قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين
فصل منزلة الحياء
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الحياء

قال الله تعالى : ألم يعلم بأن الله يرى وقال تعالى : إن الله كان عليكم رقيبا وقال تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل - وهو يعظ أخاه في الحياء - فقال : دعه . فإن الحياء من الإيمان .
وفيهما عن عمران بن حصين رضي الله عنه . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء لا يأتي إلا بخير .
وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم . أنه قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة - أو بضع وستون شعبة - فأفضلها : قول لا إله إلا الله . وأدناها إماطة الأذى عن الطريق . والحياء شعبة من الإيمان .
[ ص: 248 ] وفيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها . فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت . وفي هذا قولان .
أحدهما : أنه أمر تهديد . ومعناه الخبر ، أي من لم يستح صنع ما شاء .
والثاني : أنه أمر إباحة . أي انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله . فإن كان مما لا يستحيا منه فافعله . والأول أصح . وهو قول الأكثرين .
********************************
عَنْ أَبيْ مَسْعُوْدٍ عُقبَة بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ البَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مِمَّا أَدرَكَ النَاسُ مِن كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذا لَم تَستَحْيِ فاصْنَعْ مَا شِئتَ)[1].
قال الشيخ ابن عثيمين في شرح مفصل الاربعين النووية
من فوائد هذا الحديث :
-1-أن الآثار عن الأمم السابقة قد تبقى إلى هذه الأمة، لقوله: إِنَّ مِمَا أَدرَكَ الناسُ مِن كَلاَمِ النُّبوَةِ الأُولَى وهذا هو الواقع.
2- أن هذه الجملة: إِذا لَم تَستَحْيِ فاصنَع مَا شِئت مأثورة عمن سبق من الأمم، لأنها كلمة توجه إلى كل خلق جميل
3- الثناء على الحياء، سواء على الوجه الأول أو الثاني، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحَيَاءُ شُعبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ
والحياء نوعان:
الأول:فيما يتعلق بحق الله عزّ وجل.
الثاني:فيما يتعلق بحق المخلوق.
أما الحياء فيما يتعلق بحق الله عزّ وجل فيجب أن تستحي من الله عزّ وجل أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك.
وأما الحياء من المخلوق فأن تكفَّ عن كل ما يخالف المروءة والأخلاق.
فمثلاً:في المجلس العلمي لو أن إنساناً في الصف الأول مدَّ رجليه، فإنه لا يعتبر حياءً لأن هذا يخالف المروءة، لكن لو كان مجلس بين أصحابه ومدَّ رجليه فإن ذلك لا ينافي المروءة، ومع هذا فالأولى أن يستأذن ويقول: أتأذنون أن أمدَّ رجلي؟.
ثم الحياء نوعان أيضاً من وجه آخر:
نوع غريزي طبيعي، ونوع آخر مكتسب.
النوع الأول:فإن بعض الناس يهبه الله عزّ وجل حياءً، فتجده حيياً من حين الصغر، لا يتكلم إلا عند الضرورة، ولا يفعل شيئاً إلا عند الضرورة، لأنه حيي.
النوع الثاني:مكتسب يتمرن عليه الإنسان، بمعنى أن يكون الإنسان غير حيي ويكون فرهاً باللسان، وفرهاً بالأفعال بالجوارح، فيصحب أناساً أهل حياء وخير فيكتسب منهم، والأول أفضل وهو الحياء الغريزي.
ولكن اعلم أن الحياء خلق محمود إلا إذا منع مما يجب، أو أوقع فيما يحرم ، فإذا منع مما يجب فإنه مذموم كما لو منعه الحياء من أن ينكر المنكر مع وجوبه، فهذا حياء مذموم، أنكر المنكر ولا تبالِ، ولكن بشرط أن يكون ذلك واجباً وعلى حسب المراتب والشروط، وحياء ممدوح وهو الذي لا يوقع صاحبه في ترك واجب ولا في فعل محرم.
4- أن من خلق الإنسان الذي لا يستحيي أن يفعل ما شاء ولا يبالي، ولذلك تجد الناس إذا فعل هذا الرجل ما يستحيى منه يتحدثون فيه ويقولون: فلان لا يستحيي فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا.
5- ومن فوائد الحديث على المعنى الثاني: أن ما لا يستحيى منه فالإنسان حل في فعله لقوله: إذَا لَم تَستَحْيِ فَاصنَع مَا شِئت.
6- فيه الرد على الجبرية، لإثبات المشيئة للعبد. والله الموفق.
**********************************
جاء في كلام الشيخ فركوس في معرض كلامه عن حسن الخلق:
(ومن الأخلاق التي ينبغي على الداعي التحلي بها متابعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحياء الذي له الأثر البالغ على مسار الدعوة إلى الله تعالى لما يؤدي هذا الخلق الرفيع إلى سلامة الطبع من الأمراض النفسية المفسدة ومن الأحقاد والضغائن المهلكة، فقد (كان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرف في وجهه)(2).)
-----------------
-1- أخرجه البخاري كتاب كامل: الأدب، باب: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، (6120)
-2- أخرجه البخاري: (10/513) في الأدب. باب من لم يواجه الناس بالعتاب. ومسلم: (15/78) باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©