منذ اللحظات الأولى في المادة التاريخ الإسلامي – وخلال فترة نزول الوحي وتشكل النصوص – كان ثمة إدراك مستقر أن النصوص الدينية مجالات فعاليتها الخاصة ، وأن ثمة مجالات أخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية ، ولا تتعلق بها فعالية النصوص ، وكان المسلمون الأوائل كثيراً ما يسألون إزاء موقف بعينه ما
إذا كان تصرف النبي محكوماً بالوحي أم محكوماً بالخبرة العقل ، وكثيراً ما كانوا يختلفون معه ، ويقترحون تصرفاً آخر إذن كان المجال من مجالات العقل
والخبرة والامثلة على ذلك كثيرة وتمتلئ بها كل وسائل الخطاب الديني وأدواته من كتب ومقالات وخطب ومواعظ وبرامج وأحاديث ، ورغم ذلك يمضي الخطاب الديني في مد فعالية النصوص الدينية إلى كل المجالات متجاهلا تلك الفروق التي صيغت في مبدأ "أنتم أعلم بشئون دينكم" . ولا يكتفي الخطاب الديني بذلك ، بل يوجد بطريقة آلية بين هذه النصوص وبين قراءته وفهمه لها ، وبهذا التوحيد لا يقوم الخطاب الديني بالغاء المسافة المعرفية بين "الذات" و "الموضوع" فقط ، بل يتجاوز ذلك إلى ادعاء – ضمني – بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه النصوص وفي هذا الأدعاء الخطير لا يدرك الخطاب الديني المعاصر أنه يدخل منطقة شائكة هي منطقة "الحديث باسم الله" وهي المنطقة التي تحاشى الخطاب الإسلامي – على طول مادة التاريخه عدا استثناءات قليلة لا يعتد بها – مقارنه تخومها ومن العجيب أن الخطاب المعاصر يعيب هذا المسك ويندد به في حديثه عن موقف الكنيسة من العلم والعلماء في القرن الوسطى . ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن هذه الالية تتداخل مع آليات أخرى وتشتبك بها فآلية "اليقين الذهني والحسم الفكري" – مثلاً – يمكن أن تعد إحدى نتائجها ، وإن كان هذا ينفى استقلالها بوصفها إحدى آليات الخطاب . أما آلية "إهدار البعد المادة التاريخي" فهي تعد في جانب منها – جزءا من بنية آلية "التوحيد بين الفكر والدين" وذلك أن التوحيد بين الفهم والنص حيث يقع الفهم في الحاضر ، وينتمي النص إلى الماضي (لغة على الأقل) – لا بد أن يعتمد على "إهدار البعد المادة التاريخي" والخطاب الديني المعاصر يبدو في هذا كل وكأنه يصدر عن مسلمات لا تقبل النقاش أو الجدل ، وقد مر بنـا في الفقرة السابقة بعض الاستشهادات التي تمثل هذا التوحيد بين الفكر البشري والدين ، فالجميع يتحدثون عن الاسلام – بألف ولام العهد – دون أن يخامر أحدهم أدنى تردد ويدرك أنه يطرح في الحقيقة فهمه هو للإسلام أو لنصوصه ، وحتى الاستناد لأراء القدماء ولاجتهاداتهم أصبح هو الآخر استناداً إلى الإسلام الذي كثيراً ما تضاف له صفة الصحيح فصلا له عن الزائف الذي يمثل اجتهاداً آخر وإذا كنـا لسنـا هنا بصدد الحكم على هذا الاجتهاد أو ذاك . فإن الذي يشغلنـا هنا ليس قيمة الاجتهاد في ذاته ، بل شاغلنـا الأساسي الكشف عن ذلك الاقتناع بامتلاك "الحقيقة" في الخطاب الديني وهو الاقتناع الذي جعله يتخلى عن كثير من فضائل الخطاب السلفي . يقول واحد من ممثلي تيار الاعتدال "ليس هناك إسلام تقدمي وآخر رجعي ، وليس هناك إسلام ثوري وأخرى استسلامي وليس هناك إسلام سياسي وآخر إجتماعي أو إسلام لسلاطين وأخر للجماهير ، هناك إسلام واحد ، أنزله الله على رسوله وبلغه رسوله إلى الناس وهو قول ينقضه مادة التاريخ الإسلام ذاته ، ذلك المادة التاريخ الذي شهد "تعدداً" في الاتجاهات والتيارات و "الفرق" التي قامت لأسباب اجتماعية اقتصادية سياسية ، وصاغت مواقفها بالتأويل والاجتهاد في فهم النصوص ، ولكن هذا الإصرار على وجود إسلام واحد ، ورفض التعدية الفعلية يؤدي إلى نتيجتين بصرف النظر عن نوايا هذا الكاتب أو ذاك النتيجة الأولى : أن للإسلام معنى واحداً ثابتاً لا تؤثر فيه حركة المادة التاريخ ، ولا يؤثر باختلاف المجتمعات ، فضلا عن تعدد الجماعات بسبب اختلاف المصالح داخل المجتمع الواحد النتيجة الثانية : أن هذا المعنى الواحد الثابت يمتلكه جماعة من البشر – هم علماء الدين قطعاً – وأن أعضاء هذه الجماعة مبرأون من الأهواء والتحيزات الانسانية الطبيعية . لكن الخطاب الديني لا يسلم ابداً بالنتائج المنطقية لكثير من أفكاره ، بل كثيراً ما يجمع هذا الخطاب بين الفكرة ونقيضها ، يقول نفس الكاتب في سياق آخر : "أفتح أي صفحة من صفحات المادة التاريخ الإسلامي ستجدها ناصعة في كل مرحلة ، مكتوبة بفصيح اللسان وصريح العبارة : كما تكونوا يكون دينكم" وها هو كاتب آخر يتحدث عن نوعين من الإسلام الإسلام المستأنس وهو الذي تباركه السلطة السياسية وترعاه والإسلام الحقيقي إسلام القرآن والسنة وإسلام الصحابة والتابعين . والإسلام الحقيقي في نظر هذا الكاتب هو الإسلام الذي يفصح عنه العلماء في خطابهم ، لأنهم – وحدهم – القادرون على فهم الإسلام الصحيح ومعنى ذلك أن سلطة التأويل والتفسير لا ينبغي أن تتجاوز هذه الدائرة "فمن أدعى على الكتاب كامل والسنة وطعن في علماء الأمة فليس بمامون على تعاليم الدين ومن أخذ عن العلماء وكتب المذاهب مهملاً دلائل القرآن والحديث ، فقد أهمل الدين ومصدر التشريع" وهكذا ينتهي الخطاب الديني إلى إيجاد "كهنوت" يمثل السلطة ومرجعاً أخيراً في شئون الدين والعقيدة ، بل يصل إلى حد الإصرار على ضرورة التلقي الشفاهي المباشر في هذا المجال عن العلماء ذلك أن جراسه الالشريعة الاسلامية بغير معلم لا تسلم من مخاطرات ولا تخلو من ثغرات وآفات … وهذا ما
جعل علماء السلف يحذرون من تلقى العلم عن هذا النوع من المتعلمين ويقولون : لا تأخذ القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي . أن هذا التناقض في الخطاب الديني بين إنكار وجود "كهنوت" أو سلطة مقدسه في الإسلام – على المستوى النظري والاجرائي – وبين الإصرار على ضرورة الاحتكام إلى هذه السلطة وأخذ معنى الدين والعقيدة عنها وحدها – على المستوى التطبيقي والفعلي – إنما يمثل تناقضا خطيرا ينسف من الأساس المنطلقات الجوهرية لهذا الخطاب ، كم يكشف في الوقت نفسه عن الطبيعة الإيديولوجية التي لا يكف الخطاب عن إنكارها والتنصل منها زاعماً "موضوعية" مطلقة وتجرداً تاماً عن التحيزات والأهواء الطبيعية في البشر




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©