قوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب كامل مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين

فيه سبع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : فلا أقسم " لا " صلة في قول أكثر المفسرين ، والمعنى : فأقسم ، بدليل قوله : وإنه لقسم . وقال الفراء : هي نفي ، والمعنى : ليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف أقسم . وقد يقول الرجل : لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين ، بل يريد به نفي كلام تقدم . أي : ليس الأمر كما ذكرت ، بل هو كذا . وقيل : " لا " بمعنى " ألا " للتنبيه كما قال :
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه ، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا . وقرأ الحسن وحميد وعيسى بن عمر " فلأقسم " بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حال ، ويقدر مبتدأ محذوف ، التقدير : فلأنا أقسم بذلك . ولو أريد به الاستقبال للزمت النون ، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ .

الثانية : قوله تعالى : بمواقع النجوم مواقع النجوم : مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره . عطاء بن أبي رباح : منازلها . الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة . الضحاك : هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مطروا قالوا : مطرنا بنوء كذا . الماوردي : ويكون قوله تعالى : فلا أقسم مستعملا على حقيقته من نفي القسم . القشيري : هو قسم ، ولله تعالى أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفات جزائريةه القديمة .

قلت : يدل على هذا قراءة الحسن " فلأقسم " وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتاب كامله . وقال ابن عباس : المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما ، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين ، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة ، فهو ينزله على الأحداث من أمته ؛ حكاه الماوردي عن ابن عباس والسدي . وقال أبو بكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا همام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة ، ثم نزل إلى الأرض نجوما ، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر ، فذلك قول الله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم .

[ ص: 203 ] وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن . وقرأ حمزة والكسائي " بموقع " على التوحيد ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود والنخعي والأعمش وابن محيصن ورويس عن يعقوب . الباقون على الجمع فمن أفرد فلأنه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع ، ومن جمع فلاختلاف أنواعه .

الثالثة : قوله تعالى : إنه لقرآن كريم قيل : إن الهاء تعود على القرآن ، أي : إن القرآن لقسم عظيم ؛ قاله ابن عباس وغيره . وقيل : ما أقسم الله به عظيم إنه لقرآن كريم ذكر المقسم عليه ، أي : أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم ، ليس بسحر ولا كهانة ، وليس بمفترى ، بل هو قرآن كريم محمود ، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو كريم على المؤمنين ، لأنه كلام ربهم ، وشفاء صدورهم ، كريم على أهل السماء ، لأنه تنزيل ربهم ووحيه . وقيل : كريم أي : غير مخلوق . وقيل : كريم لما فيه من كريم الأخلاق ومعاني الأمور . وقيل : لأنه يكرم حافظه ، ويعظم قارئه .

الرابعة : قوله تعالى : في كتاب كامل مكنون مصون عند الله تعالى . وقيل : مكنون محفوظ عن الباطل . والكتاب كامل هنا كتاب كامل في السماء ؛ قاله ابن عباس . وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضا : هو اللوح المحفوظ . عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه . السدي : الزبور . مجاهد وقتادة : هو المصحف الذي في أيدينا .

الخامسة : قوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون اختلف في معنى لا يمسه هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلف في المطهرون من هم ؟ فقال أنس وسعيد وابن جبير : لا يمس ذلك الكتاب كامل إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة . وكذا قال أبو العالية وابن زيد : إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم ، فجبريل النازل به مطهر ، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون . الكلبي : هم السفرة الكرام البررة . وهذا كله قول واحد ، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال : أحسن ما سمعت في قوله : لا يمسه إلا المطهرون أنها بمنزلة الآية التي في ( عبس وتولى ) : فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة ( عبس ) . وقيل : معنى لا يمسه لا ينزل به إلا [ ص: 204 ] المطهرون أي : الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء . وقيل : لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب كامل المكنون إلا الملائكة المطهرون . وقيل : إن إسرافيل هو الموكل بذلك ؛ حكاه القشيري . ابن العربي : وهذا باطل لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال ، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال . وأما من قال : إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل ، وهو اختيار مالك . وقيل : المراد بالكتاب كامل المصحف الذي بأيدينا ، وهو الأظهر . وقد روى مالك وغيره أن في كتاب كامل عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته : من محمد النبي إلى شرح مفصلبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد وكان في كتاب كامله : ألا يمس القرآن إلا طاهر . وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر . وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة : لا يمسه إلا المطهرون فقام واغتسل وأسلم . وقد مضى في أول سورة ( طه ) . وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره : لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس . الكلبي : من الشرك . الربيع بن أنس : من الذنوب والخطايا . وقيل : معنى لا يمسه لا يقرؤه إلا المطهرون إلا الموحدون ؛ قاله محمد بن فضيل وعبدة . قال عكرمة : كان ابن عباس ينهى أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن ، وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون ، أي : المؤمنون بالقرآن . ابن العربي : وهو اختيار البخاري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا . وقال الحسين بن الفضل : لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق . وقال أبو بكر الوراق : لا يوفق للعمل به إلا السعداء . وقيل : المعنى لا يمس [ ص: 205 ] ثوابه إلا المؤمنون . ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم قيل : ظاهر الآية خبر عن الشرع ، أي : لا يمسه إلا المطهرون شرعا ، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع ، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي . وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر . وقد مضى هذا المعنى في سورة ( البقرة ) . المهدوي : يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب . ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة بناء السين ضمة بناء والفعل مجزوم .






©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©