ما هي البدعة ؟
عرَّف العلماء البدعة بأنها : "طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الالشريعة الاسلامية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، أو يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد للَّه".
و الاختراع : الإتيان بالجديد،ليس للناس به عهد..

فعلماء الغرب الذين توصلوا إلى إحداث الطائرة و القاطرة و الراديو مخترعون، لأنهم جاءوا بما لا يعرفه الأوائل، و اختراعهم في هذا المجال محمود.


أما الذين يخترعون أعمالا أو أقوالا. و يزوِّقونها للناس حتى يحسبوها ديناً –فهم المبتدعون الذين جاءوا من عند أنفسهم بما لم يُنزِّل اللَّه، و لم يعلِّم نبيه.


فأصل الابتداع خلق ما ليس له مثال سابق و لا دليل قائم. و منه سُمِّي اللَّه عَزَّ وَ جَلَّ "البديع" لأنه اخترع هذا العالم الفخم الضخم غير مسبوق إليه بشيء يشبهه :

] بَدِيعُ السماوات و الأَرْضِ وَ إذا قَضَى أمْراً فَإِنَّمَا يَقوُلُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [(1).

و الذي يخترع شيئاً ما –يجعله دينًا- يجب أن يسبك خديعته ببطلان، يخيل للرائي أنَّ باطله حق.


و من ثمة فهو يحرص على مضاهاة الالشريعة الاسلامية في المظهر. و إن خالفها في الجوهر. و ما أشبه مروجي البدع بمزيفي النقود.


إنَّ عصابات التزييف تجتهد –إذا زوَّرت أوراقاً مالية- أن تُضفي عليها من الألوان و التقاسيم، ما يجعلها قريبة من الأصل، حتى تنطلي على السذج.


و عندما تُزيِّف الدراهم أو الدنانير لا ترى حرجا من استجلاب قدر من المعدن النفيس، إلى أقدار من المعادن الدنيئة، ثم تصوغ خلطها إلى الأشكال و النقوش التي تضاهي النقد الصحيح، حتى يلبس به المزيف و يروج.


و قد كان أئمة الإسلام الأولون حرصا على تتبع البدع و مصادرتها، حرص الحكومات المعاصرة على إتلاف النقد المزيف، و عقاب المجرمين الذين يصنعونه و ينشرونه.


و ساندهم في هذا قول رسول اللَّه e : "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، و قوله كذلك:"مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". و كلا الحديثين حرب على البدع: الأول على اختراعها،و الآخر على إقرارها و متابعتهَا.


و لو أن المحدثاَت في دين اللَّه لاقت عُشر المقاومة التي يلقاها تزييف النقد لبقي جوهر الإسلام نقيا زكياً، يُرغب فيه و يُستمسك به.
و لكن المؤسف أنَّ الناس أهمهم أمر معاشهم، فصانوه جهدهم مما يعكره.

أما شأن الدين فكان أنزل قَدَرًا مما ينبغي له، فراجت البدع، و كاد الحق يذوب خلالها و يتلاشى...


و حرص أعداء الإسلام على التمكين لهذه البدع و إظهارها للأعين الجاهلة كأنها الدين كله.
و من ثَمَّ تنصرف عنه الأذواق السليمة و الفِطَر الخالصة.


و إنك لتلمح الشر المبيَّت للإسلام و أهله، مما نشرته صحيفة "التايمس" أخيراً،إذ قالت تحت عنوان "الاستعمار و الإسلام" : "يتقدم الإسلام بخطى سريعة، في غرب أفريقيا، حتى إن بعثات التبشير و الأوروبيين على السواء ليبدون قلقًا شديدًا، مما يترتب على انتشار الإسلام في المنطقة كلها.


و كان الاعتقاد قديماً أنَّ الإسلام هو دين شعوب الصحراء! و قد يتجه نحو الحَضَر، و لكن أنَّ سير الأمور يدل على أنَّ دائرة الإسلام تتسع.
و ما كان أحد ليصدق أنه يستطيع اختراق المناطق الاستوائية، و أن يصل إلى الجنوب كما حدث في "سيراليون" و "الساحل العاجي" و ساحل الذهب" و "داهومي".


و يخشى رجال الإدارة على الأخص من أنَّ انتشار الإسلام في هذه البقاع يتبعه اتصالات بالقاهرة و بالعالَم العربي.
و يختلف المفكرون الغربيون في اتجاههم الفكري نحو مستقبل الإسلام في إفريقيا.

فمن قائل:إنَّ تقدم الإسلام لن يضر المصالح الاستعمارية، ما داك يسير في الخطوط التي رسمها المستعمر.


بينما يرى آخرون ضرورة الحد من تقدم الإسلام عن طريق نشر البدع و الخرافات فيه،حتى يكون هذا بمثابة حائل يقف أمام ضغط الإسلام المتزايد".

أرأيت كيف تقوم البدع حَجَر عثرة أمام الإسلام،و كيف توهن قوته،و تمزق دولتـه !؟
و الخاصة البارزة في هذه البدع، أنها أشبه ما تكون بالغش التجاري.

الغش الذي يشوب مختلف الأصناف بمواد رديئة، ثم يدفعها إلى الأسواق على أنها أصناف لا عيب فيها...
فالذي يريد إقحام شيء على الإسلام لا يختلق أمراً ظاهر النبو مكشوف العار، ثم يزعم أنه دين.
بل إنه يحتال على بدعته بلون من التلبيس، حتى يجعلها مضاهية للالشريعة الاسلامية أو متصلة بقواعدها و نصوصها، اتصالا باطلا...


ألا ترى إلى المشركين لما أرادوا تسويغ عبادة الأصنام كيف زعموا أنها وسائط إلى اللَّه تعالى !؟
و لما كانوا بالكعبة عرايا كيف احتجوا لذلك بأنهم لا يبغون الطواف بملابس عصوا اللَّه فيها !؟


و أظهر ما تكون البدع في قسم "العبادات" لا مانع من تسربها إلى جملة التعاليم التي جاء بها الإسلام.
إذ الإسلام –كما هو ثابت من نصوصه- عقائد و عبادات و أخلاق، و سياسات، و شرائع شخصية و مدنية و جنائية... الخ.
و الغلو في التقرب إلى اللَّه أول ما يتجه إلى صور الطاعة المعروفة بالزيادة و التكلف.

و قد يتجه كذلك إلى تعاليم الإسلام الأخرى، فيضع من تقاليد و القوانين ما يريد ليجعله ديناً، و هو ليس إلا الهوى المبين.
و على هذا فإن الابتداع يشمل العادات و العبادات جميعاً.
لكن الاختراع في قسم العادات – إذا لم يكن مضاهيًا للدين و لا متخذًا سُنَّته و غايته، فليس من قبيل البدع، بل يُنظر إليه في ضوء الالشريعة الاسلامية التي وضعت للمصالح العامة موازين دقيقة...

و معنى هذا أن التجديد و الابتكار مقرران في ميدان العادات، داخل النطاق الذي رسمنا.
أما في ميدان العبادات، فإنَّ الاتباع المحض هو الأصل، و الاختراع الذي هو جرثومة الابتداع جور و ضلال.
و قد تسأل : أهناك فرق بين الاختراع في العادات و الاختراع في العبادات ؟
و الجواب : إنَّ الطاعات التي رسمها الشارع لها أشكال و نصوص محددة، و لا مكان لاختلاق صور جديدة فيها.
أما الشئون التي تندرج في قواعد عامة أو تتصل بشئون الدنيا، فإنَّ الشارع لا يكترث بأشكالها و أطوارها، و إنما يعنى بالمعاني التي تقارنها. و الغايات التي تنتهي ليها فحسب.


فإضافة صلاة جديدة إلى الصلوات الموقوتة، أو ركعة زائدة على الركعات المعدودة، أمر يُرفض بتة.
أما إذا أوجب الإسلام الطهارة من الأحداث،فمد الناس مجاري للفضلات تحت الأرض، و نسَّقوا مواسير المياه، و قرَّبوا هذه و تلك من المساجد على غير ما كان عليه السَّلَف الأولون يعهدون، فأمر لا صلة له بطبيعة الابتداع الذميم.
إنَّ البدعة –على التعريف الذي شرح مفصلنا- لا صلة لها بشئون الدنيا، و لا مكان لإقحامها فيما يجب على البَشر إحسانه و تجديده، من أحوال الحياة و وجوه المعايش المتكاثرة، كما أنَّ البدعة شيء آخر غير المعصية...


المعصية مخالفة نص أو تعطيل قاعدة، مع بقاء كليهما قائمًا واضحاً على ما جاءت به الالشريعة الاسلامية المحكمة.
أما البدعة فهي إفساد للنص و القاعدة جميعًا.


إذ هي خروج بالخطاب الإلهي عن حقيقته العليا،بإشرابه نوازع الهوى و أمالته عن الصراط السوي.
و العاصي يخالف أمر اللَّه، و هو يدري ما أمر اللَّه! و قد يتقرب إليه عاجلا أو آجلا.
أما المبتدع فقد اضطربت في ذهنه معاني الدين فهو يتقرب إلى اللَّه بما لم يُشرَّع، و قد ينفذ له ما لم يفرض رائعه و لم يأذن به.
و ربما تحولت المعصية إلى بدعة إذا جُعلت دينًا !


فإن التأكل بالقرآن حرام، لمخالفته قول الرسول e :"لا تأكلوا به".
فإذا جعل ذلك دينا و استأجر القراء لتشييع الموتى، قُربَى به إلى اللَّه فذلك إثم مُركَّب من عصيان و ابتداع !!

* * *


و يرى بعض العلماء أنَّ البدعة كل ما جَدَّ بعد رسول اللَّهe من مخالفات و محدَثات.
سواء في المعاصي التي نَفَّر منها الشارع، أو المخترعات التي لفَّقها الجُهال و المغرضون، لتكون ديناً و ليست من الدين في شيء...
و هذا الإطلاق بعيد عن الدقة...


و أبعد منه مَن يجعل البدعة تسع كل المحدَثات التي وقعت بعد رسول اللَّه من عادات أو عبادات، في الخير و الشر، ما يُحمد منها و ما يُعاب...


و التعريف الأول ارتضاه الإمام الشاطبي.و درس –على ضوئه- المحدَثات الذميمة دراسة أصلية جيدة، في كتاب كامله "الاعتصام".
أما إطلاق البدع على كل جديد في دين اللَّه و دنيا الناس، فأمر أقرب إلى معاني اللَّغة منه إلى مصطلحات الالشريعة الاسلامية...
و قد جنح إليه القرافي،و عز الدين عبد السلام.


و لكن ذلك لا يسلَّم لهما، و إن كان الأمر في نهايته يصل إلى إنكار الإضافات المدسوسة على الإسلام كلها.
إذ لا خلاف بين العلماء على ذلك. و إن اختلف تحديدهم لمدلول كلمة "بدعة".

* * *


(1) البقرة : 117.





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©