الجواب عن أهم أدلة المخالفين الذين يكفرون الحكام بغير ما أنزل الله


من غير تفصيل



وهي أربعة عشر دليلاً




الدليل الأول


قول الله تعالى : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ المائدة 44 ] .

فإن قيل : إن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر بنص الآية .

فالجواب : أن الكفر هنا هو الكفر الأصغر لا الأكبر ، وبرهان ذلك ثلاثة أمور :

1. إجماع أهل السنة على أن الآية ليست على ظاهرها ، وقد تقدم ( ص 24 ) .
2. تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد تقدم ( ص 42 ) .
3. تفسير بعض التابعين([1]) ( = أصحاب ابن عباس رضي الله عنه ورحمهم ) ، وقد تقدم
( ص 41 ) ، ولا يعلم لهم مخالف من عصرهم .

ثم إن قيل : الأصل عند الإطلاق انصراف الكفر للكفر الأكبر .

فالجواب : أن هذا الإيراد لا ثمرة منه ؛ لأنه جاء ما يجعل المراد بالكفر في الآية : الكفر الأصغر ، وهو تفسير ابن عباس وبعض أصحابه .

ثم إن قيل : قد استقرأ ابن تيمية رحمه الله لفظ ( الكفر ) المعرَّف بـ ( أل ) فوجدأنه
لا يأتي إلا أريد به الكفر الأكبر ، فقال : « والكفر المعرَّف : ينصرف إلى الكفر المعروف ، وهو المخرج عن الملة » ( « شرح مفصل العمدة » ، قسم الصلاة ص 82 ) .

فالجواب : أن استقراءه رحمه الله جاء على المصدر ( الكفر ) بينما جاءت الآية باسم الفاعل( الكافر ) وفرق بينهما ؛ إذ المصدر يدل على الفعل وحده ، أما اسم الفاعل فهو دال على الفعل وعلى من قام بالفعل ( = الفاعل ) .
لذلك فقد جعل ابنُ تيمية – نفسه – القولَ بأن المراد بالكفر في الآية هو الكفر الأصغر ؛ قولاً لبعض أئمة السنة ، بل لعامة السلف ، وتقدم كلامه ( ص 44 ) .

قال ابن عثيمين رحمه الله : « مِن سوء الفهم قول مَن نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال ( إذا أُطلق الكفر فإنما يراد به كفر أكبر ) ؛ مستدلاً بهذا القول على التكفير بآية


(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [ المائدة 44 ] ! مع أنه ليس في الآية أن هذا هو ( الكفر ) ! وأما القول الصحيح عن شيخ الإسلام فهو تفريقه رحمه الله بين ( الكفر ) المعرَّف بـ ( أل ) و ( كفر ) مُنكّراً . فأما الوصفُ فيصلح أن نقول فيه ( هؤلاء كافرون ) أو ( هؤلاء الكافرون ) بناءً على ما اتصفوا به من الكفر الذي لا يخرج من الملة ، ففرْق بين

أن يوصف الفعل وأن يوصف الفاعل »
( فتنة التكفير ص 25 ، حاشية 1 ) .




الدليل الثاني


قوله تعـالى : ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ النساء 65 ] .

فإن قيل : إن الله نفى الإيمان عمن لم يحكّم الالشريعة الاسلامية ، وهذا يقتضي الكفر .

فالجواب : أن المنفي هو كمال الإيمان لا أصله ( = لا كله ) ، فالآية تحكم بنقص الإيمان لا بزواله .

وبيان ذلك : أن نفي الإيمان جاء في الالشريعة الاسلامية وأريد به نفي الكمال لا نفي الأصل .

ومن أمثلة ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم :« لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » ( البخاري 13 ، مسلم 168 ) . و قوله صلى الله عليه وسلم : « والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن » . قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال : « الذي لا يأمن جاره


بوائقه »
( البخاري 6016 ) .

* أقول : فإذا عرفت أن نفي الإيمان يأتي في الالشريعة الاسلامية ويراد به نفي الكمال ، وعرفت
أن هذا الاحتمال يوجب التأنّي في التكفير بهذه الآية ؛ فاعلم أنه جاء ما يصرف الإيمان المنفي في الآية من الأصل إلى الكمال ، ومن هذه الصوارف صارفان اثنان :



الصارف الأول : أن نفي الإيمان في الآية جاء في حق ثلاثة :

1. من لم يحكّم الرسول صلى الله عليه وسلم .
2. من وجد في نفسه شيئاً على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم .
3. من لم يسلّم بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم .

* أقول : فمن جعل المنفي هو أصل الإيمان ( = كله ! ) لزمه أن يكفر هؤلاء الثلاثة ، مع أنه جاء ما يدل على عدم كفر الثاني والثالث ، ومن هذه الأدلة دليلان ظاهران :

أما أولهما فما قال أنس بن مالك رضي الله عنه : لـمّا فُتحت مكة قسم الغنائم في قريش ، فقالت الأنصار : إن هذا لهو العجب ! إن سيوفنا تقطر من دمائهم ، وإن غنائمنا ترد عليهم ! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم ، فقال : « ما الذي بلغني عنكم ؟ » . قالوا : « هو الذي بلغك » ، وكانوا لا يكذبون . قال : « أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم ، وترجعون برسول الله إلى بيوتكم ؟ لو سلك الناس وادياً أو شِعْباً وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً ؛ لسلكتُ وادي الأنصار أو شعب الأنصار »
( البخاري 3778 ، مسلم 2437 ) . قـالوا : « يا رسـول الله ؛ قد رضينا »
( البخاري 4331 ، مسلم 2438 ) .. فرض رائعي الله عن الأنصار وعن جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأرضاهم ، فما أبرهم وأصدق إيمانهم وأحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما ثانيهما فحديث عائشة رضي الله عنها : أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جئنه يناشدنه العدلَ في بنت أبي قحافة ( = عائشة رضي الله عنها ) ( البخاري 2581 ، مسلم 6240 ) .. فرض رائعي الله عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأرضاهن .

* أقول : فإن كان المنفي عن الثاني والثالث هو الكمال ؛ فلا بد أن يكون كذلك في حق الأول ، وإن كان الثاني والثالث لا يكفران ؛ فالأول كذلك سواء بسواء ؛ لأن الوعيد الوارد في حقهم واحد .

وإنْ قارنتَ هذا بقول ابن تيمية رحمه الله : « وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله » ( منهاج السنة 5/131 ) فقد تجلّى لك الأمر .

الصارف الثاني وفيه مبحث دقيق : أن الآية نزلت في رجل أنصاري بدري ، والبدريون محفوظون من الوقوع في الكفر الأكبر ، وذلك أنه جرت بين الزبير وذاك الرجل رضي الله عنهما خصومة ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء أغضب الأنصاري فقال : أنْ كان ابن عمّتك ؟! ( أخرج القصة البخاري : 2359 ، 2362 ، 2708 ، 4585 ، ومسلم 6065 ، وأبو داود 3637 ، والترمذي 1363 ، والنسائي 5431 ) .

فانظر كيف غضب ذلك البدري رضي الله عنه ولم يقع منه التسليم الكامل بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر ؟

قال ابن باز رحمه الله تعليقاً على قول الله تعالى : ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ النساء 65 ] :
« فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها [ أي : الالشريعة الاسلامية ]
، أو قال : ( إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء ) ، أو : ( إلى الأجداد ) ، أو : ( إلى القوانين الوضعية التي وضعها الرجال ) ، سواء كانت شرقية أو غربية ، فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه ، ويكون بذلك كافراً كفراً أكبر ... أما الذي يرى أن الواجب تحكيم شرع الله ، وأنه

لا يجوز تحكيم القوانين ولا غيرها مما يخالف شرع الله ، ولكنه قد يحكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ضد المحكوم عليه ، أو لرشوة ، أو لأمور سياسية ، أو ما أشبه ذلك من الأسباب ، وهو يعلم أنه ظالم ومخطئ ومخالف للشرع ؛ فهذا يكون ناقص الإيمان ، وقد انتفى في حقه كمال الإيمان وهو بذلك كافر كفراً أصغر ، وظالم ظلماً أصغر ، وفاسق فسقاً أصغر » ( الفتاوى 6/249 ) .

بل قال ابن تيمية رحمه الله : « كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك فإنما يكون لترك واجب من ذلك المسمى ، ومن هذا قوله تعالى : ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ النساء 65 ] فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية ؛ دل على أن هذه الغاية فرض رائع على الناس ، فمن تركها كان من أهل الوعيد لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وُعِد أهله بدخول الجنة بلا عذاب » ( الفتاوى 7/37 ) .

وقالرحمه الله : « فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب كامل والسنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته كقوله تعالى ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ النساء 65 ] » ( الفتاوى 22/530 ) .

فإن قيل : فما الدليل على حفظ الله لأهل بدر من الوقوع في الكفر ؟

فالجواب : أن الله تعالى قد أوجب لهم الجنة ، كما في قصة حاطب رضي الله عنه إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقهم :« لعل الله اطلع عليهم فقال : اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة » ( البخاري 6939 ) .

* أقول : فمن لم يقل بخصوصيتهم وحفظ الله لهم من الوقوع فيما يخرج من ملة الإسلام ؛ فقد أوجب تعارض الحديث مع قول الله تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ النساء 48 ، 116 ] ، وذلك أن الكفر والشرك الأكبرين لا يغفران ، وأن الله أوجب لأهل بدر الجنة .

فإن قيل : ألا يحتمل أن يقع أحد من أهل بدر في الكفر لكنه يُوفّق للتوبة من ذلك الكفر فيموت على التوبة فيدخل الجنة ، فلا تتعارض النصوص ؟

فالجواب من وجهين :

1. أن الله قد غفر لأهل بدر ، ولم يُقيِّد ذلك الغفران بالتوبة ، والواجب إعمال هذه الفضيلة في حقهم على إطلاقها وعدم تقييد ما أطلقه الله تعالى .

2. ولو قيل بهذا لعطّلنا تلك الفضيلة ! ولما كان لشهودهم بدراً مزية ! وذلك أن أهل العلم متفقون على أن جميع الذنوب – حتى الكفر – تغفر بالتوبة . ولو كان ذنب أهل بدر مغفوراً لهم إذا تابوا منه ! لما كان لذلك الفضل ما يميّزهم عن غيرهم .

وأختم هذا المبحث بقول ابن تيمية رحمه الله :« قوله لأهل بدر ونحوهم : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) : إن حُمِل على الصغائر ، أو على المغفرة مع التوبة : لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم ، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد عُلم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة ؛ لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفَّرة باجتناب الكبائر » ( الفتاوى7/490 ) .

فإن قيل : إن الآية تنفي الإيمان عمن لم يتحاكم إلى الالشريعة الاسلامية ولا يلزم من ثبوت هذا الحكم أن يكفر ذلك الصحابي لأن الحكم على المعيَّن له شروط وموانع .

فالجواب : أن هذا الصحابي المعيَّن له تميّز على غيره بأن النص قد نزل فيه ولا وجه لتفسير الآية بدون النظر فيمن نزلت ، فمع أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أنه لا خلاف في دخول من نزل فيه النصُّ دخولاً أوَّلياً .

قال ابن تيمية رحمه الله : « والآية التي لها سبب معين ؛ إن كانت أمراً أو نهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته ، وإن كانت خبراً بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته أيضاً » ( الفتاوى 13/339 ) .

وقال ابن القيم رحمه الله : « فلا يخرج محلُّ السبب عن الحكم ، ويتعلق بغيره » ( زاد المعاد 5/317 ) .

بل قد نقل الزركشي رحمه الله حكاية بعضهم الإجماع على ذلك فقال : « فإن محلَّ السبب لا يجوز إخراجه بالاجتهاد بالإجماع كما حكاه القاضي أبو بكر في مختصر التقريب ؛ لأن دخول السبب قطعي » ( البرهان 1/117 ) .


الدليل الثالث


قولـه تعــالى :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[ النساء 60 ] .

فإن قيل : إن من تحاكم إلى غير الالشريعة الاسلامية فقد كفر ؛ لأن الله قد حكم عليه بالنفاق .

فالجواب من وجهين :

الوجه الأول : صحيح أن الآية جاءت في شأن المنافقين ، لكن معناها محتمل لأمرين :

1. أن إيمانهم صار مزعوماً ( = أنهم صاروا منافقين ) لكونهم أرادوا الحكم بالطاغوت ، وهذا ما يتمسك به المخالف .

2. أن من صــفات أهـل الإيمان المزعـوم ( = المنافـقين ) أنهم يريدون التحـاكم للطاغـوت ، ومشـابهة المؤمـن للمنافـقين في صـفة من صـفاتهم كالكـذب -
لا توجب الكفر ، فعلى هذا ؛ فإن من حكم بغير ما أنزل الله فقد شابه المنافقين
في صفة من صفاتهم ، وهذا لا يوجب لهم الكفر إلا بدليل آخر .

* أقول : وإذا ورد الاحتمال في أمر بين كونه مكفراً أو غير مكفر ؛ لم يُكفَّر به ؛ لأن التكفير لا يقوم على أمر محتمل ، بل لا يبنى إلا على اليقين ، فوجب الاحتياط فيه ،
لا سيما وأنه لم يدل دليل على أن الحكم عليهم بالنفاق إنما جاء بسبب تحاكمهم
لغير الله .

الوجه الثاني : أن إرادة هؤلاء ليست إرادة مطلقة ، بل هي إرادة خاصة فيها ما ينافي الكفر به ، ومن لم يعتقد وجوب الكفر بالطاغوت فلا شك في كفره الكفر الأكبر.

قال الطبري رحمه الله : «﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[ النساء 60 ]يعني بذلك جل ثناؤه:"ألم تر"، يا محمد، بقلبك، فتعلم = إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك من الكتاب كامل، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب، يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت = يعني إلى: من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله، ﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ"، يقول : وقد أمرهم أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكمون إليه فتركوا أمر الله واتبعوا أمر الشيطان » .. ( تفسيره 5/96 ) .


الدليل الرابع


قولـه تعــالى : ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[ الأنعام 121 ] .

فإن قيل : إن من أطاع غير الله فيما يخالف أمر الله فقد أشرك .

فالجواب من وجهين :

1. أن ظاهر الآية يوهم بأن كل طاعة شرك ، وهذا غير مراد ، بل لم يقل به أحد ، فـ :

2. الطاعة المرادة – هنا – هي الطاعة في التحليل والتحريم ؛ يعني أنه يوافقهم فيعتقد حلَّ الحرام وحرمة الحلال ، قال عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله :
« وتأمل قولـه تعـالى : ﴿


وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[ الأنعام 121 ] ؛ كيف حكم على أن من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرم الله أنه مشرك » .. ( عيون الرسائل 1/251 ) .



الدليل الخامس


قوله تعالى : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ الشورى 21 ] .

فإن قيل : إن الحاكم بغير ما أنزل الله مشارك لله تعالى في حكمه فهو كافر .

فالجواب : أن الآية لا تدل إلا على كفر المبدِّل ، وذلك أنها كفَّرت من جمع بين وصفين :

1. التشريع .. ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ .
2. والنِّسبة للدِّين .. ﴿ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ .

* أقول : وهذا هو المسمى بالتبديل وتقدم أنه كفر بالإجماع ( ص 20 ) .



الدليل السادس


قوله تعالى : ﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا[ الكهف 26 ] .

فإن قيل : إن الحاكم بغير ما أنزل الله قد جعل نفسه مشاركاً لله في حكمه فهو كافر .

فالجواب من وجهين:

1. لا يُسلّم بأن الحاكم بغير ما أنزل الله مشارك لله في حكمه في كل الحالات ؛ وذلك أنه إذا نسب ما جاء به للدّين ( = المبدل ) أو اعتقد أنه يجوز له أن يحكم بغير
ما أنزل الله ( = المستحل ) ؛ فهو مشارك لله في حكمه ، أما من عداهما فلا يدخل
في هذه الآية .

2. أن من خالف في هذا وأخذ الآية على عمومها لزمه التكفير بكل صور الحكم بغير ما أنزل الله ؛ على أنها مشاركة الله في حكمه ، وإجماع أهل السنة على عدم كفر الجائر ( ص 21 ) كاف في رد هذا الفهم .


الدليل السابع


قوله تعالى : ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ[ الأنعام 57 ، يوسف 40 ، 67 ] .

فإن قيل : إن من وضع أحكاماً من عنده فقد نازع الله في أمر خاص به فهو كافر .

فالجواب من ثلاثة أوجه :

1. لا يُسلّم بأن الحاكم بغير ما أنزل الله يكون منازعاً لله تعالى في الحكم بمجرد فعله من دون أن يدّعي لنفسه الحقَّ في ذلك .

2. من خالف هذا لزمه تكفير الجائر الذي أجمع أهل السنة على عدم كفره ( ص 21 ) .

3. ومن خالف في هذا لزمه – كذلك – تكفير المصور الذي أجمع أهل السنة على عدم كفره ( انظر ص 29 ) .


الدليل الثامن


قوله تعالى : ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ[ التوبة 31 ] .

فإن قيل : إن أهل الكتاب كامل لـمّا أطاعوا علماءهم وعبَّادهم في حكمهم بغير ما أنزل الله وصفهم الله بأنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله ؛ فهذا الاتخاذ شرك .

فالجواب : أن طاعة الأحبار والرهبان لا تخرج عن حالتين :

1. طاعتهم في اعتقاد حل ما حرم الله وحرمة ما أحل الله ؛ وهذا كفر مخرج من الملة
بلا خلاف .

2. طاعتهم في معصية الله بدون اعتقاد حل ما حرم الله ولا حرمة ما أحل الله ؛ وهذا ليس بكفر قطعاً ؛ لأنه لا دليل على التكفير به ، كما يلزم منه تكفير أهل الذنوب الذين أطاعوا أهواءهم أو من دعوهم لمقارفة الذنوب ، ويلزم منه تكفير من اتفق أهل السنة على عدم كفره ؛ كالذي أطاع الزوجة والولد في معصية الله .

قال ابن تيمية رحمه الله :« وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعـوهم في تحليـل ما حـرم الله وتحـريم مـا أحـل الله يكونـون على وجهـين :
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدَّلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ؛ فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل ؛ فهذا كفر ... والثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام([2]) ثابتاً ؛ لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعله أهل المعاصي التي يُعتقد أنها معاص ؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب » ..


( الفتاوى 7/70 ) .



الدليل التاسع


قوله تعالى : ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[ الشورى 10 ] .

فإن قيل : إن من تحاكم لغير الله فقد خالف ما أمر الله عز وجل .

فالجواب : أن الآية تدل على وجوب التحاكم إلى الالشريعة الاسلامية ؛ وهذا ما لا اختلاف فيه ، كما لا اختلاف في أن هؤلاء المحكّمين غير ما أنزل الله آثمون وواقعون في ذنب عظيم ؛ لكنْ ليس في الآية دلالة على التكفير .


الدليل العاشر


قوله تعالى : ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[ المائدة 50 ] .

فإن قيل : إن الله وصف الحكم بغير الالشريعة الاسلامية بأنه حكم الجاهلية ؛ وهذا يعني أنه كفر .

فالجواب : إن إضافة الشيء إلى الجاهلية ، أو وصفه بأنه من أعمال أهل الجاهلية ؛
لا يلزم منها الكفر .

وبرهان ذلك : أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه لـمّا عيّر رجلاً: « إنك امرؤ فيك جاهلية » .. ( البخاري 30 ، مسلم 4289 ) . كما وصف أموراً – اتفق أهل السنة على عدم التكفير بها – بأنها من أعمال الجاهلية ، منها : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت .. ( مسلم 2157 ) .

* أقول : فمن قال بالتلازم بين : النسبة للجاهلية والكفر ؛ لزمه التكفير بما اتفق أهل السنة على عدم التكفير به ؛ وهو : تعيير المسلم ، والطعن في الأنساب ، والنياحة .

قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله : « ألا تسمع قوله : ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[ المائدة 50 ] ؟ تأويله عند أهل التفسير : أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية ، إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون ، وهكذا قوله : ( ثلاث من أمر الجاهلية : الطعن في الأنساب ، والنياحة ، والأنواء ) ... ليس وجوه هذه الآثار كلها – من الذنوب – أن راكبها يكون جاهلاً ! ولا كافراً ! ولا منافقاً ! ... ولكن معناها : أنها تتبيَّن من أفعال الكفار ، محرّمة منهي عنها في الكتاب كامل والسنة » .. ( الإيمان ص90 ) .

وقال البخاري رحمه الله : « باب : المعاصي من أمر الجاهلية ، ولا يكفر صاحبها
بارتكابها ؛ إلا الشرك ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إنك امرؤ فيك جاهلية » وقول الله تعالى : ﴿


إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ النساء 48 ، 116 ] » .. ( « صحيحه » قبل الحديث رقم 30 ) .


الدليل الحادي عشر


سـبب نزول قـوله تعـالى : «﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [ النساء 60 ] ، قال الشعبي رحمه الله :كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة . وقال المنافق : نتحاكم إلى اليهود ، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ، فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه فنزلت الآية ( الواحدي في « أسباب النزول » ص 119 ) .

فإن قيل : إن الله حكم عليهم بالنفاق لتحاكمهم إلى الكاهن .

فالجواب من وجهين :

1. أن هذا الحديث ضعيف ؛ لأن الشعبي رحمه الله من التابعين فهو مرسل .

2. لو صح الحديث ؛ فإن الآية نزلت في شأن منافق ، وتحقّق صفة من صفات المنافقين في مسلملا يلزم منه وصفه بالنفاق الأكبر ؛ إلا أن يدل دليل آخر على أن الوصف بالنفاق إنما جاء لأجل هذه الصفة ( = التحاكم لغير الله ) .


الدليل الثاني عشر


سبب نزول آخر ، وهو : أن رجلين اختصما فقال أحدهما : نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الآخر إلى كعب بن الأشرف ، ثم ترافعا إلى عمر ، فذكر له أحدهما
القصة ، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم : أكذلك ؟ قال : نعم . فضربه بالسيف ، فقتله .. ( الواحدي في « أسباب النزول » ص 119 ) .

والجواب : أنه من طريق الكلبي عن أبي صالح باذام عن ابن عباس به ، ففيه أربع علل :
1. ( محمد بن السائب الكلبي ) متروك ؛ تركه يحيى بن سعيد وابن مهدي رحمهما الله ، بل قال أبو حاتم رحمه الله : « الناس مجمعون على ترك حديثه » .. ( انظر تهذيب الكمال 6/318 – 319/5825 ) .

2. ( باذام ) ضعيف ؛ ضعفه البخاري ، و ابن حجر رحمهما الله . بل قال ابن عدي رحمه الله : « ولم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه » .. ( انظر ميزان الإعتدال 2/3/1123 ، تقريب التهذيب ص 163 ، الكامل 2/258/300 ) .

3. الانقطاع بين باذام وابن عباسرضي الله عنهما ؛ قال ابن حبان رحمه الله : « يحدّث عن ابن عباس ولم يسمع منه » .. ( انظر تهذيب التهذيب 1/211 ) .

4. مرويات الكلبي عن باذام ليست بشيء ؛ قال يحيى بن معين رحمه الله عن باذام : « إذا روى عنه الكلبي ؛ فليس بشيء » .. ( انظر تهذيب الكمال 1/326/625 ) .



الدليل الثالث عشر


سبب نزول آخر ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه : كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه ، فتنافر إليه أناس من المسلمين ، فأنزل الله تعالى :
«﴿
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[ النساء 60 ]الآيـة .. ( الواحـدي في « أسـباب النـزول » ص 118 ، الطبراني في « الكبير » 12045 ) .


قال الهيثمـي رحمه الله : « رجالـه رجـال الصـحيح » .. ( مجمع الزوائد 7/6/10934 ) .

وقال ابن حجر رحمه الله : « بسند جيد » .. ( الإصابة 7/32 ، عند ترجمة أبي بردة الأسلمي رضي الله عنه ) .

فإن قيل : إن الله تعالى نسبهم إلى النفاق لأنهم تحاكموا إلى الكاهن .

فالجواب من وجهين :

1. أن سياق الآيات يدل على أنهم منافقون ، فالآية تذكر صفة من صفاتهم ، ولا دلالة فيالآية ولا في سبب النزول على أن تحاكمهم هو السبب في الحكم عليهم بالنفاق ، فمن فعل كفعلهم كان مشابهاً لهم ، ومن شابه المنافقين في صفة لم يلزم منه أن يكون منافقاً النفاق الأكبر المخرج من الملة.
2. أن إرادة هؤلاء النفر إرادة مكفرة ، وهي الإرادة المنافية للكفر بالطاغوت ، وقد تقدم ( ص 61 ) .



الدليل الرابع عشر


قال ابن كثير رحمه الله مُعلِّقاً على بعض ما في كتاب كامل التتار ( = الياسا = الياسق )
من أحكام : « وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فمن ترك الشرعَ المحكم المنزّل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر . فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين » .. ( البداية والنهاية 13/128 ، حوادث سنة 624 هـ ) .

فإن قيل : فهذا فيه الإجماع على كفر من ترك الالشريعة الاسلامية وتحاكم لغيرها .

فالجواب : أن هذا الإجماع إنما هو في حق أحد رجلين :

1. من استحل الحكم بغير ما أنزل الله .
2. من فضل حكم غير الله على حكم الله .

* أقول : ولا نزاع في كفر المستحل ( ص 11 ) والمفضل ( ص 18 ) .

وبرهان ذلك : أن ابن كثير رحمه الله إنما حكى الإجماع على كفر التتار ومن فعل كفعلهم ، والحالةُ التي وقعوا فيها مكفرة بلا خلاف ، وبيان ذلك من وجهين :

الوجه الأول : أنهم استحلوا الحكم بغير ما أنزل الله .

قال ابن تيمية رحمه الله : « يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى ، وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين ، ثم منهم من يُرجّح دين اليهود
أو دين النصارى ، ومنهم من يرجّح دين المسلمين » ..


( الفتاوى 28/523 ) .

الوجه الثاني : أنهم فضلوا حكم غير الله على حكم الله .

قال ابن كثير رحمه الله عن كتاب كاملهم – والذي يحتوي على الأحكام التي وضعها لهم جنكيز خان – : « وهو عبارة عن كتاب كامل مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً ، يقدمونها على الحكم بكتاب كامل الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يُحكِّم سواه في قليل ولا كثير » .. ( تفسيره 2/88 ، المائدة 50 ) .

* أقول : ومن تأمل هذا وقال به ؛ فقد اتفق عنده كلام ابن كثير رحمه الله مع كلام أئمة السنة في نقلهم الإجماع الثابت المتقرر في المستحل والمفضل .

ثم إنه لو كان في ترك الالشريعة الاسلامية والتحاكم لغيرها من دون استحلال أو تفضيل إجماع
– كما يقول البعض – لرأيت العلماء يتناقلونه ويقررونه سواء منهم من عاصر ابن كثير رحمه الله أو من تقدمه ، أو حتى من جاء بعده . كيف وقد حكوا الإجماع على خلافه ؟! وهو : الإجماع على عدم كفر الجائر ، وقد تقدم ( ص 21 ) .



([1]) قال ابن تيمية عن تفاسير التابعين رحمهم الله : « إذا أجمعوا على الشيء فلا يُرتاب في كونه حجة ، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ويُرجَع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك » ( الفتاوى 13/370 ) .

وقال رحمه الله : « من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك : كان مخطئاً في ذلك ، بل مبتدعاً وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه » ( الفتاوى 13/361 ) .

([2]) كذا ! ولعل العبارة مقلوبة ، وصوابها : ( أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً ) .




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©