السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حرمة سفك الدماء

الخطبة الأولى:


الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في السماء ملكه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر عظمته، وفي الجنة رحمته، وفي النار سطوته، وفي كل شيء آيته وحكمته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لهذه الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.


أما بعد:


فاتقوا الله عباد الله! وعظموا أمره، واشكروا نعمه، وحافظوا على فرائضه، واجتنبوا معاصيه.


عباد الله! إن توفر الأمن ضرورة من ضرورات الحياة، قد تفوق ضرورة الغذاء والكساء، بل إنه لا يستساغ طعام إذا فُقد الأمان، والأمان في حقيقته ومعناه لا يكون إلا مع الإيمان، والسلام في ماهيته لا يكون إلا مع الإسلام، قال الله - تعالى-:{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} الأنعام (82).


ومن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن والأمان، قال عليه الصلاة والسلام: "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله – عز وجل".


أيها المسلمون! إننا وفي هذه الأزمنة المتأخِّرة التي أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم-:أن فيها يكثر الهَرْج قالوا: يا رسول الله وما الهرج؟ قال:" القتل" وهذا ما قد رأيناه واقعاً في حياة كثير من المسلمين – والعياذ بالله- فلقد سمعنا وقرأنا في كثير من وسائل الإعلام عن انتشار مثل هذه الظاهرة الخطيرة – ألا وهي القتل والاقتتال وسفك الدماء بدون حق، فلربما قتل الجارُ جارَهُ لأتفه الأسباب، ولربما قتل الأبُ ابنه لأنه لم يمتثل أوامره والابن أباه- والعياذ بالله - ولربما قتل المسلم أخاه المسلم على قطعة من الأرض، ولربما قتل...- ولا حول ولا قوة إلا بالله-.


أمة الإسلام! لتعلموا أن الله – عز وجل- أكرم عبده المؤمن أيما إكرام، فلقد جعل له حرمة عظيمة، ومكانة عالية، وحرم التعرض له بأي نوع من أنواع الأذى، فقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". فكما أنه لا يحل إيذاء المسلم في عرضه بالانتهاك والانتقاص وغير ذلك، فكذلك لايحل سفك دمه وإهراقه بغير إذن شرعي ولا التسبب في ذلك، بل إن دم المسلم من أعظم وأجل ما ينبغي أن يُصان ويُحفظ، قال القرطبي- رحمه الله-: والدماء أحق ما احتيط لها؛ إذ الأصل صيانتها في أهبها، فلا نستبيحها إلا بأمرٍ بين لا إشكال فيه.


وتعظيماً لأمر قتل النفس بغير حق، وبياناً لشدة خطره، والتحذير منه، وتوعد من أقدم عليه، جاءت الآيات الكريمات، والأحاديث الصحيحات بالنهي عن ذلك، قال الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النساء (93) قال الإمام العلامة السعدي- رحمه الله-: وذكر هنا وعيد القاتل عمداً وعيداً ترجف له القلوب، وتنصدع له الأفئدة، وينزعج منه أولو العقول، فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزءاه جهنم، أي فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجنهم بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار، فيا عياذاً بالله من كل سبب يُبعد عن رحمته...


وقال تعالى في وصف عباده المتقين: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} الفرقان(68-69-70).


فقرن قتل النفس بغير حق بالشرك به، وذلك بياناً لعظم هذا الذنب.


وأخبر جل وعلا أن مما حرمه على عباده قتل النفس بغير حق، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}الأنعام 151.


وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}المائدة (32) قال ابن عباس – رضي الله عنه -: {من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}. فإحياؤها لا يقتل نفساً حرمها الله، فذاك أحيا الناس جميعاً، يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعاً. رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصله الطبري وابن أبي حاتم.


وقال سعيد بن جبير: مَن استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً، ومن حرَّم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً.


وعن سليمان بن علي الربعي قال: قلت للحسن: من أ جل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس .. } الآية أهي لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: أي والذي لا إله غيره؛ كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.


وقال – صلى الله عليه وسلم -: " أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" رواه البخاري ومسلم.


أيها المسلمون! لقد أكد نبيكم – صلى الله عليه وسلم – في خطبته المشهورة – حرمة سفك دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فعن أبي بكرة – رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال: " أي يوم هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: " أليس ذو الحجة؟" قلنا: بلى، قال: "أتدرون أي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس بالبلدة؟" قلنا: بلى، قال: " فإن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا، وفي شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟" قالوا: نعم، قال: "اللهمّ اشهد، ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغٍ أوعى من سامع، ألا فلا ترجعُن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" رواه البخاري ومسلم. وقد جاء أيضاً من حديث ابن عباس وابن عمر في البخاري، وعند مسلم من حديث جابر.


وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:" اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال:" الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق..." رواه البخاري ومسلم.


وعن ابن عمر – رضي الله عنهما- عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:" مَن حمل علينا السلاح فليس منا" رواه البخاري ومسلم.


وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة" رواه البخاري ومسلم.


أمة محمد – صلى الله عليه وسلم -! لقد نظر ابن عمر إلى الكعبة حيث الجمال والجلال والكمال والهيبة والحرمة فقال:
ما أعظمك! وما أشد حرمتك، ووالله للمسلم أشد حرمة عند الله منك.


وقال ابن عمر: إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله. رواه البخاري.


وعند البخاري - أيضاً - عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً".


وأعظم من ذلك كله ما جاء عند أحمد والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله علبه وسلم قال:" يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني حتى يدنيه من العرش".فماذا عسى أن يكون الجواب عند سؤال رب الأرباب ؟!!.


وعن عبد الله بن مسعود - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة آخذاً رأسه بيده، فيقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني؟ قال فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له بؤ بإثمه، قال: فيهوى في النار سبعين خريفاً".


فإياك قتل النفس ظلماً لمؤمن فذلك بعد الشرك كبرى التفسد


كفى زاجراً عنه توعدُ والتقى بنفي متاب القاتل المتعمد


أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والمؤمنات من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.


العلاّمة السعدي رحمه الله




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©