{
7- العقيدة الإسلامية : اليقين الإخباري - الخبر الصحيح لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
موقف الإنسان وحركته في الحياة وفق عقيدة يتمسك بها:
قد بينت سابقاً أن الإنسان حينما يتحرك في الحياة يفعل هذا الشيء أو لا يفعله, يقف من هذا الموضوع موقفاً معادياً أو مؤيداً، يمارس هذا الشيء ويمتنع عنه، هذه المواقف المتعددة المتنوعة المتباينة ما الذي يتحكم فيها ؟ وما الذي يحكمها ويسيرها ويفرض رائعها ؟ شيء واحد خطير جداً في مصطلح الفقهاء إنها العقيدة، وفي مصطلح علماء النفس: هي المفاهيم، فإذا سرتم في الطريق وأنتم تركبون سيارة فقد ترون إنساناً يجري في الطريق وقد يلبس ثياباً خفيفة، ما الذي يجعله يجري ؟ حيث الجو البارد لا يتوافق مع راحة الجسم فأن يبقى في الفراش ينعم بالدفء أوفق لهذا الجسم من أن يخرج وتجري، ولماذا يجري ؟ لأن في أعماقه مفهوماً أن الجري يقوي القلب و يدفع عنه الآفات و يُليّن ويقوي العضلات، و حسب تفكير بعض الناس يمده بالحياة، هذا كله تحركه العقيدة، فالمؤمن يقوم ويصلي وقد يمتنع عن شيء نهاه الله عنه ما السبب ؟ إنها العقيدة.
مناط ا لعقيدة في الإنسان هو ا لعقل الذي مصبه في القلب:
هذه العقيدة لها منافذ أو قنوات صحيحة تسلك منها الأفكار إلى هذه المنطقة العميقة في الإنسان والتي إن صح التعبير نسميها منطقة العقل وقد قال الله عز وجل:
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾
( سورة الحج الآية: 46)
فمنطقة العقل في الإنسان هي القلب وقد بيّنا في درس سابق أن هناك إحساساً وأن هناك إدراكاً وأن هناك مفهوماً وأن هناك عقلاً, وأنت تحس أن الشمس ساطعة، إذ تتأثر شبكية العين بالضوء الذي تصدره الشمس فينتقل هذا الإحساس إلى الدماغ، والدماغ عنده ذاكرة، وهذه الذاكرة تنبه بأنَّ الشمس ساطعة وهذا ينتقل إلى المفهوم, ومفهوم الشمس عنده واضح ثم ينتقل إلى المنطقة العميقة في الإنسان وهي العقل, و حينما يسير في الصيف تحت أشعة الشمس المحرقة يأخذ معه مظلة أو يضع على رأسه ستراً، إذ يخاف ضربة الشمس بحسب المفاهيم.
مصادر العقيدة الإسلامية:
تحدثت فيما سبق أن هناك يقيناً حسياً و يقيناً إخبارياً ويقيناً إستدلالياً, فاليقين الحسي: شيء واضح جداً فحينما تحس أن هذه المدفأة لها حرارة تستيقن أنها مشتعلة, أما الاستدلالي: فهذا ينفرد بالإنسان، لأن الحيوان يتعامل مع المحسوسات إذ يخاف بعينيه, أما الإنسان المفكر فيخاف بفكره، فالطالب في أول أيلول يدرس رغم أنه لا يوجد فحص ولا شيء يدعو للدراسة لكنه يتصوّر الامتحان شامل قبل سنة ويتصوّر الموقف العصيب وتوزيع الأسئلة ولا يدري كيف تأتي النتيجة السيئة عند الناس، دراسته مبنية على يقين استدلالي، فالشيء الذي تبحث عنه إما أنه ظاهر لحواسك فيقينك به يقين إحساسي أو حسي, وإما أنه غاب عنك وبقيت آثاره فإذا بقيت آثاره فاليقين به قطعي 100 % لكنه يقين استدلالي, كما تستدل على أن في الأسلاك كهرباء من تألق المصباح، وكما تستدل على أن في الأشرطة تياراً كهربائياً من حركة المروحة، والإنسان فيه روح من حركته، و أن لهذا الكون خالقاً عظيماً من آثاره، فالإيمان بالله إيمان تحقيقي فالقناة الأولى يقين حسي عن طريق الحواس، والقناة الثانية عن طريق الفكر، والقناة الثالثة عن طريق الخبر الصادق الصحيح والخبر الصحيح عند المسلم يرقى إلى مرتبة اليقين بشرط أن يتحقق من صحته.
الفرق بين المؤمن وغيره تملكه الرؤية الصحيحة:
فالدرس اليوم عن القناة الثالثة التي تصل إلى منطقة العقيدة أو إلى القلب الذي هو مناط العقل والقلب هو الذي يحرك الإنسان نحو اتخاذ مواقف معينة من موضوعات معينة, والإنسان عبارة عن مجموعة مواقف, لو أن أي إنسان على وجه الأرض يملك عقلاً لحقيقة الزنا كما ملكه سيدنا يوسف لأحجم كما أحجم، و لو أن أي إنسان على وجه الأرض رأى من نِعم الله ومن كمالات الله ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لحمد الله كما يحمد النبي ربه, فالأزمة رؤية, أما الفطرة فواحدة وهؤلاء البشر على تعددهم واختلاف مشاربهم، وتنوع بيئاتهم وأصولهم وفروعهم وأجناسهم وعاداتهم وتقاليدهم إنهم جميعاً مفطورون فطرة واحدة، فلو أُتيح لأشقى الناس أن يرى ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم لحَمِدَ الله حمده، ولأحبَ الله حبه، ولكان ورعاً ورعه، ولعَمِلَ صالحات كما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأزمة كلها أزمة معرفة " وأعدى أعداء الإنسان الجهل وخير أصدقائه المعرفة " فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم, وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم, وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، وهؤلاء المتحدثون، و الفُجّار، والكفار، والملحدون، لو رأوا ما رأى المؤمنون لكانوا مثلهم، والفرق بينهم وبين المؤمنين هي الرؤية فإما أن تملك رؤية صحيحة وإما أن لا تملكها فإذا ملكت هذه الرؤية سعدت وأسعدت وإن لم تملكها شقيت وأشقيت.
وعلى مستوى حياتنا الاجتماعية هذا الذي يأكل مالاً حراماً اغتصب مالاً لأيتام لو أيقن أن الله سبحانه وتعالى لابد من أن يدمره وماله لا يأكل هذا المال, فالذي يأكل إذاً أعمى والذي لا يأكل مبصر, وقال الله عز وجل: " فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ " أقول دائماً أحب نفسك فإذا أحببتها تخاف عليها من العطب والهلاك وتسعى إلى سلامتها وتبتغي سعادتها، وإذاً تستقيم على أمر الله فلو أنك أحببت نفسك حباً مبصراً لاستقمت على أمر الله فطرة الله التي فطر الناس عليها، و نحن جميعاً لنا فطرة واحدة والخلافات بين البشر وبين الأفراد وبين الشعوب خلافات شكلية لا قيمة لها, " يا داوود ذّكر عبادي بإنعامي عليهم فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
انحراف الناس لفقدان تبصرهم في قلوبهم:
أخطر منطقة في الإنسان منطقة القلب الذي هو مناط العقيدة والاحساس وإدراك العقل، والعقل الذي مناطه القلب هو الذي يحركه وهو الذي يجعلك تأكل أو لا تأكل، وتمشي أو لا تمشي، وتفعل أو لا تفعل، وتقبض أو لا تقبض، وتؤذي أو لا تؤذي، فالذي يؤذي أعمى لا يرى أن لهذا الذي يؤذيه رباً لن يفلت من يده، أما المبصر الذي يرى أن الله قادر على كل شيء وسوف يدفع الثمن باهظاً إذا أذى, فالذي أرجوه وأرجو الله أن يتفضل به علينا هو هذه الرؤية الصحيحة إذا رأيت رؤية صحيحة حُلّت كل المشكلات, فإن كان في القلب عمى وقع الإنسان في متاهات لا نهاية لها، وبعض الآيات التي تؤكد أن لهذه العقيدة الراسخة التي مناطها في القلب مسالك ومن هذه المسالك قوله تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
( سورة البقرة الآية: 164)
إذا توصلت إلى معرفة الله استقمت على أمره:
من أعطى هذا الماء قوة الدفع نحو الأعلى, أمسك بوعاء ماء واغمسه في بحرة يذهب جزء كبير جداً من وزنه، أين ضاع هذا الوزن ؟ ضاع في الماء قوة تدفع نحو الأعلى ولولا هذه القوة لما كان هناك ملاحة بحرية إطلاقاً، فهذه الملاحة البحرية هي التي تنفع الناس وتنقل حاجاتهم وبضائعهم وغذاءهم وحوائجهم وكل ما يحتاجونه من قارة إلى قارة بفضل هذه القوة التي أودعها الله عز وجل في الماء وهي قوة الدفع نحو الأعلى.
" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " فاختلاف الليل والنهار، بسبب هذا المحور المائل إذ ميله جعل هناك ليلاً، ودوران الأرض حول نفسها جعل هناك ليلاً ونهاراً, فلو أن المحور قائم على مستوى الدوران لما كان هناك اختلاف في طول الليل والنهار على مر الأيام ولكان النهار اثنتي عشرة ساعة، والليل اثنتي عشرة ساعة إلى الأبد ولولا ميل هذا المحور لما كان هناك فصول، فاختلاف الليل والنهار، نشأ الليل والنهار ونشأ اختلافهما ونشأت الفصول, قال الله " وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " إذا عقلت أن هذه الآيات دالة على عظمة الله وأن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء وأنه لا معبود سِواه استقمت على أمره قال الله:
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾
( سورة الروم الآية: 8)
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ﴾
( سورة الإسراء الآية: 36)
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©