السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه مقدمة شرح مفصل كتاب كامل التوحيد من صحيح البخاري لفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، أردت أن أنقلها لكم لما رأيت فيها من الفائدة الكبيرة، فدونكموها:
شرح مفصل كتاب كامل التوحيد من صحيح البخاري لفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان
المقدمة
الحمد الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، ولا ند له في أسمائه وصفات جزائريةه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق، فدعا إلى توحيد الله الخالص من كل شائبة شرك، في حقه، أو فعله، أو أسمائه وصفات جزائريةه، وجاهد في هذا السبيل حتى وضح الحق، واستبان وكمل به الدين، وتمت النعمة، فترك الأمة على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وسار على نهجه صحابَتُه، فلم يغيروا، أو يبدلوا، بل بذلوا جهدهم في دعوة الخلق إلى عبادة الله وحده، حتى مضوا لسبيلهم. فصلاة الله وسلامه على عبده ورسوله محمد بن عبد الله، إمام الحنفاء وسيد الأصفياء، ورضي الله عن صحابته أجمعين، وعمن سلك نهجهم إلى يوم الدين.
كمال الهداية وتمام النعمة على هذه الأمة
أما بعد، فقد عُلِم أن الله - تعالى - بعث رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - على حين فترة من الرسل، وفي جاهلية لا تعرف من الحق رسماً، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكماً، وإنما ينتحلون ما تهواه نفوسهم، وما تزينه لهم شياطينهم، وما وجدوا عليه آباءهم، فجاهدهم وجادلهم باللين والحكمة، وقارعهم بالسنان والحجة، لمن كابر وعاند، وكان نصر الله حليفه، فاستقام أمره، وانتصر على عدو الله، وظهر دينه، فجاء نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وبعد تمام نعمة الله - تعالى - عليه وعلى أمته، وظهور ما جاء به من الحق، ووضوح الطريق، توفاه الله إليه، فقام بعدَه صحابَتُه بأمره خير قيام، فجاهدوا في اللهِ القريبَ والبعيد، حتى تحقق ما أخبر به رسولهم - صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم في "صحيحه" عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها، ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأُعطِيتُ الكنزين، الأحمر، والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أُهلِكَهم بسَنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلِك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً". ففُتِحَتْ بلاد الروم وفارس في عهد الخليفة الثاني، وأُنْفِقَتْ كنوزُها في سبيل الله - تعالى- وواصلت جحافل التوحيد إلى مشارق الأرض ومغاربها، تَفْتَحُ القلوب إلى معرفة الله وتوحيده قبل البلاد، حتى تمت نعمة الله على أكثر أهل الأرض، فاتجهوا إلى عبادة الله وحده، بعدما كانوا يعبدون كل شيء، وكانت تستعبدهم شياطين الجن والإنس.
ولكن كثيراً من الناس لا يعجبهم ذلك، بل يسوؤهم ويحزنهم.
ومن حكمة الله -تعالى - أن جعل للباطل جنوداً يناصرونه، ويدافعون الحق ويردونه، كما جعل للحق أنصاراً يتفانون في الذياد عنه، والدعوة إليه. وقد كان ذلك منذ باءَ إبليسُ اللعين بالطرد عن رحمة الله، والبعد عن كل خير، فأقسم بعزة الله ليغوين بنى آدم أجمعين، إلا عباد الله المخلصين، كما قال الله تعالى عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الآيتان 82، 83 من سورة ص]. ومن المعلوم أن الله - تعالى - لم يقبض نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم- حتى أكمل له دينه، وأظهره على من عاداه بالحجج والبراهين، وبقوة القتال لمن وقف في وجهه وعاند الحق، كما قال - تعالى - في آخر ما أنزله الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [الآية 3 من سورة المائدة]، فإذا كان الله قد أكمل لهم دينهم، فلا بد من أنه وَضَّحَهُ لهم بحيث لا يبقى فيه أي التِباسٍ أو اشتباهٍ، ولا بد من أنهم فهِموه واعتقدوه على ما أُرِيدَ منهم وعَمِلوا به، ولا بد من الاستغناءِ به عن كل ما سواه، فلا يحتاجون معه إلى غيره، وأعظمُ ما يحتاجونه وأشرفُهُ هو معرفتُهم ربَّهم بأسمائه وصفات جزائريةه، وما يجب له ويستحقُّه، ويُحْمَدُ ويُمَجَّدُ به، ويُثْنى به عليه؛ لأن هذا من أفضل العبادة التي أوجبها الله عليهم، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الآية 180 من سورة الأعراف].
قد أوضح الله ورسوله العقيدة وضوحاً جلياً
فلا بد من إيضاح الواجب لله - تعالى - والممتنع عليه، والجائز عليه، حتى يكونوا على بينة من دينهم، ومعبودهم، لأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من الوحي، إذ هو من الغيب، الذي لا يعلم بالقياس، ولا بالعقل. وقد بين الله لنا طريقة الأنبياء التي كانوا يَدْعُونَ بها أُمَمَهم، كما قص الله تعالى عنهم في القرآن، فقد اتفقت طريقتهم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده، وخاتمهم جاء مقتفياً أثرهم في ذلك، فدعا أمته إلى ما دعت إليه الرسل قبله، من توحيد الله ومعرفته، فلم يفارقهم حتى وضح لهم الطريق، واستبان الحق من الباطل. روى ابن ماجه [(1/4) رقم (5)] عن أبي الدرداء، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: " آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا حتى لا يُزِيغَ قلبَ أحَدِكُم إلا هِيَهْ، وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلُها ونهارُها سواء". قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " تركنا على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء".
وقال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [الآية 89 من سورة النحل]، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الآية 64 من سورة النحل]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الآية 44 من سورة النحل]. فالإيمان بالله وأسمائه وصفات جزائريةه أعظم الأشياء، وكذلك عبادته، فلا بد أن يُبَيِّنَ الكتاب كاملُ - الذي هو تبيانٌ لكل شيء - ذلك أوضح البيان. ولا بد أن يدل على أعظم الهدى الذي هو معرفة الله - تعالى - بأسمائه وصفات جزائريةه، كما أن من أعظم ما وقع فيه الخلاف في الأمة هو في هذا الباب، فلا بد أن يكون قد بَيَّنَهُ، لأنه تعالى أخبرنا أنه نَزَّلَهُ ليُبَيِّن لنا ما اختلفنا فيه، ولا بد أن نجد فيه ما يزيل كل شك ولبس؛ لأنه هدى ورحمة، لكن ليس لكل أحد بل للمؤمنين فقط. وأعظمُ ما أنزل إلينا هو الإيمان بالله، ومعرفته، وقد أخبرنا تعالى أنه أنزل الكتاب كامل ليبين للناس ما نزل إليهم، فكيف يترك أعظم الأشياء المُنَزَّلَةِ إلينا بدون بيان؟ فعُلِم بهذا ونَحْوُه أن الله - تعالى - بَيَّنَ على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم- للأمة كل ما تحتاج إليه في دينها، ومعرفةِ ربها، ولم يَكِلْ ذلك إلى عقولهم، أو قياساتهم. قال ابن عباس في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [الآية 3 من سورة المائدة]: " أخبر اللهُ نبيَّه والمؤمنين، أنه أكملَ لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا يَنْقُصُه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً" [رواه ابن جرير بسنده، انظر " تفسيره" (9/518) ط المعارف]. فإذا كان الله - تعالى - قد أكمل لهم الإيمان، فكل ما لم يَقُلْه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في باب الإيمان ولم يأمر به ويُبَيِّنْهُ للأمة فهو باطل، وليس من الدين الكامل الذي جاء به. وأصل الدين وأساسه: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفات جزائريةه، ومعرفة ما يجب له على عباده. ولا يجوز لمسلمٍ يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يظن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يبين ما يعتقده العبدُ في ربه؛ لأن هذا هو الذي أُمِرَ بتبليغه. قال شيخ الإسلام: " من المحال في العقل والدين أن يكون الرسول الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه الكتاب كامل ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، أن يكون قد ترك بابَ الإيمانِ بالله والعلمَ به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله، من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، فإن معرفةَ هذا أصلُ الدينِ، وأفضلُ الأعمال، فكيف يكون القرآن والرسول والصحابة - وهم أفضل الخلق بعد النبيين - لم يُحْكِموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟ ". ومحالٌ أن يُعَلِّمَ النبي -صلى الله عليه وسلم - أُمَّتَهُ أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة، ونحو ذلك، ويترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، وما يعتقدونه في قلوبهم، في ربهم ومعبودهم، مع كون ذلك غايةَ المعارفِ، وأشرفَ المقاصدِ، والوصولَ إليه غايةَ المطالب، مع قوله -صلى الله عليه وسلم: "ما بعثَ الله من نبيٍّ إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خيرِ ما يعلمُهُ لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" ["صحيح مسلم" (12/233) شرح مفصل النووي]. ومحال أن يكون الذين كان فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والذين يلونهم غير عالمين للحق في باب معرفة الله، وغير قائلين به. ومعلوم أن من في قلبه حياة ومحبة للعبادة، أنه يحرص أشد الحرص على معرفة ذلك. وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [البخاري، انظر "الفتح" (7/2) و (11/244، 543)] " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" [الفتوى الحموية، ملخص شاملاً، انظر "مجموع الفتاوى" (5/706)].
بدء الانحراف
لما سيطر حكم الإسلام على أكثر البلاد، في آسيا، وأفريقيا، وغيرهما، دخل تحت حكمه أمم كثيرة، رغبة ورهبة، وكان لها أديان مختلفة، من يهودية، ومجوسية، ونصرانية، ووثنية، وغير ذلك، وقد كان لكثير من هذه الأمم سلطان كبير، مثل المجوس، والرومان، فسلبهم المسلمون ذلك، وكان عند هؤلاء من الكبر والاستعلاء ما يجعلهم يأنفون من كونهم تحت سلطان المسلمين، ولا سيما وقد كانوا يرون العرب من أحقر الأمم، وأقلها شأناً، كما أن اليهود واجهوا الإسلام ورسولَه من أول أمره بالعداء، وحاولوا القضاء عليه بأنواعٍ من المكائد، والمؤامرات، ولَمَّا يئس هؤلاء جميعاً من قدرتهم في مجابهة الإسلام بالقوة وجهاً لوجهٍ انصرف جهدهم وكيدهم إلى الدسائس، والمؤامرات، والاغتيالات لرجاله العظام. ودخل في الإسلام ظاهراً من هؤلاء من قصْدُه إفسادَه، وتمزيق وحدة أهله، ولا بدَّ أن يكون ذلك عن دراسة، وإعمال فكر وتخطيط. وربما يكون هناك جمعيات متعاونة، من المجوس واليهود، والنصارى والهنود، وغيرهم، وقد تكون لكل طائفة مؤسسات تعمل لإفساد عقائد المسلمين؛ لتَيَقُّنِهم أنه لا يمكن هزيمة المسلمين، إلا بإفساد عقيدتهم، فبدأت آثار تلك المؤامرات تظهر، شيئاً فشيئاً، فقُتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بأيدٍ مجوسية، وربما بمؤامرة مجوسية يهودية. ثم قتل الخليفة بعده، بأيدٍ مشبوهة، من غوغاء، يدفعهم بعض دهاة اليهود والمجوس. ثم ظهر القول بنفي القدر، وأول من عُرِف بذلك رجل مجوسي يقال له: سيسويه، من الأساورة، وإن كان قد اشتهر أن أول من قال به معبد الجهني [معبد الجهني البصري: تابعي، كان داعية في ضلال، قال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه رديء. تكلم فيه كثير من السلف من أجل قوله بنفي القدر، قتله عبد الملك سنة ثمانين. انظر " تهذيب التهذيب" (10/225)]. ثم أُوقِدت نار الفتنة بين المسلمين، وقتالِ بعضِهم بعضاً. ثم خرجت الخوارج بجهلهم، وعتوهم، وتكفيرهم المسلمين، وقتلهم إياهم. ثم نجم التشيع الشنيع، من قِبَلِ يهودٍ ومجوسٍ يوقدون ناره، وأظهروا القول بأن للرسول -صلى الله عليه وسلم- وصياً، هو علي بن أبي طالب، ولكن الصحابة تمالؤوا على ظُلمِه، وكتمانِ الوصيةِ على حد زعمهمُ الكاذب. ولم يزل التشيع يتطور بتطرفه، وتشعبه، حتى صار ملجأً لكل من يريد أن يحارب الإسلام والمسلمين، وظهر فيه القول بأن القرآن مُبَدَّلٌ ومحرف، ومَزيدٌ فيه، ومنقوصٌ منه، وأن أعظم الصحابة ارتدوا بعد إسلامهم إن لم يكونوا كلهم، ما عدا عليَّ بن أبي طالب ونفراً قليلاً معه. وقد يصلُ الضلالُ ببعضهم والجرأة على الله - تعالى - إلى أن يقول بخيانة جبريل للرسالة، وأنه أُرسِل إلى علي فعدَل بها إلى محمد. ولم يزل الرفض يبتعد أهلُه عن الدين والعقل والفطرة إلى يومنا هذا. ثم ظهر القول بإنكار الصفات لله - تعالى -، وأنه لا يحب أحداً من عباده ولا يحبه أحد، ولا يتكلم، وليس له يد، ولا وجه، ولا شيء مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله. وكان أول من عُرف بذلك، رجل يقال له: الجعد بن درهم [عداده في التابعين، قتله خالد بن عبد الله القسري على الزندقة، يذكر أنه جعل في قارورة ماء وتراباً، فاستحال دوداً، فقال: أنا خلقته. وهو فارسي، قتل سنة أولى24، انظر " البداية والنهاية" (9/394)]. قال شيخ الإسلام: " أصل مقالة تعطيل الصفات، مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين، فإن أول من حُفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام - أعني أن الله ليس على العرش حقيقة، وأن الاستواء بمعنى الاستيلاء، ونحو ذلك - هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، الذي سحر النبي -صلى الله عليه وسلم -" [" مجموع الفتاوى" (5/20)]. وهذه سلسلة يهودية لها سوابق في محاربة الإسلام. وقال البخاري: " حدثنا قتيبة، حدثني القاسم بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيبة، عن أبيه، عن جده، قال: شهدتُ خالدَ بن عبد الله القسري بواسطٍ في يوم أضحى ... وقال: ارجعوا فَضَحُّوا تقبل الله منكم، فإني مضَحٍّ بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله علواً كبيراً عما يقول ابن درهم، ثم نزل فذبحه". قال أبو عبد الله: قال قتيبة: " بلغني أن جهماً كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم" ["خلق أفعال العباد" (ص29-30) ورواه عثمان بن سعيد في "الرد على الجهمية" (ص25)]. فتبين أن هذا الإلحاد جاء من قبل اليهود الذين أرادوا إفساد دين الإسلام، كما أن الرفض أول من عُرِفَ من دعاته يهوديٌ ماكرٌ حاقدٌ، وهو ابن سبأ، يقال له: ابن السوداء، واسمه: عبد الله بن وهب بن سبأ، من يهود صنعاء، ولا بد أن هؤلاء الأفراد الذين شهروا بدعواتهم المنحرفة، وراءهم من يدعمهم، ويخطط لهم، وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة فاحصة، تُبَيِّنُ الأمر بوضوح، وهذا الذي أشرت إليه تدل عليه كثير من الوقائع، والآثار عن السلف، وغيرهم. فكان هذا هو سبب التفرق الحقيقي، إذ هو تفرقٌ في الاعتقاد، وهو منشأ الخلافات، والحروب الكلامية الممزقة، التي لم تزلْ تنخرُ في كيان المسلمين إلى يومنا هذا. وقد ينضم إلى ذلك عوامل جديدة في كل فترة زمنية، من أنواع الإلحاد ومحاربة الإسلام بأساليب شتى وأسلحة مختلفة، مقروءة ومرئية ومسموعة، ولولا أن الله - تعالى - تكفل ببقاء هذا الدين إلى آخر وقت من الدنيا، لقُضِيَ عليه منذ زمن بعيد، وهذا بالإضافة إلى ما هو كامن في طباع البشر مما يُبعِدُهم عن الحق، مثل التقليد، واتباع المألوفات، وما يكون عليه رؤساء القوم وعظماؤهم، كما ذكر الله تعالى عن الأمم السابقة مع أنبيائهم، قال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ {21} بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الآيات 20-24 من سورة الزخرف]. فهذا يدل على أن الإنسان يصعب عليه ترك المألوف له، كما أن شيخه ومن يُعَظمُه قد يسيطر على توجيهه إلى ما يعتقده، كما هي طريقة المتكلمين حيث يأخذون بآراء شيوخهم ومعظَّميهم، مع مخالفتها لكتاب كامل الله وسنة رسوله. ومن ذلك الجهل، واتباع الهوى، كما هو حال أكثر الخوارج، فإنهم جَهِلوا معاني الكتاب كامل، وأرادوا من عموم الأمة أن لا يكون لهم ذنوب، وإلا أصبح عندهم كافراً مخلداً في النار. وأما الهوى فبابه واسع، وقد قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الآية 23 من سورة الجاثية]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [الآية 50 من سورة القصص]، إلى غير ذلك من الدوافع نحو الانحراف، وسأذكر شيئا مما ذكره أهل العلم يؤيد ما ذُكر هنا: قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: " وقد رُوي أن أول من ابتدع {القول بنفي القدر} بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له: سيسويه، من أبناء المجوس، وتلقاه عنه معبد الجهني" ["مجموع الفتاوى" (7/384) ، وذكره المقريزي في "الخطط" (3/360)]. وقال الإمام ابن حزم: " الأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام: أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخَطْر في أنفسهم، حتى إنهم يسمون أنفسهم: الأحرار، والأبناء، وكانوا يَعُدُّون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتُحِنوا بزوال الدولة عنهم، على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة، في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله - سبحانه وتعالى - الحق، وكان من قائمتهم "منقاذ" و"المقنع" و"استابين"، و"دبابك" وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب "خداشا"، و"أبو مسلم السراج". فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستشناع ظلم علي- رضي الله عنه- [لم يقع على علي بن أبي طالب ظلم من الصحابة كما زعمته الرافضة، وإنما هو شيء اختلق للتشنيع والوصول إلى المقصد الخبيث]، ثم سلكوا بهم مسالك شتى، حتى أخرجوهم عن الإسلام، فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلاً يُنْتَظَر يُدْعى المهدي، عنده حقيقة الدين، إذ لا يجوز أن يؤخذ من هؤلاء الكفار. وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعوا له النبوة. وقوم سلكوا بهم المسلك الذي ذكرنا، من القول بالحلول، وسقوط الشرائع. وآخرون تلاعبوا بهم، فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة. وآخرون قالوا: بل هي سبع عشرة صلاة، في كل صلاة خمس عشرة ركعة. وهذا قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكندي: قبل أن يصير خارجياً صفرياً [يجوز أن يكون عبد الله هذا يهودياً، لم يشف حقده ما فعله من إفساده دين من أفسد دينه، فدخل في الخوارج ليروي ظمأ حقده بدماء المسلمين، فالله أعلم]. وقد سلك هذا المسلك أيضاً عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي (1)، فإنه لعنه الله، أظهر الإسلام ليكيد أهلَه، فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان - رضي الله عنه- وحَرْقِ علي بن أبي طالب طوائفَ أعلنوا بإلهيته [(1) إن فعل هذين الرجلين يدلنا على أن هناك منظمات تتعاون على حرب الإسلام من اليهود والمجوس وغيرهم، كما أشرت إليه قبل ذلك]. ومن هذه الأصول الملعونة، حدثت الإسماعيلية، والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة، قائلتان بالمجوسية المحضة، ثم مذهب "مزدك الموبذ"، الذي كان على عهد "أنو شروان بن قباذ"، ملك الفرس، وكان يقول بوجوب تساوي الناس في النساء، والأموال. قال أبو محمد: " فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوهم عن الإسلام كيف شاؤوا إذ هذا هو غرضهم فقط" ["الفصل" (2/115-116) وانظر "المحققة" (2/273-274)]. وهذا الذي ذكره أبو محمد ابن حزم - رحمه الله - ظاهر في أنه كان هناك جمعيات تنظيمية تخطط لهدم عقيدة المسلمين، بشتى الوسائل. قال البخاري - رحمه الله تعالى -: " حدثنا محمد بن عبد الله - أبو جعفر البغدادي- قال: سمعت أبا زكريا، يحيى بن يوسف الزمي، قال: كنا عند عبد الله ابن إدريس، فجاءه رجل، فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: أمِنَ اليهود؟ قال: لا، قال: فمن النصارى؟ قال: لا، قال: فمن المجوس؟ قال: لا، من أهل التوحيد، قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء الزنادقة من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله - تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم، فاللهُ لا يكون مخلوقاً، والرحمنُ لا يكون مخلوقاً، والرحيمُ لا يكون مخلوقاً. وهذا أصل الزندقة، من قال هذا فعليه لعنة الله، لا تجالسوهم، ولا تناكحوهم" ["خلق أفعال العباد" (ص30)]. وقال أبو سعيد الدارمي - رحمه الله تعالى -: " لم يزل {أهل الباطل} مقموعين أذلة، مدحورين، حتى كان الآن بآخرة، حيث قَلَّتْ الفقهاء، وقُبِضَ العلماء، ودعا إلى البدعِ دعاةُ الضلال، فشَدَّ ذلك طمعَ كلِّ متعَوِّذٍ في الإسلام من أبناءِ اليهود، والنصارى، وأنباط العراق، ووجدوا فرصةً للكلام، فجَدُّوا في هدم الإسلام، وتعطيل ذي الجلال والإكرام، وإنكارِ صفاتِه وتكذيبِ رسلِه، وإبطالِ وحيِه، إذ وجدوا فرصتهم، وأحَسُّوا من الرِّعَاعِ جهلاً، ومن العلماء قلة، فنَصَبُوا عندها الكفر للناس إماماً، بدعوتهم إليه، وأظهروا لهم أغلوطاتٍ من المسائلِ، وعِماياتٍ من الكلام، يغالطون بها أهل الإسلام، ليوقعوا في قلوبهم الشك، ويَلْبِسُوا عليهم أمرهم ويشككوهم في خالقهم، مقتدين بأئمتهم الأقدمين" ["الرد على الجهمية" (ص259) "عقائد السلف"]. وقال البخاري: " حدثني أبو جعفر، حدثن يحيى بن أيوب، قال: سمعت أبا نعيم البلخي، قال: كان رجلٌ من أهل "مرو" صديقاً للجهمِ، ثم قَطَعَه وجفاه، فقيل له: لم جفوته؟ فقال: جاء منه ما لا يُحْتَمل، قرأتُ يوماً آية كذا وكذا - نسيَها يحيى- فقال: ما كان أظْرَفَ محمداً، فاحْتَمَلْتُها، ثم قرأ سورة طه، فلما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [الآية 5 من سورة طه]، قال: أما والله لو وجدْتُ سبيلاً إلى حَكِّها لحككتها من المصحف، فاحتملتها، ثم قرأ سورة القصص فلما انتهى إلى ذِكْرِ موسى، قال: ما هذا؟ ذَكَرَ قصَّتَهُ في موضعٍ فلم يُتِمَّها، ثم ذكرها هاهنا فلم يتمها، ثم رمى المصحفَ من حِجْرِه برجليه، فوثبتُ عليه" ["خلق أفعال العباد" (ص46) ، وانظر: "عقائد السلف" (128-129)]. فهذه الوقائع - ومثلها كثير جداً - تدل على حقد دفين على هذا الدين، وأنه دخل في المسلمين الدخيلُ ذو القلبِ الموتور، والصدر الموغور، والنفس التي تأكلها نار عداوةِ الإسلام، ونبيِّ الإسلام، وأن هؤلاء يحاولون اجتثاث الإسلام من قلوب الناس، بالتشكيك في أصوله، وأنَّ كثيراً من علماء السلف علِمُوهم، وعرفوا أن مرادهم صد الناس عن الإسلام، وإفساد عقائدهم: وأنَّ تعاوناً يهودياً، ومجوسياً، ونصرانياً، وإلحادياً لم يزلْ ينتهزُ الفُرَصَ، جاهداً في إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نورَه. ولا شك أن الصراع بين الحق والباطل قديم، وأنه لا يخلو زمانٌ ولا مجتمعٌ من ذلك، وأن الله - تعالى - جعل للباطل هواةً ومحبينَ، ينفقون أموالهم ويبذلون نفوسهم في الدفاع عنه، كما جعل للحق أنصاراً، وهذا أمرٌ ظاهرٌ، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [الآية 76 من سورة النساء]. وإذا كان الإنسان متظاهراً بمساندةِ الباطلِ ونُصرَتِه، فأمره أسهلُ ممن يُخْفي ذلك، ويتظاهر بالخير والإيمان، وهو من أبعدِ الناس عنه، وأشدِّهم عداوةً له، وإنما مَقْصِدُه معرفةَ مواطنِ الضَّعفِ من الإسلام وأهله، والمداخلِ التي تَنْفُذُ سُمُومُهُ منها فيهم، ثم يرميهم بكل ما يستطيع. وربما يكون هناك تنظيمات تَلبَسُ لِبَاسَ العلمِ والمعرفة، والإصلاح، والتجديد، والمقصودُ منها القضاءُ على الدين، وهم ينَوِّعون أساليبهم في كل وقت بما يناسبُه، وإن مصائب الإسلام بهؤلاء وأمثالهم، من فجره إلى يومنا هذا تتوالى





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©