الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قال العلامة عبدالرحمن الوكيل مُعلِّقاً في حاشية على كلامٍ له في مقال: (نظرات في التصوف -8-):

( لي ثلاث قصص مع ثلاثة رجال..
(1)

أما أولهم: فكان ذا منصب كبير وثقافة شاملة وتدين عميق، وكانت تصلني به رابطة قوية من القربي، وكان يتعشق التهجد بورد (ابن بشيش) (1) فرجوته ذات مرة –يرحمه الله ويغفر له- أن يتلوه، فراح يترنم به في صوت شجيٍّ نشوان النغمات محزون العَبَرات، إلى أن بلغ قول ابن بشيش: (اللهم انشلني من أوحال التوحيد) (2) .
فسألته: "هل للتوحيد وحل؟"
فإذا بالرجل الطيب النبيل يرتفض، ويصيح صيحة هي مزيج من الندم والحسرة، ثم يقول: "استغفر الله ! لقد عَبَرَ ثلاثون عاماً وأنا أسأل الله في كل سَحَرٍ أن ينقذني من طين توحيده".
ثم خرَّ ساجداً يبكي، ويستغفر، ثم همَّ في ثورةٍ إلى الكُتَيِّب الذي يحتوي على ورد ابن بشيش، راح يمزِّقه كمن لاحت له فرصة الثأر من عدوٍّ ظالمٍ مبين، ومضى الرجل الكريم يُنْذِرُ ويعظ الناسَ، حتى لقَى اللهَ هو على اليقين الثابتتتت من التوحيد الخالص

(2)
أما الثاني:
فكان أخاً لهذا الرجل العظيم، وكان مشرفاً على إدارةٍ كبير في وزارة التربية والتعليم، وقد أهَّلَهُ لهذا المنصب شهادة علمية كبيرة وإخلاص في العمل، ووداعة في الخُلق وكان يَنتسِب إلى إحدى الطرق الصوفية، وقد ضمني وإياه مجلسٌ، فراح يجادلني فيما أُدينُ به، فكان مما طالبتُهُ منه أن يفسّر لي ورد ابن بشيش، فبدهني بقوله في غضب:
"إنه سر من أسرار الواصلين لا تفقهه أنت".
فقلت له في صبرٍ يحترمُ كبر سنِّه وصِلةَ القُربى:
"إذن فاهدني –مشكوراً- إلى هذه الأسرار".
لعلّه أحسَّ أنَّه خدش صلتي به بما اتّهمني به من عدم الفهم؛ إذ قال وعلى فمه نور ابتسامة:
"يا أخي إذا كنت أنت لا تعرفها، فكيف تظن أنني أعرفها؟"
فقلت:
"وهل يجوز أن ندعو اللهَ بما لا نفقه أو نُصلِّي على الرسول بما لا نفهم؟ ودعني أدلُّك على أسرار هذه الورد، فإنِّي أعرفها من كتب شيوخ الصوفية".
ثم مضيتُ أذكر له بعض ما شرح مفصله به هؤلاء الشيوخ، وكل كلمة من هذا الشرح مفصل تُناقِضُ في ظاهرها وباطنها أصول الإسلام، غير أنَّ سطوة التصوف كانت تسيطر على قلبه، فسده دون الفهم، وقال:
"لكم دينكم ولي دين !"

(3)

أما الآخر فرجلٌ جلل الشيب رأسَه، وكان –على ضعفه- الحريص على الصلاة في المساجد، والصيام في رمضان ويومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكان من عُشّاق ابن بشيش وورده، فعرَّ عليَّ أن يأتي هذا الورد بُنيانه من القواعد، وأن يحبط عملَه، فأخذتُ أبين له في رفقٍ ما في الورد من ضلالة بعيدة، وهديته إلى الصلاة الشرعية على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وهي تلك التي نزل بها جبريل على رسول الله ويرددها المسلمون في تشهّدهم في كل صلاة.
وآمن الرجلُ، وراح يصلي على الرسول بما بين الله !! غير أنّه كان إيماناَ لا يسيطر على القلب، إيماناً يرعده الخوف من أن يكون كفراً !! إذ لقيته بعد أسبوعين، فوجدته يترنّم بورد ابن بشيش، فسألته عما حدا بع إلى العودة إليه، فقال الشيخ الهّرِمُ المُثقَّف:
"لقد سألتُ عالماً كبيراً، فأكّد لي أنّه ورد عظيم"
فقلت:
"وبم استدل الشيخ على عظمة هذا الورد؟"
فقال:
"لقد أكّد لي أنّ من قرأوه، وصلواإلى الله"
فقلت:
"وهل بُعِث واحدٌ من هؤلاء من قبره، وجاء إلى الشيخ، وأخبره بهذا؟ أو هل أرسل الله إليه رسولاً من عنده؟"
وسكت الشيخ قليلاً، فقلتُ:
"يا عم !! كيف تُصدِّق هذا الذي يزعم أنّه عالمٌ كبير، وتكذِّب عقلك الذي شهد لي أول مرَّة، وتكذِّبُ آيات القرآن؟"
فانتفض العجوز كأنّما يدفع عنه خطراً داهما، ثم قال:
"وماذا أفعل؟ فالشيخ أكبر منك سنّاً، وأعظم منك منصباً"
ثم فرَّ مذعوراً كارهاً مجلسي حتى طواهً القبر !!
يا لضيعةِ الحق إذا كان كبر السن وعظمة المنصب من أدلَّتِه فحسب !! . ) اهـ (3)




(1)ابن بشيش: هو هو عبدالسلام بن سليمان ابن بشيش، شيخ أبي الحسن الشاذلي –صاحب الطريقة الصوفية المعروفة-، صوفي خرافي أحمق، قال أبو الحسن الشاذلي أنّ شيخه دعا الله فقال: (اللهم إني أسألك اعوجاج الخلق عليّ حتى لا يكون ملجئي إلا إليك) ! هلك سنة 622هـ.

(2)ورد ابن بشيش –الكفري-:
(اللهمَّ صلِّ على مَنْ منهُ انشقَّت الأسرار, وانفلقَتِ الأنوارُ، وفيهِ ارتقَتِ الحقائقُ، وتنـزَّلتْ عُلومُ آدمَ فأعجزَ الخلائقَ، ولهُ تضاءَلتِ الفُهومُ فَلمْ يُدْرِكْهُ منّا سابقٌ ولا لاحِقٌ، فرياضُ الملكوتِ بزهرِ جماله مونِقةٌ، وحياضُ الجبروتِ بِفيضٍ أنوارِهِ مُتدفّقةٌ، ولا شيءَ إلا وهوَ به منوطٌ، إذ لولا الواسِطةُ لذهَبَ كما قيلَ الموسوطُ، صلاةً تليقُ بكَ مِنكَ إليهِ كما هو أهلهُ، اللهمَّ إنّه سرُّكَ الجامعُ الدَّالُّ عليكَ، وحِجابُكَ الأعظمُ القائمُ لكَ بينَ يديكَ، اللهمَّ ألحقْنِي بنسبِهِ، وحقِّقْنِي بحسَبِهِ وعرِّفني إِيَّاهُ مَعرفةً أسْلمُ بها مِن مواردِ الجهلِ، وأكرعُ بِها مِنْ مَوارِدِ الفَضل. واحملني على سَبيلِهِ إلى حَضْرتِكَ حَمْلاً محفوفاً بِنُصْرَتِكَ، واقذفْ بي على الباطل فأدمغَهُ، وزُجَّ بي في بحار الأَحَدِيَّة، وانشُلني من أَوْحالِ التَّوحيدِ، وأغرقني في عين بحْرِ الوَحدةِ، حتى لا أرى ولا اسمَعَ ولا أَجِدَ ولا أُحِسَّ إلا بها، واجعلْ الحِجابَ الأعظمَ حياةَ رُوحي، ورُوحَهُ سِرَّ حقيقتي، وحقيقَتَهُ جامعَ عَوالمي، بتحقيقِ الحقِّ الأوّلِ، يا أَوّلُ يا آَخِرُ يا ظاهِرُ يا باطنُ، اسمع ندائي بما سمعْتَ به نداءَ عبدِكَ زكريا، وانصُرني بكَ لكَ، وأيّدني بكَ لكَ، واجمعْ بيني وبينَك وحُلْ بيني وبينَ غَيرِك، اللهُ، اللهُ، اللهُ ((إنَّ الذي فرض رائعَ عليْكَ القُرآنَ لرادُّكَ إلى معادٍ))، ((ربَّنا آتِنَا مِنْ لدُنْكَ رحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً))

(3)]مجلة الهدي النبوي/العدد (11)/ عام 1380هـ/ صـ28-29[ .





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©