الإجابة على من إدعى المجاز في القرآن الكريم للشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي-رحمه الله تعالى-
قال العلامة المفسر محمد الأمين الجكني الشنقيطي-رحمه الله تعالى- في رسالته الماتعة النافعة بإذن الله تعالى:": منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز"
(..... والمقصود من هذه الرسالة نصيحة المسلمين وتحذيرهم من نفي صفات الكمال والجلال, التي أثبتها الله لنفسه في كتاب كامله العزيز بادعاء أنها مجاز وأن المجاز يجوز نفيه, لأن ذلك من أعظم وسائل التعطيل....) ص 4
فصل في الإجابة على مما ادُّعِيَ فيه المجاز

فإن قيل: ما تقول أيُّها النافي للمجاز في القرآن في قوله تعالى: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) [سورة الكهف: 77]. وقوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: 82]. وقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الآية [سورة الشورى: 11]. وقوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) الآية [سورة الإسراء: 24]؟.

فالجواب:

أَنَّ قولَه: (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) لا مانعَ من حمله على حقيقة الإرادة المعروفةِ في اللغة، لأَنَّ الله يعلمُ للجماداتِ ما لا نعلمُه لها كما قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الآية [سورة الإسراء: 44].
وقد ثَبتَ في "صحيح البخاريَ" حنَينُ الجذْع الذي كان يخطبُ عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وثبتَ في "صحيحِ مسلم" أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إني أعرفُ حَجَرا كانَ يسلمُ عَلَيَّ في مكةَ".
وأمثالُ هذا كثيرةٌ جدًّا، فلا مانِعَ من أن يَعْلمَ اللهُ من ذلكَ الجدار إرادة الانقضاض. ويُجابُ عن هذه الآية -أيضا- بمَا قدَّمنَا من أنَّه لا مانعَ من كونِ العرب تستعملُ الإرادةَ عنْدَ الإطلاق في معناها المشهورِ، وتستعملُها في الميلِ عند دلالة القرينة على ذلك. وكلا الاستعمالين حقيقةٌ في محلِّه. وكثيرًا ما تَستعملُ العربُ الإرداة في مشارفَةِ الأمرِ، أي قرب وقوعهِ كقربِ الجدارِ من الانقضاض سُمِّيَ إرادة.
وكقول الرَّاعي:
في مَهْمَهٍ قلقت بها هاماتها ... قلق الفؤوس إذا أردْنَ نضولاً

يعني بقولهِ: "أردن": تحركنَ مشرفاتٍ على النّضولِ وهو السقوط. وكقول الآخر:
يُريدُ الرُّمْحُ صدْرَ أبي براء ... ويَعْدل عن دماءِ بني عقيل
فقوله: "يريد الرُّمْحُ صدرَ أبي براءٍ"، أي: يميل إليه، وأمثالُ هذا كثيرة في اللُّغة مادة اللغة العربية.
والجواب عن قوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) من وجهينِ أيضا:
الأول: أَنَّ إطلاق القريةِ وإرادة أهلها من أساليبَ اللغة مادة اللغة العربية أيضًا كما قدَّمنا.
الثاني: أنَّ المضافَ المحذوفَ كأنَّه مذكور لأنه مدلولٌ عليه بالاقتضاء، وتغييرُ الإعراب عند الحذفِ من أساليب اللُّغةِ أيضًا كما عقده في "الخلاصة" بقوله:
وما يلي المضافَ يأتي خلفًا ... عنه في الإعراب إذَا ما حُذِفَا
مع أنَّ كثيرًا مِن علماء الأصول يُسمُّونَ الدّلالةَ على المحذوفِ في نحو قوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: 82] دلالة الاقتضاء.
واخْتلفُوا هل هي من المنطوقِ غير الصريح، أو من المفهوم.
كما أشار له في "مراقي السعود" بقوله:
وفي كلامِ الوحي والمنطوق هَلْ ... ما ليسَ بالصَّريحِ فيه قَد دَخَل
وهو دلالةُ اقتَضاء إنْ يدل ... لفظ على ما دونه لا يستقل

دلالة اللزوم... إلخ.
والجمهور على أنها من المفهومِ لأنَّها دلالةُ التزام، وعامَّة البيانيين وأكثر الأصوليين على أنَّ دلالةَ الالتزام غير وضعية، وإنَّما هي عقلية، ودلالةُ المجاز على معناه مطابقة وهي وضعيةٌ بلا خلافٍ، فظهَرَ أنَّ مثلَ: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: 82] مِنَ المدلول عليه بالاقتضاء، وأنَّه ليسَ من المجازِ عند جمهور الأصوليين القائلينَ بالمجاز في القرآنِ، وأَحْرَى غيرهم، مع أنَّ حدَّ المجاز لا يشملُ مثلَ: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ؛ لأنَّ القريةَ فيه -عند القائلِ بأنَّه من مجازِ النَّقْصِ- مُسْتعملةٌ في معناها الحقيقيّ، وإنما جَاءَها المجاز عندهم من قِبَلِ النَّقصِ المؤدّي لتغيير الإعراب، وقد قَدَّمْنَا أن المحذوف مقتضى، وأنَّ إعراب المضافِ إليه إعراب المَضافِ إذا حُذف من أساليب اللغة مادة اللغة العربية.
والجوابُ عن قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [سورة الشورى: 11] أنَّه لا مجاز زيادة فيه؛ لأنَّ العربَ تطلق المثلَ وتريدُ به الذات، فهو أيضا أسلوب مِنْ أساليب اللغةِ العربِية.
وهو حقيقة في محَلّهِ كقول العرب: مِثْلُكَ لا يفعل هذا. يعنونَ: لا ينبغي لك أَنْ تَفْعلَ هذَا، ودليلُ هذا وجوده في القرآنِ كقوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) [سورة الأحقاف: 10]، أي: شَهِدَ على القرآنِ أنه حق.

وقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ)[سورة الأنعام: 122]، يعني كمنْ هو في الظلمات.
وقوله تعالى: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ) [سورة البقرة: 137] أي: بمَا آمنتم به على أظهرِ الأقوال. وتدلُّ لَهُ قراءةُ ابن عباس: "فإنْ آمَنوا بِمَا آمَنتُم بهِ" وتُروى هذه القراءةُ عَنِ ابنِ مسعود أيضا.
ويجابُ أيضا بأنَّ أداةَ التَّشبيِه كُرِّرَتْ لتأكيدِ نَفْيِ المِثْلِيةِ المنفيَّةِ في الآية.
والعربُ ربَّما كرَّرتْ بعض الحروفِ لتأكيد المعنى، كتكرير أداة النَّفْي في الجمعِ بين "ما" و"أن" لتأكيد النَّفي كقول دُرَيْدِ بنِ الصِّمَّة في الخنَساء الشاعرة:
ما إن رأيتُ ولا سمعتُ به ... كاليومِ طالي أينق جُرْبِ
وقول قتيلة بنت الحارث في مقتل النَّضْرِ بنِ الحارثِ صبرا يوم بدر:
أَبْلغْ بِها ميتا بأنَّ تحية ... ما إنْ تزالُ بها النجائبُ تخفقُ
وكالجمع بينَ "إن" و"ما" لتوكيد الشَّرطِ في قوله: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) [سورة الزخرف: 41]، (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) [سورة الأنفال: 58]، (وَإِمَّا تَخَافَنَّ) [سورة الأنفال: 57]. وكقولِ الشاعر:
زعَمَتْ تُماضرُ أنَّنِي إمَّا أمُتْ ... يسدِّدُ ابينوها الأصاغر خلَّتي
فإن قيل: هذه الزيادات لم تُغير الإعراب والكلام فيما غيره.
فالجواب: أن تغير الإعراب بزيادة كلمة لنكتة، أو نقصها للدلالة عليها بالاقتضاء أسلوبٌ من أساليب اللغة كما تقدم، والحكم بأنه مجاز لا دليل عليه يجب الرجوع إليه.
والجواب عن قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ) [سورة الإسراء: 24]: أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته؛ لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يد الإنسان وعضده وإبطه، قال تعالى: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [سورة القصص: 32].
والخفض مستعمل في معناه الحقيقي الذي هو ضد الرفع؛ لأن مريد البطش يرفع جناحيه، ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما، والتواضع لهما، كما قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
[سورة الشعراء: 215].

وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب أسلوب معروف، ومنه قول الشاعر:
وأَنْتَ الشَّهيرُ بخفضِ الجناحِ ... فلا تَك في رفْعِه أجْدَلاَ
وأما إضافة الجناح إلى الذل فلا تستلزم المجاز كما يظنه كثير؛ لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك حاتم الجود، فيكون المعنى: واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر.
وما يُذكر عن أبي تمام من أنه لما قال:
لا تَسْقِنِي ماءَ الملام فإنّنَي ... صبٌّ قد استعذبتُ ماء بكائي
جاءه رجل فقال له: صب لي في هذا الإناء شيئًا من ماء الملام، فقال له: إن أتيتني بريشةٍ من جناح الذل صببت لك شيئًا من ماء الملام = فلا حجة فيه؛ لأن الآية لا يراد بها أن للذل جناحًا وإنما يراد بها خفض الجناح المتصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود. ونظيره في القرآن الإضافة في قوله: (مَطَرَ السَّوْءِ) [سورة الفرقان: 40]، و (عَذَابَ اَلْهُونِ) [سورة الأحقاف: 20] يعني مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه. وعذاب أهل النار الموصوف بسوء من وقع عليه، والمسوغِّ لإضافة خصوص الجناح إلى الذل مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح: أن خفض الجناح كُنِّي به عن ذل الإنسان وتواضعه، ولين جانبه لوالديه رحمة بهما، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة مادة اللغة العربية كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) [سورة العلق: 16].
وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) ) [سورة الغاشية: 2، 3].
وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، وفي كلام العرب.
وهذا هو الظاهر في معنى الآية، ويدل له كلام السلف من المفسرين.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في "الصواعق": "إن معنى إضافة الجناح إلى الذل أن للذل جناحًا معنويًّا يناسبه، لا جناح ريش".
والله تعالى أعلم.

وما يذكره كثير من متأخري المفسرين القائلين بالمجاز في القرآن كله غير صحيح، ولا دليل عليه يجب الرجوع إليه من نقل ولا عقل


رابط تحميل كتاب كامل: ''منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز''
http://www.waqfeya.com/book.php?bid=2533





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©