مفهوم تقسيم الدين إلى أصلٍ وفرعٍ
ونسبة آثاره السيِّئة إلى الشرع

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا ما نُظر إلى تقسيم الدين إلى أصولٍ وفروعٍ -من جهة كونه قضيَّةً اصطلاحيةً بحتةً- لا تُنسب إلى الشرع، لا تترتَّب عليها أحكامٌ شرعيةٌ فلا حرج في هذا التقسيم ولا مانع منه، وإنما النكير حاصلٌ في نسبة التفريق بينهما إلى الشرع بحيث يخلِّف هذا التفريقُ بينهما آثارًا سيِّئةً لا يصلح نسبتُها إلى الشرع.
والتفريقُ بينهما -بهذا الاعتبار- لم يدلَّ عليه كتاب كاملُ الله ولا سنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، بل اللهُ تعالى قد جَمَع بين الأمرين وساقهما مساقَ المؤتلِف المتزاوِج، وكذلك في السنَّة النبوية، وليس له -أيضًا- أصلٌ لا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمَّة الإسلام -كما سيأتي-، وإنما كان القاضي الباقلانيُّ هو أوَّلَ مَن صَرَّح من المتكلِّمين مِن أهل الأصول بالتفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع، وإن كان هذا التفريقُ أحدثه الجهميَّةُ وأهلُ الاعتزال، وسرى بعده إلى كافَّة المتكلِّمين من أهل الأصول.
وقد ذكر المقسِّمون بين الأصول والفروع عدَّةَ فروقٍ، وكلُّ واحدٍ منها ليس عليه دليلٌ معتمدٌ -كما سيأتي-.
وهذا لو كان مجرَّدَ اصطلاحٍ وتقسيمٍ جديدٍ يدلُّ على معانٍ صحيحةٍ -كالاصطلاح على ألفاظٍ وتقسيماتٍ للعلوم الصحيحة- لَما ذُمَّ هذا النظر، بل يُستحسن القول به لاشتماله على الصحَّة ودلالته على الحقِّ.
لكنَّ هذا المتقرِّرَ -عندهم- مشتمِلٌ على حقٍّ وباطلٍ، بل هذه المقدِّمة التقسيميَّةُ رُتِّبتْ عليها آثارٌ مكذِّبةٌ للحقِّ مخالِفةٌ للشرع الصريح والعقلِ الصحيح، ذلك لأنَّ حقيقة هذا التقسيم -فضلاً عن كونه منتفيًا شرعًا- فإنه يَلْزَمُ من القول بصِحَّته نتائجُ خطيرةٌ بعيدةٌ عن المنهج القويم بل هي في شقٍّ عنه.
— أمَّا من حيث انتفاءُ ثبوتِ هذا التقسيم والتفريقِ بين مسائل الأصول ومسائل الفروع فلكونه حادثًا لم يكن معروفًا عند الرعيل الأوَّل من الصحابة والتابعين، حيث إنه لم يفرِّق أحدٌ مِن السلف والأئمَّة بين أصول الدِّين وفروعِه، فكان إجماعًا منهم على عدم تسويغ التفريق بينهما.
وإنما كان أوَّل ظهوره محدثًا عند أهل الاعتزال، وأدرجه الباقلاَّنيُّ في «تقريبه»، ثمَّ أخذ مجراه إلى من تكلَّم في أصول الفقه مع الغفلة عن حقيقته وما يترتَّب عليه من باطلٍ. قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ولم يفرِّق أحدٌ من السلف والأئمَّة بين أصولٍ وفروعٍ، بل جَعْلُ الدين قسمين: أصولاً وفروعًا لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين. ولم يقل أحدٌ من السلف والصحابة والتابعين: إنَّ المجتهد الذي استفرغ وُسْعَه في طلب الحقِّ يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع. ولكنَّ هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه مَن نَقَلَ ذلك عنهم»(١). ومنه يظهر أنَّ أوَّل خطإٍ فيه مناقضتُه للإجماع القديم.
— أمَّا من حيث ترتُّب الآثار الفاسدة على هذا القول فعديدةٌ منها: عدمُ التسوية في رفع إثم الخطإ عن المجتهد بين مسائل الأصول والفروع، فإنَّ معظم الأصوليِّين من المتكلِّمين والفقهاء يؤثِّمون المجتهدَ المخطئ في الأصول لأنها من المسائل القطعية العلمية المعلومة بالعقل.
وبناءً على الاعتماد على هذا التفريق بين الأصول والفروع، رتَّبوا عليه حُكْمَ تأثيم المخطئ في الأصول وتفسيقِه وتضليلِه مع اختلافهم في تكفيره. وقد ذكر الزركشيُّ هذا المعنى ونَسَب للأشعريِّ فيه قولين(٢). بل ادُّعي الإجماعُ على تكفيره إن كان على خلاف ملَّة الإسلام، فإن لم يكن فمُضَلَّلٌ ومبتدِعٌ، كأصحاب الأهواء من أهل القبلة(٣).
ولا يخفى ما في هذه النتيجة من حكمٍ خطيرٍ وباطلٍ ظاهرٍ، بل إنَّ ما زعموه من إجماعٍ على تكفيرِ وتخطئة المخطئ في الأصول مدفوعٌ بإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأئمَّةِ الفتوى والدِّين، فكلُّهم يَعْذُرون المجتهدَ المخطئَ مُطلقًا في العقائد وفي غيرها، ولا يكفِّرونه ولا يفسِّقونه، سواءٌ كان خطؤه في مسألةٍ علميةٍ أصوليةٍ أو في مسألةٍ علميةٍ فرعيةٍ.
ذلك لأنَّ العذر بالخطإ حكمٌ شرعيٌّ خاصٌّ بهذه الأمَّة لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»(٤)، ولأنَّ الإثم مرتَّبٌ على المقاصد والنيَّات، والمخطئُ لا قَصْد له فلا إثم عليه، إذ إنه -في اجتهاده- صادقُ النيَّة في إرادة الحقِّ والوصولِ إلى الصواب.
أمَّا أهلُ الأغراض السيِّئة وأصحابُ المقاصد الخبيثة فلكلٍّ منهم ما نوى، والحكمُ للظاهر، واللهُ يتولَّى السرائر.
وهذا الكلام إنما يصدق على المجتهد المؤمن بالله ولو جملةً، الذي ثبت -بيقينٍ- إيمانُه، فإن استفرغ طاقتَه الاجتهادية وبَذَل وُسْعَه واتَّقى اللهَ قدْرَ الاستطاعة، ثمَّ أخطأ لعدم بلوغ الحُجَّة أو لقيامِ شُبهةٍ أو لتأويلٍ سائغٍ فهو معذورٌ لا يترتَّب عليه إثمٌ ما لم يفرِّطْ في شيءٍ من ذلك، فلا يُعذر حينئذٍ، وعليه الإثمُ بقَدْر تفريطه، ويُستصحب إيمانُه ولا يُزالُ بالشكِّ. وإنَّما يزول بعد إقامة الحُجَّة وإيضاح المحَجَّة وإزالة الشبهة، إذ «لاَ يَزُولُ يَقِينٌ إِلاَّ بِمِثْلِهِ».
أمَّا إن كان غيرَ مؤمنٍ أصلاً فهو كافرٌ واعتذارُه غيرُ مقبولٍ بالاجتهاد؛ لقيام أدِلَّة الرِّسالة وظهور أعلام النبوَّة.
ويؤيِّد ذلك: ما نُقل -في بعض المسائل العلمية العقدية- مِن اختلاف السلف فيها كرؤية النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لربِّه، وعروجِه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى السماء: هل كان بالجسد أم بالروح أم بهما معًا؟ وسماعِ الميِّت نداءَ الحيِّ، وإنكارِ بعض السلف صفةَ العَجَب الواردةَ في قراءةٍ ثابتةٍ متواترةٍ(٥).
ومع كُلِّ ذلك لم يُنقل عن أحدٍ منهم القولُ بتكفيرِ أو تأثيمِ أو تفسيقِ من أخطأوا في اجتهادهم لِما تقدَّم ذِكْرُه، ولم يَرِدْ نصٌّ يفرِّق بين خطإٍ وآخَرَ في الحديث السابق، أو في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ [الأحزاب: ٥]، وقولِه تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
ولا يَسَعُ الاستدلالُ بقوله تعالى: ﴿لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ﴾ [الحاقَّة: ٣٧]، وقولِه تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٩١]، وقولِه تعالى: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٢٩] على التفريق بين خطإٍ وآخَرَ، ذلك لأنَّ المراد بالخطإ في هذا المقام هو: ما يقابل الصوابَ، أي: ضدُّه، وهو من الرباعيِّ: «أخطأ يُخطئ»، وفاعلُه يسمَّى: «مخطئًا»، أي: من لم يُصِبِ الحقَّ.
أمَّا الخطأ في الآية فثلاثيٌّ من: «خَطِئ يَخْطَأ، فهو خاطِئٌ»، فهو بمعنى «أذنب».
ومن المعلوم -أيضًا- أنه قد تأتي «خَطِئ» بمعنى «أخطأ»، لكن يختلف المرادُ بكلٍّ منهما مِن تعمُّد الفعل وعدمِه، حيث لا يقال: «أخطأ» إلاَّ لمن لم يتعمَّدِ الفعلَ، والفاعلُ: «مخطئٌ»، والاسمُ منه: الخطأ. ويقال لمن تعمَّد الفعلَ: «خَطِئَ فهو خاطئٌ»، والاسم منه «الخطيئة»(٦).
هذا، ومن نتائج هذا التفريق: القولُ بأنَّ العاجز عن معرفة الحقِّ في مسائل الأصول غيرُ معذورٍ وأنَّ الظنَّ والتقليد في العقائد أو الأصول ممَّا هو ثابتٌ قطعًا غيرُ معتبرٍ، أي: أنه لا يجوز التقليدُ في مسائل الأصول، بل يجب تحصيلُها بالاعتماد على النظر والفكر، لا على مجرَّد المحاكاة والتشبُّه بالآخَرين. وقد ادُّعِيَ في ذلك إجماعُ أهل العلم مِن أهل الحقِّ وغيرهم من الطوائف، بل ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائينيُّ(٧) إلى القول بأنَّ: «من اعتقد ما يجب عليه من عقيدة دينه بغير دليلٍ لا يستحقُّ بذلك اسمَ الإيمان ولا دخولَ الجَنَّة والخلوصَ من الخلود في النيران»(٨).
هذا، ومع كون هذا التفريق السابقِ الحادثِ منقوضًا بإجماع السلف فالبناءُ عليه لا يثبت؛ لأنَّ إيمان المقلِّد معتبرٌ غيرُ مشروطٍ فيه النظرُ والاستدلال. إذ لو كان واجبًا لفَعَله الصحابةُ رضي الله عنهم وأمروا به، لكنَّهم لم يفعلوا ولو فعلوا لنُقل عنهم.
والاعتراضُ بأنَّ الصحابة رضي الله عنهم كانت معرفتُهم بالعقائد مبنيَّةً على الدليل اكتفاءً بصفاء أذهانهم واعتمادِهم على السليقة ومشاهدتِهم الوحيَ يَردُّه أنَّ الصحابة رضي الله عنهم لَمَّا فتحوا البلدانَ والأمصار قَبِلوا إيمانَ العَجَم والأعراب والعوامِّ وإن كان تحت السيف أو تبعًا لكبيرٍ منهم أسلم، ولم يأمروا أحدًا منهم بترديد نظره ولا سألوه عن دليل تصديقه، ولا أرجَأُوا أَمْرَه حتى يَنْظُر.
بل لم يقلِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأحدٍ: لا أقبل إسلامَك حتَّى أعلم أنك نَظَرْتَ واستدللتَ. قال ابن حزمٍ -رحمه الله-: «فإذا لم يقل عليه السلام ذلك فالقولُ به واعتقادُه إفكٌ وضلالٌ، وكذلك أجمع جميعُ الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقَبولِه من كلِّ أحدٍ دون ذكرِ استدلالٍ، ثمَّ هكذا جيلاً فجيلاً حتى حَدَثَ من لا قَدْرَ له»(٩).
ولأنَّ الاستدلال والنظرَ ليس هو المقصودَ في نفسه، وإنما هو طريقٌ إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردَّد، فإنَّ مَن حصل له هذا الاعتقادُ الذي لا شكَّ فيه من غير دلالةٍ فقد صار مؤمنًا وزالت عنه كلفةُ طَلَبِ الأدلَّة.
ولو كان النظر في معرفة الله واجبًا لأدَّى إلى الدور، لأنَّ وجوب النظر المأمورِ به متوقِّفٌ على معرفة الله، ومعرفةُ الله متوقِّفةٌ على النظر. ومَن أنعم اللهُ عليه بالاعتقاد الصافي من الشُّبَه والشكوك فَقَدْ أنعم عليه بكلِّ أنواع النِّعم وأجلِّها حتى لم يَكِلْهُ إلى النظر والاستدلال لا سيَّمَا العوامُّ، فإنك تجد الإيمانَ في صدور كثيرٍ منهم كالجبال الراسيات أكثرَ ممَّن شاهد ذلك بالأدلَّة، ومَن كان هذا وصْفَه كان مقلِّدًا في الدليل.
وقد جاء في «شرح مفصل العقيدة الطحاوية» قولُ ابن أبي العزِّ: «ولهذا كان الصحيحُ أنَّ أوَّل واجبٍ يجب على المكلَّف شهادةُ أن لا إله إلاَّ الله، لا النظرُ ولا القصدُ إلى النظر ولا الشكُّ، كما هي أقوالُ أرباب الكلام المذموم، بل أئمَّةُ السلف كلُّهم متَّفقون على أنَّ أوَّلَ ما يؤمر به العبدُ الشهادتان، ومتَّفقون على أنَّ مَن فَعَل ذلك قبل البلوغ لم يُؤْمَرْ بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو مَيَّز عند مَن يرى ذلك، ولم يُوجِبْ أحدٌ منهم على وليِّه أن يخاطبه -حينئذٍ- بتجديد الشهادتين وإن كان الإقرارُ بالشهادتين واجبًا باتِّفاق المسلمين، ووجوبُه يسبق وجوبَ الصلاة، لكن هو أدَّى هذا الواجبَ قبل ذلك»(١٠).
— أمَّا تبرير القسمة الثنائيَّة بين الأصول والفروع بالتفريق بين القطع والظنِّ، والعلم والعمل، ونسبةُ التفريق بينهما إلى الشرع بحيث يترتَّب على هذا التفريقِ أحكامٌ شرعيةٌ؛ فإنه لا يشهد على هذا التقسيم -أيضًا- دليلٌ من كتاب كاملٍ ولا سُنَّةٍ ولا نَقْلٌ عن أحدٍ من السلف وأئمَّةِ الفتوى والدِّين.
فإن كان دليلُ القسمة هو ادِّعاءَ القطعيَّة في مسائل الأصول دون الفروع فهو فرقٌ يظهر بطلانُه ممَّا هو معلومٌ من المسائل الفرعية العملية التي عليها أدلَّةٌ قاطعةٌ بالإجماع كتحريم المحرَّمات ووجوبِ الواجبات الظاهرة، وهي المسائلُ الفقهية المعلومة من الدِّين بالضرورة وغيرها، ومع وجود قطعية الدليل عليها لم يُحْكَمْ بكفرِ مَن أوَّلها أو أنكرها بجهلٍ حتى تُقَامَ عليه الحُجَّةُ وتُزالَ عنه الشبهة: كما هو حالُ مَن أكل بعد طلوع الفجر متأوِّلاً أو جاهلاً في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا شكَّ أنَّ خطأَه عليه دليلٌ قطعيٌّ، ومع ذلك لم يَصْدُرْ منه صلَّى الله عليه وسلَّم إلاَّ البيانُ دون تأثيمٍ فضلاً عن التكفير. وكذلك الطائفةُ التي استحلَّتْ شُرْبَ الخمر على عهد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ولم يكفِّرْهم الصحابة رضي الله عنهم، بل بَيَّنوا لهم الحُكْمَ فتابوا ورجعوا إلى الحقِّ.
هذا، والقطعُ والظنُّ من الأمور النسبية، فكونُ المسألة قطعيةً أو ظنِّيةً أمرٌ إضافيٌّ بحَسَب حال المعتقِدين وليس هو صفةً ملازِمةً للقول المتنازَع فيه، فالقطعُ والظنُّ يكون بحَسَب ما وصل إلى الإنسان مِن الأدلَّة وبحَسَب قدرته على الاستدلال، إذ العبد قد يقطع بأشياءَ عَلِمَها بالضرورة أو بالنقل المعلومِ صدقُه عنها، وغيرُه لا يعرف ذلك لا قطعًا ولا ظنًّا. وقد يحصل القطعُ لإنسانٍ ولا يحصل لغيره سوى الظنِّ على ما حقَّقه ابنُ تيميَّة وابنُ القيِّم رحمهما الله تعالى(١١).
— وأمَّا تبرير القسمة بأنَّ مسائل الأصول يُطلب فيها العلمُ والاعتقاد دون مسائل الفروع المطلوبِ فيها العملُ، ففسادُ هذا الفرقِ يظهر جليًّا من ناحية كون الحكم الشرعيِّ يجب اعتقادُه، إذ يجب اعتقادُ وجوب الواجبات وحُرْمةِ المحرَّمات واستحبابِ المستحبَّات وكراهةِ المكروهات وإباحةِ المباحات.
ومن جهةٍ ثانيةٍ فإنَّ من أنكر حُكمًا شرعيًّا معلومًا من الدِّين بالضرورة فهو كافرٌ كفرًا مُخْرجًا من الملَّة: كوجوب الصلاة المفروض رسميةة والزكاة وصوم رمضان، وتحريم الزنا والقتل، وغيرها من الأحكام.
فدلَّ ذلك على أنَّ المسائل التي يُطلب فيها العملُ يُطلب فيها -أيضًا- العلمُ والاعتقاد.
وبالمقابل فإنَّ مِن مسائلِ الأصول ما لا يترتَّب عليها تأثيمٌ ولا تفسيقٌ ولا تكفيرٌ، كما تقدَّم من اختلاف الصحابة وتنازُعهم في بعض مسائل الأصول.
وعليه، فإذا تقرَّر أنَّ الخطأ في المسائل العمليَّة الفرعيَّة التي يُطلب فيها العلمُ والعملُ يكون فيها المخطئُ معذورًا فإنَّ الخطأ في مسائل الأصول التي فيها علمٌ بلا عملٍ أَوْلى أن يكون المخطئُ فيها معذورًا.
— وأمَّا مَن جَعَل المسائلَ العمليةَ هي المعلومةَ بالشرع، والمسائلَ العلميةَ هي المعلومةَ بالعقل التي يستقلُّ العقلُ بدركها؛ فهو تفريقٌ غيرُ ناهضٍ، ذلك لأنَّ صفة الكفر والفسقِ، والإيمانِ والإسلام، وغيرِها من مسائل الأصول، إذا اقترنتْ بذواتٍ فلا تستحقُّ هذه الصفاتِ إلاَّ بوصف الله ورسوله، فهي صفاتٌ ثابتةٌ بالشرع، أي: أحكامٌ شرعيةٌ لم يستقلَّ العقلُ بدَرْكِها.
أمَّا مثيلُ ما استقلَّ العقل بدَرْكِه فكالطبيعيَّات والتجريبيَّات ومسائلِ الهندسة والحساب وغيرها.
ومنه تُدْرِك أنَّ كُلاًّ من مسائل الأصول والفروع ثابتةٌ بالشرع، وليست الأصولُ من المسائل العقلية في نفسها التي يُكفَّر أو يُفسَّق من خالفها، إذ يَلْزَم من القول بذلك تكفيرُ المخطئ في مسائل الطبِّ والهندسة والحساب وغيرِها من المسائل العقلية!
هذا، -وفي الأخير- ينبغي أن تعلم أنَّ ما يتمسَّك به المفرِّقون -من المتكلِّمين وممَّن أحدثوه قبلهم- بين مسائل الأصول -التي يُسمُّونها يقينيَّةً-، والفروعِ -التي يجعلونها ظنيِّةً-، ثمَّ ينسبونها إلى الشرع ويرتِّبون عليها أحكامًا شرعيةً، فإنَّ هذا التفريق ساقطٌ لا ينتهض للاحتجاج ولا يشهد له دليلٌ من الشرع. وما استدلُّوا به يثير الاضطرابَ ولا يقوى على الانتهاض، بل إنَّ الآثار المترتِّبةَ على هذا التفريق مخالِفةٌ للكتاب كامل والسنَّة والإجماعِ القديم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.

(١) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٣/ ١٢٥).
(٢) انظر: «البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٢٣٩).
(٣) انظر: «الملل والنحل» للشهرستاني (١/ ٢٠٢).
(٤) أخرجه ابن ماجه في «الطلاق» باب طلاق المكره والناسي (٢٠٤٥) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في «الإرواء» (١/ ١٢٣) رقم (٨٢).
(٥) انظر: «زاد المسير» لابن الجوزي (٧/ ٥٠).
(٦) انظر: «فتح القدير» للشوكاني (٣/ ١٩، ٢٢٢، ٢٨٥).
(٧) هو الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن إبراهيم بن مهران، الإسفرائينيُّ الإمام الأصوليُّ الشافعي، شيخ أهل خراسان، الملقَّب بركن الدين، وهو أوَّل من لُقِّب من العلماء، فقد كان أحدَ المجتهدين في عصره فقيهًا متكلِّمًا أصوليًّا، له آراءٌ أصوليةٌ مشهورةٌ ومصنَّفاتٌ عديدةٌ منها: «جامع الحلي» في أصول الدين، و«الردُّ على الملحدين»، و«التعليقة النافعة في أصول الدين»، توفِّي سنة: (٤١٨ﻫ).
انظر ترجمته في: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» للمؤلِّف (١٥).
(٨) «شرح مفصل تنقيح الفصول» للقرافي (٤٣٠).
(٩) «الفصل» لابن حزم (٥/ ٢٤٤).
(١٠) «شرح مفصل العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ الحنفي (٧٨).
(١١) انظر: «منهاج السنَّة» (٣/ ٢٢) و«مجموع الفتاوى» (٩/ ١٥٦، ١٥٧)، (١٩/ ٢١١) كلاهما لابن تيمية، و«الصواعق المرسلة» لابن القيِّم باختصار الموصلي (٥٠١).





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©