كفر العناد والإصرارعلى المعصية
نقل الأزهري عن الليث أنه قال: ((عَنِد الرجل يَعْنِد عنوداً، وعاند معاندة، وهو: أن يعرف الشيء ويأبى أن يقبله، ككفر أبي طالب، كان كفره معاندةً؛ لأنه عرف وأقرّ وأنف أن يقال: تبع ابن أخيه فصار بذلك كافراً)).
وقال البغوي: ((وكفر العناد هو: أن يعرف الله بقبله، ويعترف بلسانه، ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول :
وَلَقَدْ علمتُ بَأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِيناً
لَولاَ المَلاَمَةُ أو حذارُ مسبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بذاك مبيناً)
ويقول ابن الأثير في تعريفه: ((وهو: أن يعترف بقلبه، ويعترف بلسانه، ولا يدين به حسدّاً وبغياً، ككفر أبي جهل وأضرابه)).
وفي معناه كفر الاستكبار في تقسيم ابن القيم فإن الاستكبار هو: ((الامتناع عن قبول الحقّ معاندة وتكبراً)). هكذا عرفّه الأزهري.
وقال ابن القيّم في تعريفه: ((وأما كفر الإباء والاستكبار: نحو كفر إبليس؛ فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقد له إباء واستكباراً، وهو الغالب على الكفار)).
وما ذكره الأزهري وابن القيم في معنى: (الاستكبار)، هو: حقيقة ما ذكره العلماء في معنى (العناد)، فهما نوع واحد، ولذا جمع بين اللفظين الشيخ حافظ حكمي فسمى هذا النوع كفر: (عناد واستكبار)، قال: ((وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان فكفر عناد واستكبار، ككفر إبليس وكفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حقّ ولم يتبعوه)).
قال العلامة: محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- فى كتاب كامله فتنة التكفير
تقريظ سماحة الشيخ العلامة: عبد العزيز بن باز -رحمه الله-
الفصل الثاني : كفر الرد
لابد لتحقيق الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من تصديقه والالتزام المجمل بالالشريعة الاسلامية باطناً وظاهراً . وكما أنه لا يكفي لتحقيق الإيمان مجرد تحقيق الالتزام بالالشريعة الاسلامية دون التصديق فكذلك لا يكفي مجرد التصديق دون تحقيق الالتزام الإجمالي .
وذلك أن الإقرار بأن محمداً رسول الله يستلزم قبول ما جاء به تصديقاً وانقياداً، لأن قبول ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الخبر يكفى فيه مجرد الاعتقاد والتصديق، وأما الطلب فلابد مع التصديق من تحقيق الالتزام كما قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}
وعلى هذا فكفر الرد إما أن يكون بالتكذيب والاستحلال المناقض للتصديق، وإما أن يكون بالتولي والإعراض المناقض للالتزام، سواء الالتزام الباطن أو الالتزام الظاهر .
وكل هذا داخل في كفر العناد الذي يكون بعد تبين الحجة الرسالية وظهورها للمعين، بحيث لا يكون تكذيبه واستحلاله ولا تلبسه بما يناقض الالتزام المجمل عن تأول وشبهة يعذر بها .
لكن من قامت عليه الحجة بالرسالة فعاند واستكبر وكذب الرسول ولم يرض باتباعه قد لا يوفق إلى الهداية ومعرفة الحق بعد جحوده أولاً .
بل إن من عقوبة الله للمعاند أن يضله سواء السبيل، جزاء وفاقاً لما اختاره هو من ذلك {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم /75] فينقلب كفر العناد الذي يكون عن بينة إلى كفر ضلالة أو كفر غواية، بحيث يعلم الكافر آيات وتقوم بها الحجة عليه، لكنه لا يوفق لقبولها، بل يقوم بقلبه ما يحسب معه أنه على حق، وكذلك المتخاذل عن الطاعة قد يزين له عمله السيئ، وهذه غاية الخذلان، نعوذ بالله من ذلك .
وقال أيضاٍ -كفر الضلال والغي
الأصل في الكفر مطلقاً أنه إنما يكون عن عناد واستكبار وإعراض عن الحق، بعد معرفته وقيام الحجة به .
ولا يخرج كفر الضلال والغي عن هذه القاعدة. وذلك أن الأصل في كفر الضلال والغي أنه كفر عناد ترتب عليه تحقق الضلال والغي، جزاءً وفاقاً على إعراض العبد عن الحق، وعدم التزامه بأمر الله ونهيه .
قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية /23] .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: (قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يحتمل قولين:
أحدهما: وأضله لعلمه أنه يستحق ذلك. والآخر: أضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه، والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس)
والحقيقة أن سياق الآية يدل أن المراد بها المعنى الثاني دون الأول، لأن الإضلال كان نتيجة اتخاذ الهوى إلهاً متبعاً، وإنما المانع من قبول الحق اتباع الهوى .
ولا يعارض هذا المعنى الأول، فإن كل شيء لا يكون إلا حسب علم الله وتقديره عز وجل، لكن ليس هذا هو المراد بالآية .انتهى
معنى الإصرار على المعاصي وحكمه :
أما الإصرار على المعاصي، والاستغراق فيها، والاستمرار عليها، وعدم الإقلاع عنها، وعدم الاستغفار والتوبة منها، وعزم القلب عليها، أو الفرح بفعلها؛ فحكمها عند أهل السنة والجماعة كحكم مرتكب الكبائر، ويخشى على صاحبه من سوء العاقبة؛ لأن المعصية عندهم بريد الكفر، وهي مشتقة منه وآيلة إليه، والإكثار منها ينبت النفاق في القلب، وقد يؤدي إلى الوقوع في الكفر والردة - والعياذ بالله - لأن المعاصي - مع الإصرار والاستغراق فيها - تحيط بصاحبها وتستولي على قلبه وتطمسه؛ حتى لا يبقى فيه من الإيمان شيء.
قال تعالى: { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }وقال : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء؛ فإذا نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي ذكر الله {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}).
وقال حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : (لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار). وقال الصحابي الفقيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
(إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه) .
والصغائر من المعاصي والذنوب؛ قد تتحول إلى الكبائر لأسباب نذكر منها :
1- الإصرار والمداومة عليها.
2- استصغار المعصية واحتقارها.
3- الفرح بفعل المعصية الصغيرة والافتخار بها.
4- فعل المعصية ثم المجاهرة بها؛ لأن المجاهر غير معافى.
5- أن يكون فاعل المعصية الصغيرة عالماً يقتدى به؛ لأنه إذا ظهر أمام الناس بمعصيته كبر ذنبه.
إن المعاصي والذنوب عند أهل السنة والجماعة: تؤثر في الإيمان من حيث نقصه بحسب قلتها وكثرتها، لا من حيث بقاؤه وذهابه؛ فافتراق المعاصي بمفردها والإصرار عليها لا يخرج من الدين إن لم يقترن بها سبب من أسباب الكفر، كاستحلال المعصية، أو الاستهانة بحكمها سواء كان بالقلب، أو اللسان، أو الجوارح .
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن المعاصي صغرت أم كبرت إذا كانت دون الشرك لا تؤدي بذاتها إلى الحكم على المسلم بالكفر، إنما يكون الكفر بسبب استحلال المعصية المجمع على أنها معصية بتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله تعالى، وهذه مسألة لا يختلف فيها اثنان من العلماء، فالله تعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. أما الإصرار على المعصية، فإن الكافر يدخل في الإسلام بالنطق بالشهادتين، وبعد هذا الإعلان تجرى عليه أحكام المسلمين حتى لو كان يظهر الإيمان ويبطن الكفر إلا إذا قال، أو فعل ما يقتضي الردة، لأن الله تعالى أمرنا في هذه الدنيا أن نأخذ بظاهر أحوال الناس، وأن نترك البواطن لحكم الله تعالى في الآخرة ولقد أنكر الله على من ردَّ الظاهر فقال تعالى: {وَلا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} الآية .
كما جعل الله القول سبباً في المغفرة فقال تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}ولكن إذا صدر عن هذا المسلم أقوال، أو أفعال تعد من الكفر حسب تحديد الإسلام لِمَا يدخل في (باب الكفر) وجب أن نحدد موقفنا من هذا الشخص .
أما الخوارج فقالت : المُصِرُّ على كبيرة من زنا، أو شرب خمر، أو ربا، كافر مرتدّ خارج من الدين بالكلية، لا يُصلّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين ولو أقرّ لله تعالى بالتوحيد وللرسول صلّى الله عليه وسلّم بالبلاغ، ولو صلى وصام، وزكّى، وحجّ، وجاهد، وهو مخلد في النار أبداً مع إبليس، وجنوده، ومع فرعون وهامان، وقارون. معارج القبول بشرح مفصل سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد
قال الشيخ ياسربرهامي : لا نزاع عند أهل السنة في أن ترك العمل في غير المباني الأربعة غير مكفر وأن المصر على الكبيرة غير المستحل ولا الآبي المتكبر لا يكفر وهذا الإطلاق لابد فيه من البيان والتقييد.
يقول الحافظ ابن رجب بعد ما نقل الخلاف في ترك المباني الأربعة وحكم زوال الشهادتين: (فأما بقية خصال الإسلام والإيمان فلا يخرج العبد بتركها من الإسلام عند أهل السنة والجماعة، وإنما خالف في ذلك الخوارج ونحوهم من أهل البدع)اهـ ( قراءة نقدية هامش ص 129 )
وقال ايضا :
ولابد هنا من الانتباه للفرق بين هؤلاء الإباحية(1) وبين المصر على المعصية العازم على فعلها في المستقبل بشهوته وهواه لا لإبائه الالتزام بالتحريم كمدمن المخدرات وعاشق المرأة ونحوهما ممن يقر على نفسه بالذنب ولكن لا ينوي مفارقته فهذا مصر وليس بكافر. قراءة نقدية هامش ص 234
__________
(1) وهم المرجئة الذين يجعلون الإيمان هو الإقرار فقط، والعمل ليس من الإيمان لذا لا يلزمهم، وهؤلاء إباحية كفرهم الأئمة كلهم عبر العصور، وهم غلاة المرجئة.
عبدالرحمن أحمد





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©