بيان عقيدة الألباني في الإيمان , والردّ على من رماه بأنه يقول بقول المرجئة !!


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه , وبعد :

لا شك أن الشيخ الإمام محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله هو عَلَم من أعلام علماء السنة في هذا العصر , وقد أطبقت كلمة العلماء بالثناء عليه وعلى عقيدته ومنهجه السلفي الصافي , ومعلوم لدى القاصي والداني أن أهل الأهواء والبدع تكالبوا على بغض هذا الشيخ الإمام لما له من أيادي بيضاء في نصرة الحق والسنة , والردّ على أهل البدع والمذمّة , فمنهم من رماه بالإرجاء ! , ومنهم من رماه بقول الجهم بن صفوان ! , وأرادوا أن ينالوا من مكانة هذا الإمام في قلوب أهل السنة ؛ حتى يستطيعوا بعدها أن يطعنوا في منهجه السلفي الصافي , ومن ثَمّ يتسنّى لهم إدخال أفكارهم وعقائدهم ومناهجهم الفاسدة على الشباب السلفي ويلبسونها لباس المنهج السلفي كذبا وعدوانا , واستخدموا في ذلك سلاح الجهل والتهويل والزور والبهتان.

ثم ظهرت فئة من الناس هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا , وينتسبون إلى المنهج السلفي ؛ ثم يرمون هذا الإمام السلفي بأنه يقول في الإيمان بقول المرجئة !! , ثم يزعمون أنهم لا يطعنون فيه (!) , وإنّما يرمونه بقول المرجئة بيانا للحق ونصرة لأهله ! , وعزاؤنا الوحيد أنه ليس فيهم عالم واحد ! ؛ وإنما أحسنهم وأفضلهم حالا , هو طالب علم ! كنا نُحسّن به الظن , وما زلنا نحاول إحسان الظن بهم حتى هذه اللحظة , وإن كانوا هم لا يدَعُون لنا مجالا لذلك ! , ويتمادون في رمي هذا الإمام بما هو منه براء , ويصرّحون بذلك ويفتخرون به !.

فأحببت أن أكتب هذه الكلمة ؛ بيانا لعقيدة الإمام الألباني رحمه الله , ونصرة للحق وأهله , وردّا على الطاعنين في عقيدته , وأيضا أحببت أن أوضح حقيقة مذهب سلفنا الصالح في الإيمان , فقد التبس أمره – بسبب هذه الفتنة - على كثير من العوام , فصارت عقيدتهم في الإيمان أضغاث أحلام ! , وضل بسبب ذلك فئام , ومنهم من حاول الدفاع عن الألباني الإمام , فوقع – خطئا - في عقيدة المُرجئة اللئام ! .

أسأل الله الكبير المتعال , أن يلهمني الصواب في هذا المقال , وأن يجعله من حسناتي الخالصة في ميزان الأعمال.

وتضمنت هذه المقالة ما يلي :

المبحث الأول : بيان عقيدة الألباني رحمه الله في الإيمان من صريح أقواله وكتاب كاملاته , وإظهار موافقتها لعقيدة سلفنا الصالح.

المبحث الثاني : بيان مقصود العلماء المتأخرين والمعاصرين من لفظة ( تارك جنس العمل ) , أو قولهم ( تارك العمل بالكلية ) , ونقل إجماع السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان على كفر من ترك العمل بالكليّة.

المبحث الثالث : بيان مقصود الألباني رحمه الله من بعض إطلاقاته وأنها من الخطأ (اللفظي) لا (العقدي) , وذكر من سبقه إلى بعض هذه الإطلاقات من العلماء سلفا وخلفا , مع بيان أن لازم القول ليس بقول ما لم يلتزمه قائله.



المبحث الأول

بيان عقيدة الألباني رحمه الله في الإيمان من صريح أقواله وكتاب كاملاته , وإظهار موافقته لعقيدة سلفنا الصالح


يعرف صغار طلبة العلم أن الألباني رحمه الله قد قام بتحقيق وإخراج رسائل و كتب كثيرة في الإيمان على عقيدة سلفنا الصالح منذ سنوات طويلة تزيد على العشرين عاما , ومن ذلك كتاب كامل الإيمان لابن أبي شيبة ، وكتاب كامل الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام , وكتاب كامل شرح مفصل الطحاوية لابن أبي العز , وكتاب كامل الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية , والناظر في هذه التحقيقات العلمية الفريدة وتعليقاته عليها, يرى – وبجلاء – موافقة الإمام الألباني رحمه الله لعقيدة السلف الصالح في الإيمان جملة وتفصيلا , ويكفي الباحث المنصف أن يقرأ ردوده على المرجئة المتقدمين منهم والمعاصرين كأبي غدة عبد الفتاح والكوثري , وهؤلاء هم جبال الإرجاء في هذا العصر من الذابّين عن خبث معتقده , والداعين لضلاله , فدكّ هذا الأسد الألباني حصونهم دكّا , ونسف شبهاتهم الإرجائية نسفا , وتركها قاعا صفصفا , ثم يأتي شباب آخر الزمان , فيرمون هذا الإمام بالإرجاء ! , ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذه هي عقيدة الألباني رحمه الله

قال في الشريط رقم 856 من سلسلة الهدى والنور الدقيقة 7:00 تقريبا وما بعدها :

« أن أنواع الكفر ستة أنواع : تكذيب وجحود وعناد وإعراض ونفاق وشك ، أن الكفر لا يكون بالاعتقاد وحده , بل وبالاعتقاد والقول والعمل , وأن المرجئة هم الذين حصروا الكفر في التكذيب بالقلب وذهبوا إلى أن : كل من كفّره الشارع , فإنما كفّره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى ». اهـ رحمه الله

وقال الألباني رحمه الله ردّا على أبي غدة كما في شرح مفصل الطحاوية :

" المسألة الخامسة : يقول الإمام تبعا للأئمة مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهوية وسائر أهل الحديث وأهل المدينة :
(( إن الإيمان هو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان ، وقالوا يزيد وينقص ))
وشيخك تعصبا لأبي حنيفة يخالفهم ! مع صراحة الأدلة التي تؤيدهم من الكتاب كامل والسنة وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم ، بل ويغمزهم جميعا مشيرا إليهم بقوله في"التأنيب" (ص:44-45) إلى "أناس صالحون"يشير أنهم لا علم عندهم فيما ذهبوا إليه ولا فقه، وإنما الفقه عند أبي حنيفة دونهم ،ثم يقول:إن الإيمان الكلمة !! ، وأنه الحق الصراح .
وعليه فالسلف وأولئك الأئمة الصالحون (!) هم عنده على الباطل في قولهم :بأن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد وينقص ...." إلى أن قال صفحة 58 : " والكوثري في كلمته المشار إليها يحاول فيها أن يصوّر للقارئ أن الخلاف بين السلف والحنفية في الإيمان لفظي ، يشير بذلك إلى أن الأعمال ليست ركنا أصليا ثم يتناسى أنهم يقولون : بأنه يزيد وينقص , وهذا ما لا يقول به الحنفية إطلاقا، بل إنهم قالوا في صدد بيان الألفاظ المكفّرة عندهم :"وبقوله الإيمان يزيد وينقص" كما في "البحر الرائق" - "باب أحكام المرتدين" فالسلف على هذا كفار عندهم مرتدين !! , راجع شرح مفصل الطحاوية (ص:338-360)، والتنكيل (2/362-373) الذي كشف عن مراوغة الكوثري في هذه المسألة .
وليعلم القارئ الكريم أن أقلّ ما يقال في الخلاف المذكور في المسألة أن الحنفية يتجاهلون أن قول أحدهم – ولو كان فاسقا فاجراً - : " أنا مؤمن حقا " ، ينافي مهما تكلفوا في التأويل – التأدّب مع القرآن ولو من الناحية اللفظية على الأقل الذي يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }[الأنفال:2-4[
فليتأمل المؤمن الذي عافاه الله تعالى مما ابتلى به هؤلاء المُتعصبة ، من هو المؤمن حقا عند الله تعالى؟ ، ومن هو المؤمن حقا عند هؤلاء ؟!!"

انتهى كلام الألباني رحمه الله تعالى.


وقال-رحمه الله- في السلسلة الصحيحة المجلد السابع (القسم الأول /153-15) : « مع أنه يعلم أنني أخالفهم مخالفة جذرية ،فأقول: الإيمان يزيد وينقص، وإن الأعمال الصالحة من الإيمان وإنه يجوز الاستثناء فيه خلافا للمرجئة ، ومع ذلك رماني بالإرجاء أكثر من مرة ! فقابلت بذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ...) فقلت: ما أشبه اليوم بالبارحة !!»

انتهى كلام الألباني رحمه الله

وقال الألباني رحمه الله وهو يردّ على أحد أهل البدع :

" أن الرجل حنفي المذهب ، ماتريدي المعتقد ، ومن المعلوم أنهم لا يقولون بما جاء في الكتاب كامل والسنة وآثار الصحابة من التصريح بأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال من الإيمان ، وعليه جماهير العلماء سلفاً وخلفاً ما عدا الحنفية ؛ فإنهم لا يزالون يصرون على المخالفة ؛ بل إنهم ليصرحون بإنكار ذلك عليهم ، حتى إن منهم من صرح بأن ذلك ردة وكفر – والعياذ بالله تعالى – فقد جاء في ( باب الكراهية ) من "البحر الرائق " –لابن نجيم الحنفي – ما نصه ( 8/ 205) :" والإيمان لا يزيد ولا ينقص ؛ لأن الإيمان عندنا ليس من الأعمال " – ثم قال الشيخ الألباني - : وهذا يخالف – صراحة – حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سئل : أي العمل أفضل ؟ قال :" إيمان بالله ورسوله .. " - الحديث – أخرجه البخاري –وغيره- ، وفي معناه أحاديث أخرى ترى بعضها في "الترغيب" (2/ 107) . وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية وجه كون الإيمان من الأعمال ، وأنه يزيد وينقص – بما لا مزيد عليه- في كتاب كامله "الإيمان " ، فليراجعه من شاء البسط . أقول : هذا ما كنت كتبته من أكثر من عشرين عاماً ؛ مقرراً مذهب السلف ، وعقيدة أهل السنة – ولله الحمد – في مسائل الإيمان ، ثم يأتي – اليوم – بعض الجهلة الأغمار ، والناشئة الصغار : فيرموننا بالإرجاء !! فإلى الله المشتكى من سوء ما هم عليه من جهالة وضلالة وغثاء "
انتهى كلام العلامة الألباني رحمه الله من كتاب كامل الذب الأحمد عن مسند الإمام أحمد ص 32 – 33 .

وقال رحمه الله أن الكفر يكون بالأعمال كما يكون بالاعتقاد , حين قال :
"ومن الأعمال أعمال قد يكفر بها صاحبها كفراً اعتقادياً ، لأنها تدل على كفره دلالة قطعية يقينية ، بحيث يقوم فعله هذا منه مقام إعرابه بلسانه عن كفره ، كمثل من يدوس المصحف مع علمه به ، وقصده له " اهـ

التحذير من فتنة التكفير صفحة 72

وصرّح رحمه الله أن تارك الصلاة إذا عُرض على السيف وفضّل الموت على الصلاة ! , فهو كافر مرتدّ , كما في رسالة حكم تارك الصلاة صفحة 43

وأنكر رحمه الله إنكارا شديدا أن يكون الخلاف بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة , خلافا لفظيا صوريا ! , وصرّح بأن الخلاف عقدي وجوهري , كما في شرح مفصل العقيدة الطحاوية صفحة 62 , فليُراجعه من شاء .

وقال رحمه الله في مقدمة تحقيق رياض الصالحين (ص:22) :

"والحقيقة أنه لا يمكن تصور صلاح القلوب إلا بصلاح الأعمال ولا صلاح الأعمال إلا بصلاح القلوب، وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أجمل بيان ".

فهل من يقول هذا الكلام ويقرر هذه التقريرات السنّية السلفية الخالصة , والتي تدك حصون المرجئة دكّا ؛ يُقال عليه أنه يقول بقول المُرجئة !!؟؟

أين أنت يا حمرة الخجل ؟؟!!


المبحث الثاني

بيان مقصود العلماء المتأخرين والمعاصرين من لفظة ( تارك جنس العمل ) , أو قولهم ( تارك العمل بالكلية ) , ونقل إجماع السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان على كفر من ترك العمل بالكليّة


إن مذهب سلفنا الصالح في الإيمان وعلاقته بعمل الجوارح من الوضوح بمكان , ولكن لمّا كثُرت الفتن , ووسّد الأمر إلى غير أهله , وانتشر الجهل , وأشربت القلوب حب الخصام والجدل , حارت في هذه المسألة عقول , ولم تكتف بما هو عن السلف مشهور ومنقول , فإذا بها في بحار الهوى تصول وتجول .

ولا شك عند أهل السنة أن الإيمان هو :

قول باللسان , واعتقاد بالقلب , وعمل بالجوارح .

وأنه يزيد وينقص , يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية حتى لا يتبقى منه إلا ذرة ! , أو يزول بالكلية والعياذ بالله .

والعلاقة بين اعتقاد القلب وعمل الجوارح علاقة وثيقة , فإذا قوي الإيمان في القلب , كثرت الأعمال الصالحة من أعمال الجوارح , وإذا ضعُف إيمان القلب , قلّت الأعمال الصالحة من أعمال الجوارح .

وإذا زالت أعمال الجوارح بالكليّة , دل ذلك على زوال إيمان العبد من القلب بالكلية ولابد .


قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " تخلّف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوّه من الإيمان,ونقصه دليل نقصه ,وقوته دليل قوته." اهـ [الفوائد: 112[

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ما فى القلب مستلزم للعمل الظاهر. وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم" اهـ [الفتاوى 7\294[

قال الإمام الشافعى رحمه الله: " وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون : الإيمان قول وعمل ونية, لا يجزيء واحد من الثلاث إلا بالآخر " اهـ
شرح مفصل أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي 5/956

قال العلامة الآجري في كتاب كامله العظيم "الالشريعة الاسلامية" :

" ثم اعلموا : أنه لا تجزىء المعرفة بالقلب ، والتصديق ، إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً ، ولا تجزىء معرفة بالقلب ، ونطق باللسان ، حتى يكون عمل بالجوارح ، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث : كان مؤمناً , دل على ذلك الكتاب كامل والسنة، وقول علماء المسلمين . "اهـ


وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الصحيح ( 6/487 ) :

" وقد بسطنا الكلام على هذه في مسألة الإيمان ، وبيَّنا أن ما يقوم بالقلب من تصديق وحب لله ورسوله وتعظيم ، لابد أن يظهر على الجوارح وكذلك بالعكس؛ ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :} ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت ، صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } وكما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لمن رآه يعبث في الصلاة : } لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه { " اهـ رحمه الله

وهذا الذي قرّره هؤلاء الأئمة – من أنه لابد من عمل مع إيمان القلب - محلّ إجماع السلف الصالح قولا واحدا لا خلاف عليه .

فإذا كان في القلب ذرة من إيمان , يجب أن يظهر أثر هذا الإيمان الضعيف على أعمال الجوارح , مهما كان هذا العمل ضئيلا وصغيرا , ولكن لا بد أن يظهر شيئ , وإلا لم يكن في الباطن مؤمنا .

فاحفظ هذا يا أخا الإسلام , وعض عليه بالنواجز .

وهذا هو ما يقصده العلماء القائلين بأن تارك جنس العمل يكون كافرا ولا بد , وقولهم ( تارك جنس العمل ) أي ترك كل أعمال الجوارح الظاهرة بالكلية ! , فلا صام يوما من رمضان مرة في عمره قط ! , ولا صلّى ركعة لله مرة في عمره قط ! , ولا زكّى ولا تصدّق على فقير مرة واحدة في عمره قط ! , ولا حجّ مرة , ولا مدّ يده وقرأ صفحة من المصحف مرة قط ! , ولا دخل بيتا من بيوت الله مرة واحدة ليصلي قط !! , ولا أعان بيده ضعيفا لوجه الله مرة قط ! , ولا سقى كلبا شربة ماء لوجه الله مرة قط ! , ولا أماط الأذى عن الطريق لوجه الله مرة قط ! , ولا فعل أي شيئ يصحّ أن يُطلق عليه أنه عمل صالح مرة !! , نطق بالشهادتين فقط وبقي دهرا لم يعمل شيئا قط على التفصيل السابق ! , وشرب الخمر وزنا وسرق وركب المحرمات والفواحش بأنواعها , ثم يزعم أنه مسلم !

فهل يشك عاقل في كفر من كان هذا حاله ؟؟!

فهذا كافر منافق زنديق , قد أجمع السلف على كفره وخروجه من حظيرة الإسلام , قولا واحدا , إذ لا يفعل هذا من عنده أدنى حد للإيمان , كما صرّح بذلك الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في مقالته المشهورة " كلمة حق حول جنس العمل ", وهي منشورة على موقعه الرسمي.

وهذا هو عين ما قصده وقرّره الشيخ الألباني رحمه الله حين قال :

« إن الإيمان بدون عمل لا يفيد ؛ فالله –عز وجل- حينما يذكر الإيمان يذكره مقرونًا بالعمل الصالح ؛ لأننا لا نتصور إيمانًا بدون عمل صالح، إلا أن نتخيله خيالا ؛ آمن من هنا - قال: أشهد ألا إله إلا الله ومحمد رسول الله- ومات من هنا…
هذا نستطيع أن نتصوره ، لكن إنسان يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ ويعيش دهره – مما شاء الله - ولا يعمل صالحًا !! ؛ فعدم عمله الصالح هو دليل أنه يقولها بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه؛ فذكر الأعمال الصالحة بعد الإيمان ليدل على أن الإيمان النافع هو الذي يكون مقرونًا بالعمل الصالح , على كل حال: فنحن نفرق بين الإيمان الذي هو مقره القلب، وهو كما أفادنا هذا الحديث من عمل القلب، وبين الأعمال التي هي من أعمال الجوارح، فأعمال الجوارح ؛ هي أجزاء مكملة للإيمان ماهي أجزاء أصيلة من الإيمان، إنما كلما ازداد الإنسان عملًا صالحًا ؛ كلما قوي هذا الإيمان الذي مقره القلب…».اهـ

انظر شرح مفصله على الأدب المفرد (الشريط السادس/الوجه الأول).


وقد زعم بعض من لا علم عنده , من الذين امتلأت قلوبهم حقدا وحسدا على هذا الإمام السلفي , أن هذا الكلام قديم ! , وأن الشيخ تغيّر اعتقاده في المسألة في آخر عمره !! , ولا شك أن هذه دعوى ينقضها الشيخ في كلامه القديم ! زعموا .

فها هو يقول ( فأعمال الجوارح ؛ هي أجزاء مكملة للإيمان ماهي أجزاء أصيلة من الإيمان، إنما كلما ازداد الإنسان عملًا صالحًا ؛ كلما قوي هذا الإيمان الذي مقره القلب .. )

وهذا هو عين ما يذكره الشيخ دائما , بل هو كلام مفسّر لبعض إطلاقاته الأخرى , وكلام العلماء يفسر بعضه بعضا .

وقد يقول قائل : أنت تنقل ما هو حجة على الشيخ الألباني رحمه الله !! , لأنه ذكر أن أعمال الجوارح ليست جزءا أصيلا من الإيمان , ولكن هي أجزاء (مكملة) للإيمان...!

فأقول :

لقد صرّح الشيخ رحمه الله قبل هذه الكلمة الموهمة بلحظات (!) أن الإيمان بدون عمل لا يُفيد , وقال أن هذا لا يُتصور إلا في الخيال (!) , بل صرّح أن ( عدم ) العمل الصالح دليل على أن الإيمان لم يدخل القلب !

فهل بعد هذا البيان من بيان ؟؟ , أليس كلامه هذا دليلا قاطعا على أنه لا يقصد نفي مطلق أعمال الجوارح (!!) , اللهم بلى .

وظهر من هذا التفصيل لكل منصف مُتجرد للحق مُحب لهذا الإمام بحق ! , أن الألباني يقصد آحاد وشُعب أعمال الجوارح وليس ( كل ) العمل , وإلا كان كلامه متناقضا ينقض أوله آخره ! , فتأمّل .

وجدير بالذكر أن الحكم على مسلم أنه لم يعمل شيئا من أعمال الجوارح قط على التفصيل السابق بيانه , هو مسألة خيالية - كما ذكر الألباني رحمه الله - وغير عملية ! ؛ لأنك لا تستطيع أن تحيط علما بما يفعله - أو لم يفعله الرجل ! - في خلواته وفلواته طيلة حياته (!) , وهذا الأمر لا يمكن لأحد إلا الله أن يحيط به علما.

إذا علمت هذا , وضح لك مقصود هؤلاء العلماء – ومنهم الألباني – الذين يطلقون القول بأن تارك العمل لا يكفر , أو تارك جنس العمل , أو أشباه هذه العبارات – كما سيأتي في المبحث الثالث إن شاء الله - , فإنهم إنما عَنوا بذلك تارك الصلاة والزكاة والحجّ وعامّة الفرائض , وتارك الصلاة عندهم لا يكفر كما هو قول الجمهور , وإلا فتارك الصلاة يكفر بتركها مطلقا عند القائلين بكفره ولو أتى بكل الأعمال الصالحة , ولا يلزم من ذلك أنهم – أي الألباني ومن وافقه - ينفون عنه كل الأعمال الصالحة مطلقا على التفصيل السابق !! , وكما ذكرت أن تارك العمل بهذه الصورة السالفة الذِكر لا يشك في كفره عاقل ! , فضلا عن عالم فاضل.

ويتبقى في هذا المبحث مسألة :

ما هو توجيه حديث الشفاعة المشهور وقد جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج أناسا من النار : " لم يعملوا خيرا قط " ويدخلهم الجنة , وفي رواية " فيقول أهل الجنة : هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه "
فكيف نجمع بين قوله " لم يعملوا خيرا قط " , وقوله " بغير عمل عملوه ولا خير قدّموه " , وبين إجماع السلف الصالح على كفر تارك العمل بالكليّة ؟؟!

الجواب : أن هذه الألفاظ خرجت مخرج الأكثر والغالب من حال هؤلاء , والذي ترك الصلاة والزكاة وعامّة الفرائض , هذا فاسق فاجر شديد الفسق ويُخشى عليه من الكفر وسوء الخاتمة , فلا عجب أن يُطلق الشارع الحكيم فيه القول بأنه لم يعمل خيرا قط , أي في غالب أحواله وأكثرها لم يعمل خيرا قط , مع تلبسه بجميع أنواع المعاصي والآثام وإصراره عليها طوال حياته ! حتى يموت , ولكن هذا النفي لا يلزم منه نفي جنس الأعمال الصالحة مطلقا ! , فلا تعارض بين هذا الحديث وأمثاله , وبين إجماع السلف الصالح على كفر تارك العمل بالكلية .

وهذا الذي قرّرته ليس غريبا على لغة العرب , وإطلاق التعميم – لغة وشرعا - لا يُراد به الكل دائما ، وإنما قد يراد به الغالب والأكثر أحيانا , كما هو معلوم .

وهذا حديث رواه الإمام النسائي رحمه الله :
من رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
" إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ قَالَ لَا , إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ "
صحّحه الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن النسائي .

يُستفاد من هذا الحديث أن قوله " لم يعمل خيرا قط " لا يستفاد منه نفي جميع الأعمال الصالحة عنه بالكلّية مطلقا ! , بدليل أن الرجل كان يتجاوز عن المعسر ويتصدق عليه , وهذا من أعظم القربات والأعمال الصالحة , ومع ذلك قيل فيه أنه " لم يعمل خيرا قط " , فاعرف هذا واحفظه فإنك قد لا تجده في مكان آخر .

وفيه أيضا بيان أن الرجل الفاسق مع فسقه الشديد , وتركه لأعمال الجوارح من صلاة وصيام وزكاة وغير ذلك , لابد أن يكون معه شيئ من عمل الجوارح وإن كان قليلا جدا لا يكاد يُذكر , ولكن لا بد منه طالما أن أصل الإيمان القلبي معه , وإن كان هو – أي الإيمان في قلبه - أيضا ضعيف جدا , لا يكاد يُذكر مثل عمله الظاهر تماما سواء بسواء , وهذا هو الذي قرره أئمة السلف والخلف , فما أحكمهم وأعلمهم ! , فتأمّل .



المبحث الثالث


بيان مقصود الألباني رحمه الله من بعض إطلاقاته وأنها من الخطأ (اللفظي) لا (العقدي) , وذكر من سبقه إلى بعض هذه الإطلاقات من العلماء سلفا وخلفا , مع بيان أن لازم القول ليس بقول ما لم يلتزمه قائله



لا شك أن الشيخ الإمام الألباني رحمه الله بشر يصيب ويخطئ , ويخطئ ويصيب , ويؤخذ من قوله ويُترك , ولا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

لذا فقد ورد في كلام الألباني رحمه الله وتقريراته عبارات وإطلاقات حمّالة أوجه , تحتمل الحق والباطل , وهو مسبوق إليها , ولكن بعد ظهور هذه الفتنة التي نعيشها تبيّن أن أدق العبارات وأصلحها هي عبارات السلف الصالح .

ومن ذلك قوله ( أن الأعمال شرط كمال في الإيمان )

وهذا خطأ لفظي بلا شك , والصواب أن يقال الأعمال جزء من الإيمان , أو يقال الإيمان قول وعمل , كما هو المأثور عن السلف الصالح , وهؤلاء العلماء يقولون بهذه العبارات السلفية , ولكن وددنا لو أنهم اقتصروا عليها دون غيرها من العبارات المحدثة.

أما قولنا أن العمل ( شرط كمال ) أو ( شرط صحة ) , فهذا خطأ محض لأننا بذلك أخرجنا العمل عن مسمّى الإيمان لفظا ، لأن الشرط خارج الماهية ، والركن داخل الماهية , كما قال العلامة الراجحي حفظه الله , ألا ترى أنك تقول الوضوء شرط صحة للصلاة , مع أن الوضوء ليس جزءا من الصلاة , ويستوي في ذلك قول بعض العلماء ( شرط صحة ) أو ( شرط كمال ) , والصواب والأولى والأكمل أن يقال : العمل ركن وجزء من الإيمان , كما هو مأثور عن السلف الصالح , فتنبّه .

نعم , بعض العلماء يذكرون الشرط بخلاف هذا المعنى , مثل قولهم : أن كذا وكذا من أعمال القلوب من شروط لا إلا إلا الله , ولا يقصدون بداهة أن هذه الأعمال خارج ماهية التوحيد ! , كما أفادني بذلك الشيخ أبو عمر العتيبي حفظه الله

ولكن أقول أن أسباب إنكار هؤلاء العلماء هذه اللفظة متعددة , منها أن هذه اللفظة تسببت في فتن كثيرة جدا بين الشباب , وقد يستغلها بعض الخوارج أو يستغلها بعض المرجئة ليدخلوا على الناس باطلهم ! , لذا فالصواب هو ما قرره العلامة الراجحي والعثيمين والسحيمي وغيرهم من الاقتصار على عبارات السلف التي هي أدق العبارات وأحكمها.

ولكن لا يُقال أن الألباني رحمه الله قد أخرج العمل من مسمّى الإيمان !! بقوله هذا , فإن لازم القول ليس بقول ما لم يلتزمه قائله – كما سيأتي بيانه إن شاء الله - , وكيف نرمي الألباني بهذا وهو يصرّح بأن العمل من الإيمان ويزيد وينقص , ويردّ على مرجئة الفقهاء , ويؤكد على أن الخلاف معهم خلافا حقيقيا وليس لفظيا , سبحانك ربي هذا بهتان عظيم .


وقد سبق الألباني فيما في لفظه احتمال -وبعضه صريح جدا ! - أن الإيمان يصح بدون أعمال الجوارح , أئمة فحول وعلماء عدول , منهم :


قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله :

" وَالْكَلَام هُنَا فِي مَقَامَيْنِ : أَحَدهمَا كَوْنه قَوْلًا وَعَمَلًا ، وَالثَّانِي كَوْنه يَزِيد وَيَنْقُص . فَأَمَّا الْقَوْل فَالْمُرَاد بِهِ النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَأَمَّا الْعَمَل فَالْمُرَاد بِهِ مَا هُوَ أَعَمّ مِنْ عَمَل الْقَلْب وَالْجَوَارِح ، لِيَدْخُل الِاعْتِقَاد وَالْعِبَادَات . وَمُرَاد مَنْ أَدْخَلَ ذَلِكَ فِي تَعْرِيف الْإِيمَان وَمَنْ نَفَاهُ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا عِنْد اللَّه تَعَالَى ، فَالسَّلَف قَالُوا هُوَ اِعْتِقَاد بِالْقَلْبِ ، وَنُطْق بِاللِّسَانِ ، وَعَمَل بِالْأَرْكَانِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَال شَرْط فِي كَمَالِهِ . وَمِنْ هُنَا نَشَأَ ثَمَّ الْقَوْل بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْص كَمَا سَيَأْتِي . وَالْمُرْجِئَة قَالُوا : هُوَ اِعْتِقَاد وَنُطْق فَقَطْ . وَالْكَرَامِيَّة قَالُوا : هُوَ نُطْق فَقَطْ . وَالْمُعْتَزِلَة قَالُوا : هُوَ الْعَمَل وَالنُّطْق وَالِاعْتِقَاد وَالْفَارِق بَيْنهمْ وَبَيْن السَّلَف أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَعْمَال شَرْطًا فِي صِحَّته وَالسَّلَف جَعَلُوهَا شَرْطًا فِي كَمَالِهِ . " اهـ

فتح الباري , الجزء الأول صفحة 9

قال الإمام محمد بن إسحاق بن يحي بن منده 310 - 395 هـ :

" ذكر اختلاف أقاويل الناس في الإيمان ما هو « فقالت طائفة من المرجئة : الإيمان فعل القلب دون اللسان ، وقالت طائفة منهم : » الإيمان فعل اللسان دون القلب ، وهم أهل الغلو في الإرجاء « ، وقال جمهور أهل الإرجاء : » الإيمان هو فعل القلب واللسان جميعا « ، وقالت الخوارج : » الإيمان فعل الطاعات المفترضة كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح « ، وقال آخرون : » الإيمان فعل القلب واللسان مع اجتناب الكبائر « ، وقال أهل الجماعة : » الإيمان هي الطاعات كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح غير أن له أصلا وفرعا فأصله المعرفة بالله والتصديق له وبه وبما جاء من عنده بالقلب واللسان مع الخضوع له والحب له والخوف منه والتعظيم له مع ترك التكبر والاستنكاف والمعاندة ، فإذا أتى بهذا الأصل ، فقد دخل في الإيمان ، ولزمه اسمه ، وأحكامه ، ولا يكون مستكملا له حتى يأتي بفرعه ، وفرعه المفترض عليه ، أو الفرائض واجتناب المحارم ، وقد جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان » ، فجعل الإيمان شعبا بعضها باللسان والشفتين وبعضها بالقلب وبعضها بسائر الجوارح « . فشهادة أن لا إله إلا الله فعل اللسان تقول شهدت أشهد شهادة والشهادة فعله بالقلب واللسان لا اختلاف بين المسلمين في ذلك والحياء في القلب وإماطة الأذى عن الطريق فعل سائر الجوارح » " اهـ

كتاب كامل الإيمان لابن منده , الجزء الأول صفحة 209

فها هو الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله يقول أن السلف جعلوا العمل شرطا في كمال الإيمان , وذكر ذلك في أشهر كتب السنة وهو كتاب كامله المشهور " فتح الباري " , وذلك منذ قرون طويلة , ولم نسمع أحدا من العلماء يرميه بأنه يقول بقول المُرجئة بسبب هذا !!! , غاية ما هنالك أنهم قالوا أن هذا خطأ محض .

وها هو الإمام ابن منده رحمه الله يقول من قال بلسانه وآمن بقلبه فقد دخل في الإيمان , وحقق أصل الإيمان ولزمه اسمه وأحكامه , وأنه لا يستكمله إلا بفرعه وهو عمل الجوارح مما افترض عليه

فهل هو مُرجئ ؟؟ أو هل قال بقول المُرجئة ؟؟!!

وقد يقول قائل : كلام الإمام ابن منده هذا عام ومطلق , ولكن له كلام آخر واضح كالشمس يبيّن مقصوده رحمه الله .

قلت : وكذلك الألباني رحمه الله له كلام آخر واضح كالشمس يبيّن مقصوده رحمه الله ! , فوجب حمل كلامه على أحسن المحامل , خاصة وأنه إمام في السنة , يؤصّل لمذهب أهل السنة ويردّ على خصومهم من أهل الإرجاء قديما وحديثا.

ومن الإطلاقات الواردة في كلام الإمام الألباني رحمه الله قوله :

( أن تارك جنس العمل لا يكفر )

قال العلامة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله :
" أن الجنس قد يراد به الواحد وقد يراد به الكل وقد يراد به الغالب ، ومن هنا إذا دندن حوله السلفيون حصل بينهم الخلاف الذي يريده التكفيريون وتكثروا بمن يقول به منهم، فيقولون هذا فلان السلفي يقول بتكفير تارك جنس العمل فيجرون الناشيء إلى مذهبهم في تكفير الحكام على منهجهم وإلى رمي علماء السنة بالإرجاء ... الخ. " اهـ حفظه الله
من مقال ( كلمة حق حول جنس العمل ) على موقعه الرسمي على الشبكة .

ولا شك أن تارك العمل بالكلّية – على ما سبق تفصيله – كافر بإجماع السلف الصالح , ولكن قد يطلق العالم هذه العبارة ويريد منها تارك الصلاة وعامة الفرائض ؛ فيحكم بعدم كفر تارك جنس العمل بهذا الاعتبار , ولا يجعلنا هذا نرميه بالإرجاء أو بقول المرجئة إلا إذا كان ممن عُرفوا بنصرة مذهب المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمّى الإيمان , أو ممن عرفوا بحصر الكفر في كفر التكذيب والجحود فقط , فحينها يردّ عليه ويشنّع عليه ولا كرامة.

ولا شك أن الألباني رحمه الله ليس من هؤلاء , فهو سيف مسلول على المرجئة والخوارج , يعتبر الخلاف مع مرجئة الفقهاء خلافا حقيقيا , ويقول بأن العمل من الإيمان ويزيد وينقص , ويستثني في الإيمان , فهل يقال عن من قال هذا بأنه مُرجئ ؟؟ أو قال بقول المرجئة !!؟

وقد وردت مثل هذه الإطلاقات في كلام الكثير من العلماء الفحول , فهل يرميهم إخواننا هؤلاء بأنهم يقولون بقول المرجئة !؟

قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله : ( من لم يصل من المسلمين في مشيئة الله إذا كان موحداً مؤمناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً مقراً وإن لم يعمل وهذا يرد قول المعتزلة والخوارج بأسرها ) اهـ
التمهيد ( 23/ 290 )

و قال الإمام ابن جرير الطبري وهو يحكي قول أهل السنة في الإيمان: ( قال بعضهم الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن أتى بمعنيين من هذه المعاني الثلاثة ولم يأت بالثالث فغير جائز أن يقال أنه مؤمن ولكنه يقال له إن كان اللذان أتى بهما المعرفة بالقلب والإقرار باللسان وهو في العمل مفرط فمسلم ) التبصير في معالم الدين ( 188 )

قال الإمام ابن رجب رحمه الله :

(ومعلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان ، وبـهما يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة ) فتح الباري ( مكتبة الغرباء الأثرية ، 1/ 121 )

وقال أيضا بعد أن ساق حديث الشفاعة :

( والمراد بقوله " لم يعملوا خيراً قط " من أعمال الجوارح وإن كان أصل التوحيد معهم ، ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار إنه لم يعمل خيراً قط غير التوحيد ...ويشهد لهذا ما في حديث أنس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال : " فأقول يارب ائذن لي فيمن يقول : لا إله إلا الله فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من قال : لا إله إلا الله " خرجاه في الصحيحين وعند مسلم " فيقول ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك " وهذا يدل على أن الذين يخرجهم الله برحمته من غير شفاعة مخلوق هم أهل كلمة التوحيد الذين لم يعملوا خيراً قط بجوارحهم ).اهـ

كتاب كامل التخويف من النار طبعة دار الإيمان الباب الثامن والعشرون ص285 .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في
"فتح المجيد شرح مفصل كتاب كامل التوحيد - (ج 1 / ص 66) :
( تنبيه ) قال القرطبي في تذكرته : قوله في الحديث « من إيمان » أي : من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح ، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان ، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه ، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله : ما في الحديث نفسه من قول " أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط " يريد بذلك : التوحيد المجرد من الأعمال" . اهـ ملخص شاملا

فالذي يقوله هؤلاء في حق الألباني يلزمهم أن يقولوه في هؤلاء الأئمة الأعلام ! , حيث تطابقت أقوالهم وإن تعددت الألفاظ , ولكن المعنى واحد , فهل سترمونهم بأنهم يقولون بقول المرجئة ؟؟!

أم نلزم جادة الصواب ونقول : أن تارك العمل بالكلية – على التفصيل السابق – كافر بإجماع السلف الصالح , ولكن هؤلاء العلماء الفحول ما قصدوا – بداهة- مثل هذه الصورة الخيالية التي نتحدث عنها ! , وكلامهم محمول على من يترك الصلاة وعامة الفرائض والواجبات , أي شُعب أعمال الجوارح وآحادها وإن كثرت وعظمت , كما هو حال أغلب فساق زماننا.

وذكرتني هذه المسألة بما حدث مع إخواننا هؤلاء منذ سنوات , حينما رموا أهل السنة القائلين بأن تارك الصلاة إذا عُرض على السيف فأبى أن يصلي يقتل حدّا لا ردة ويدفن في مقابر المسلمين – ولا شك أن قولهم هذا خطأ محض - , والعلماء القائلين بهذا القول أكثر مما تتخيل ! , حتى كاد أن يكون إجماعا ! كما قال العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله , وهم من أئمة المذاهب الأربعة وفقهاء القرون المفضلة وما بعدها , فرموهم إخواننا هؤلاء بأن قولهم هذا إرجاء مبني على إرجاء !! , واستدلوا بكلمة قالها شيخ الإسلام وطاروا بها في الآفاق.

وسبب هذه الفتنة القائمة وكذلك أختها القديمة هي أن إخواننا هؤلاء جهلوا أن لازم القول ليس بلازم ما لم يلتزمه قائله , كما هو مقرر عند أهل العلم لأن المتكلم قد يذكر الشيء ولا يستحضر لازمه حتى إذا عرفه وتفطّن له ؛ أنكره أشد الإنكار! , فلا يشّنع على العالم المعروف بسلفيته وحرصه على السنة والعقيدة الصحيحة بلوازم الأقوال خاصة في المسائل الخفيّة , وإلا لزمنا التشنيع على جمع غفير من الأئمة السالف ذكرهم !! , ورميهم بأنهم يقولون بقول المرجئة !!, وهذا ما لا يقول به عاقل فضل عن عالم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:

"وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان: أحدهما لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه ،فان لازم الحق حق و يجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره , وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.

والثاني:لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض , و قد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه و إلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر لـه فساده لم يلتزمه , لكونه قد قال ما يلزمه و هو لا يشعر بفساد ذلك القول و لا يلزمه .
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب ؛ هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله , وما لا يرضاه فليس قوله و إن كان متناقضا . "

انتهى كلامه رحمه الله من القواعد النورانية/ 193

فياله من كلام نوراني (!) , فتأمّل , ولو تفطّن لهذا الكلام ووعاه إخواننا هؤلاء ؛ لما عانينا وتكلفنا عناء الردّ عليهم.

وأخيرا أذكر إخواني هؤلاء وأذكر نفسي , والذكرى تنفع المؤمنين , بقول ابن عساكر : " اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة ، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب ". اهـ

فإن كان قولكم في الإمام الألباني رحمه الله أنه يقول بقول المرجئة ليس انتقاصا وطعنا ! , فلا أدري – والله- ما هو الطعن والانتقاص إذا ؟!!

ويستدل بعضهم بفتوى منسوبة للشيخ الراجحي حول الشيخ الألباني رحمه الله ولا أعلم مدى صحتها , ولكن على فرض رائع ثبوتها , أقول لقد ورد في أول إجابة الشيخ العلامة الراجحي حفظه الله قوله : " فإذا كان قال: إن العمل خارج من مسمَّى الإيمان فقد وافق أبا حنيفة وأصحابه " , وقد كان السائل لبّس على الشيخ حفظه الله سؤاله , وأوهمه أن الشيخ الألباني رحمه الله يقول أن الإيمان ليس ركنا وجزءا من أجزاء الإيمان (!!) , وهذا محض افتراء وكذب صراح ! , وقديما قالوا السؤال نصف الإجابة ! , ومع ذلك فقد قال الشيخ الراجحي – إن صح النقل عنه - : إذا كان – أي الألباني – قال هذا فهو كذا وكذا " .

وجوابه أن الألباني رحمه الله يقول بأن الإيمان جزء وركن من أركان الإيمان , كما تقدّم , وعليه فما بني على باطل فهو باطل ! , وحاق بهم ما كانوا يمكرون.

نسأل الله الهداية والتوفيق للجميع

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم


منقول





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©