من كتاب كامل الله لا أزيد أن أقرأها ثم أخرج؟ فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال: أعزم عليك إن كنت مسلما إلا خرجت من بيتي - قال - فقال - يا أبا بكر! لا أزيد على أن أقرأ (آية) ثم أخرج. فقام لإزاره يشده وتهيأ للقيام فأقبلنا على الرجل، فقلنا: قد عزم عليك إلا خرجت، أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته؟ قال: فخرج، فقلنا: يا أبا بكر! ما عليك لو قرأ آية ثم خرج؟ قال: إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ، ولكن خفت أن يلقي في قلبي شيئا أجهد في إخراجه من قلبي فلا أستطيع.
وعن الأوزاعي قال: لا تكلموا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته.
فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الحديث إليه إن كان مقصودا والله أعلم.
من كتاب كامل الاعتصام للإمام الشاطبي (2/ 778)




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©