شبهات المتكلمين الأشعرية في نفى علو الذات والفوقية
اعداد
عاصم محمد عبد اللطيف
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونستهديه ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد
فانه نتيجة تنكب بعض العقول عن الطريق المستقيم والهدى الرشيد ، والبعد عن الكتاب كامل والسنة ، ظهرت دعوة تتخذ لها من دعاة الجمهية سلفا حيث بدأوا يقدمون عقولهم على القرآن والسنة ويجعلونها حكما عليها وقالوا إن ظاهر القرآن باطل مستحيل لابد أن يصرف عن ظاهرة لأنه يوهم التشبيه والجسمية ، فحرفوا النصوص الدالة على صفات الله تبارك وتعالى وعطلوها وما ذلك إلا لأنهم وقعوا في فتنة التمثيل و التشبيه ثم التعطيل والتحريف
ومن هذه الصفات ، بل هي أكثر صفة أثارت حفيظتهم ، وأثارت الجدل بينهم وبين أهل السنة هي صفة " العلو" حيث يقولون في الآيات المصرحة باستواء الله تعالى على عرشه والدالة على فوقيته أن ظاهرها فيه تشبيه بالمخلوق وأنها مصروفة عن ظاهرها ، وراحوا يطلقون شبهاتهم الكثيرة المتعلقة بهذه الصفة
وسنحاول في هذا الوريقات إن شاء الله – أن نلقى الضوء على بعض هذه الشبهات ونناقشها مناقشة علمية في ضوء الكتاب كامل والسنة وأقوال وردود سلف الأمة
وسيكون تقسيمها كالتالي :
المطلب الأول : عرض الشبهات العقلية التي انقدحت في أذهانهم ومجملها ثلاث شبهات
المطلب الثاني : عشرة شبهات هي جملة تأويلاتهم للنصوص الشرعية
المطلب الثالث: عرض شبهتهم في الدليل الفطري و في الدليل العقلي
المطلب الرابع : الرد على الثلاث شبهات العقلية باعتبارهم شبهة واحدة
المطلب الخامس : الرد على سبعة شبهات متتالية من تأويلاتهم للنصوص الشرعية
المطلب السادس : الرد على شبهاتهم في الدليل الفطري والدليل العقلي
فيكتمل معنا خمسة عشرة شبهة والرد على عشرة منها.
المـــطلب الأول:
وقد لخص أهم شبهاتهم العقلية التي نفوا بها ضقة العلو فضلية الشيخ حامد العلى في كتاب كاملة " أم البراهين القاطعة لشبهات المعطلين المؤولين لصفات رب العالمين " في ثلاث شبهات
الشبهة الأولى:
إن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون منقسما أو غير منقسم فإذا كان منقسما كان مركبا, وقد تقدم ما يلزم من التركيب, وإن لم يكن منقسما كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ , وذلك باطل باتفاق العقلاء ، هذا على القول بوجود الجوهر الفرد , ومن ينفى الجوهر الفرد يقول كل ما كان مشارا إليه , فانه لابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسما فثبت أن القول بأنه مشار إليه يفضى إلى الباطل فهو باطل .
الشبهة الثانية :-
قال أبو المعالي ( والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة, شاغل لها, متحيز, وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها, وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر)
الشبهة الثالثة:-
أن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون غير متناه وهو باطل, وإما أن يكون متناهيا فيلزم أن يكون مفتقرا إلى من خصصه بهذا المقدار دون غيره، وإما أن يكون متناهيا من بعض الجوانب دون بعض , فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الآخر وذلك يوجب القسمة والتجزئة( )
وبمثل هذه التعقيدات العقلية – التي كانوا في غنى عنها لو أنهم التزموا طريق القرآن والسنة الواضح في تصديق الخبر وتنفيذ الأمر – عمدوا إلى آيات القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة والتي تصرح بعلو الله تبارك وتعالى وفوقيته بالتحريف فأولوها بدون دليل وخاضوا البحر الخضم كما قال أبو المعالي الجوينى في آخر حياته
المـطلب الثانــي :
ونستعرض فيما يله بمشيئة الله – أهم تلك الشبهات والتحريفات التي تفتقت
أذهانهم عنها في تفسير القرآن والسنة:
الشبهة الأولـــــــــى:
قالوا في الاستواء في قوله تعالى " الرحمن على العرش استوي " (طه :5) – وسائر الايات المصرحة بالاستواء أنه بمعنى الاستيلاء والقهر (قال البيهقى : وفيها كتب إلى الأستاذ أبو منصور ابن أبى أيوب رحمه الله أن كثيرا من متأخرى أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة ومعناه الرحمن غلب العرش وقهره وفائدته الإخبار عن قهر مملوكاته وأنها لم تقهره . وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المملوكات فنبه بالأعلى على الأدنى ، قال : والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة كما تقول : استوي فلان على الناحية إذا غلب أهلها وقال الشاعر في بشر بن مروان :
قد استوي بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
يريد أن غلب أهله من غير محاربة ومما يؤيد ما قلناه قولة عز وجل (ثم استوي إلى السماء وهى دخان) (فصلت :11) والاستواء إلى السماء هو القصد إلى خلق السماء فلما جاز أن يكون القصد إلى السما استواء جاز أن تكون القدرة على العرش استواء ) ( )
الشبهة الثانيـــــــــــة :
أن الاستواء بمعنى العلو بالعظمة والعزة وأن صفاته تعالى أرفع من صفات العرش على جلالة قدره وهو قول ابى جعفرالسمنانى وأبى منصور رضي الله عنهما( ). كما ذكر ذلك أيضا ابن أبى العز الحنفي في شرح مفصله على الطحاوية أنهم تأولوا الفوقية بأنه خير من عباد وأفضل منهم وأنه خير من العرش وأفضل منه كما يقال : الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم ( )
الشبهة الثالثة:-
أن الاستواء بمعنى العلو بالغنى عن العرش( )
الشبهة الرابعة :
أن المراد بالاستواء انفراده بالتدبير إذ قد استوى له جميع خلق لعدم من يشاركه ( )
الشبهة الخامسة:
أن المراد بالعرش جملة المملكة ( )
الشبهة السادسة :
أن الوقف على "علا" والعرش كلام مستأنف ( )
الشبهة السابعة:
وهو قول رواه محمد بن مروان الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس في قوله " ثم استوي على العرش " يقول استوي عنده الخلائق القريب والبعيد فصاروا عنده سواء ( )
الشبهة الثامنة:-
وهو قول نسبه الإمام القرطبي في كتاب كاملة (الأسنى في شرح مفصل أسماء الله الحسنى ) للإمام أبو الحسن الأشعري حيث قال : قول الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه قال أثبته مستويا على عرش وأنفى كل استواء يوجب حدوثه فجعل الاستواء في هذا القول من مشكل القرآن الذي لا يعلم تأويله على التفصيل ( )
الشبهة التاسعة:-
وهو قول نسبة أيضا الإمام القرطبى للأمام أبو الحسن وهو إنه فعل في العرش فعلا سمى نفسه مستويا ( )
الشبهة العاشرة:
جوابهم عن حديث الجارية في صحيح مسلم والذي فيه سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية " أين الله ؟ " فقالت " في السماء " فقال " أعتقها فأنها مؤمنة "
قال بعضهم " وإنما إكتفى صلى الله عليه وسلم بقول الجارية (في السماء ) لأنه كان يكفى في صدر البعثة بالنسبة للعامة اعتقاد وجود الله ووحدانيته فعامل الجارية بما ألفته وأقرها على اعتقاد وجود الله وانفراده بالإلهية ولما أشارت إلى السماء علم البني صلى الله عليه وسلم أنها تعظم الله وتعتقد وحدانيته وتنفر من آلهة الأرض التي كانوا يعبدونها " ( )
وقريبا من هذا قال البعض " المراد امتحان شاملها هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده , وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلى استقبل الكعبة ؟ وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين , أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم , فلما قالت : في السماء , علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان ( )
المطــلب الــثــــالـــث
وتبقى معنا شبهتان ردوا بهما على الدليل الفطري والدليل العقلي وهما:-
(1) شبهتهم في الرد على الدليل الفطري :
بداية ماهو الدليل الفطرى الذى رد به أهل السنة عليهم ؟
قال ابن ابى العز" الخلق جمعيا بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى " ( ) فقالوا " أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء كما أن الكعبة الصلاة ثم هو منقوص بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض " ( )
(2) شبهتهم فى الرد على الدليل العقلى
فما هو الدليل العقلي ؟
أثبت أهل السنة العلو والفوقية عقلا من وجوه:
" أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما ساريا في الآخر قائما به كالصفات وإما أن يكون قائمة بنفسه بائنا من الأخر .
الثاني : أنه لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته , والأول باطل , أما أولا فبالاتفاق ، وأما ثانيا فلانة يلزم أن يكون محلا للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا , والثاني يقتضى كون العالم واقعا خارج ذاته منفصلا فتعينت المبانية لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول .
الثالث : أنه كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضى نفى وجوده بالكلية لأنه غير معقول , فيكون موجودا إما داخله وإما خارجه والأول باطل فتعين الثاني فلزمت المباينة " ( )
" وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته لأنه أنكره جمهور العقلاء فلو كان بديهيا لما كان مختلفا فيه بين العقلاء بل قضية وهمية خيالية " ( )
المطلب الرابع
الرد المجل على الثلاث شبهات الأولى
" أما قولهم أن إثبات العلو يقتضى التجسيم , ثم يلزم بعد ذلك ما يلزم الأجسام من التماثل عند من يقول به أو الافتقار إلى المخصص أو الانقسام والتركيب فالجواب عن هذه الشبهة : أن هذه الألفاظ المجملة يريدون بها تعظيم ما يزعمون أنه يعارض الوحي , وإلا فان بين ما يريدون ظهر بطلانها لكل من لم تنحرف فطرته
فان التجسيم تفعيل من الجسم , والجسم المعقول في اللغة , وعرف الناس الجسد وهو البدن فإذا نفوه توهم السامع أنهم ينفون البدن الذي هو من جنس أبدان المخلوقات
وإنما يريدون به المنقسم مما يشار, والذي لاينقسم هو الجوهر الفرد , هذا عند عامتهم , وقد يريد به بعضهم ماله عمق وأبعاد وتميز لجهاته , ثم يقولون إذا أشير إليه لزم أن يكون منقسما أو مركبا أو جوهرا فردا وكله باطل , فإذا أريد بنفي الجسم أي ليس من جنس أبدان المخلوقات فهو حق بل هو سبحانه ليس بجسم بالمعنى اللغوي من مخلوقاته كالروح والهواء والملائكة فان سبحانه لا مثل له ولا كفؤ له
وان أريد بنفي الجسم أي ليس مركبا من الأجزاء المفردة فيقال
أولا : تركيب الأجسام من ذلك لا يعلمه جمهور العقلاء , وليس عليه برهان صحيح
وثانيا: لا ريب أن الله تعالى ليس مركبا من أجزاء كتركيب المخلوقات من أجزائها تعالى عن ذلك
وان أريد بنفي الجسم أي ليس منقسما فيقال: ما تعنون بالانقسام: إن عنيتم أن ذاته لا تقبل التفريق والتجزئة والانفصال فهو حق وإن عنيتم أنه لا تتميز ذاته عن غيره بحيث يشار إليه وينظر إليه يوم القيامة فهو باطل
ومثل هذا يقال في جميع ما اصطلحوا عليه وجعلوه قانونا يحكم على نصوص الكتاب كامل والسنة بأن المراد منها خلاف الظاهر
مثل لفظ الافتقار فان عنى به أن الله مفتقر إلى غيره مما هو خارج عن ذاته فباطل وليس في إثبات صفاته هذا المعنى , ولا في إثبات علوه على خلقه
ومثل لفظ الجهة , وقولهم لو كان فوق العالم للزم أن تحويه الجهة وللزم أن تكون قديمة معه وللزم أن لا يكون عاليا عليها , ونحو ذلك من الكلام المشتبه فان الجهة إما أن يراد بها وجودي فان كان كذلك فهو مخلوق ومن يقول بالعلو على المخلوقات لا يقال له يلزمك أن يكون ليس عاليا على بعضها فان هذا لا معنى له
وان كانت أمرا عدميا – وهو الصحيح – بمنزلة الأشياء الإضافية , فلا يلزم من الأمر العدمى كل هذه اللوازم إذ هو لا شئ , ومثل هذا يقال في الحيز والمكان
وبمثل هذا التفصيل يجاب عن سائر ما يشغبون به على نصوص الوحى من الألفاظ المجملة المشتبهة , ويبين أنها مباحث عقلية محضة متنازع فيها وأكثرها باطل , والصحيح منها لا يخالف الكتاب كامل والسنة " ( )


المطلب الخامس
الرد على سبعة شبهات من تأويلاتهم للاستواء :
وسنرد عليها إن شاء الله – كما هي مرتبة في موضعها من الشبهة الأولى حتى السابعة
الرد على الشبهة الأولى :
قولهم في الاستواء أنه بمعنى الاستيلاء والقهر مردود عليه من وجوه عديدة فلقد رد ابن القيم على هذه الشبهة من اثنين وأربعين وجها في الصواعق المرسلة ورد ابن تيمية عليها من إثنى عشر وجها في " مجموع الفتاوى "
رد ابن القيم :
فقال ابن القيم في الوجه الأول " أن لفظ استوي في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه نوعان : مطلق ومقيد , فالمطلق ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله " ولما بلغ أشدة واستوي وهذا معناه كمل وتم يقال استوى النبات واستوى الطعام . وأما المقيد فثلاثة أضرب
(أحدها ) : مقيد (بإلى ) كقولة " ثم استوي إلى السماء " , واستوى فلان إلى السطح , والى الغرفة , وقد ذكر سبحانه هذا المعدى بإلى في موضعين من كتاب كامله في البقرة في قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوي إلى السماء " , والثاني في سورة السجدة " ثم استوي إلى السماء وهى دخان " وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف كما سنذكره ونذكر ألفاظهم بعد أن شاء الله
( والثاني ) : مقيد ( بعلي ) كفوله : " لتستووا على ظهوره " وقوله " واستروه على الجودى " وقوله " فاستوي على سوقه " , وهذا أيضا معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة
( والثالث ) : المقرون ( بواو ) مع التي تعدى الفعل إلى المفعول معه نحو : استوي الماء والخشبة بمعنى ساواها
هذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم وليس فيها معنى استولى البتة , ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم وإنما قاله متأخروا النحاة ممن سلك طريق الجهمية والمعتزلة . " ( )

رد ابن تيمية :
وفيما يلي نورد رودود الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى قال :
" والمبطل لتأويل من تأول استوى بمعنى استولى وجوه :
أحدها : أن هذا التفسير لم يفسره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين , فان لم يفسره أحد في الكتب الصحيحة عنهم , بل أول من قال ذلك : بعض الجهمية والمعتزلة , كما ذكره أبو الحسن الأشعري في ( كتاب كامل المقالات وكتاب كامل الإبانة )
الثاني : أن معنى هذه الكلمة مشهور , ولهذا لما سئل ربيعة بن أبى عبد الرحمن ومالك بن أنس عن قوله " الرحمن على العرش استوى " قالا: الاستواء معلوم ، والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . ولا يريد إن الاستواء معلوم في اللغة دون الآية – لأن السؤال عن الاستواء في الآية كما يستوي الناس
الثالث: أنه إذا كان معلوما في اللغة التي نزل بها القرآن كان معلوما في القرآن
الرابع : أنه لو لم يكن معنى الاستواء في الآية معلوما لم يحتج أن يقول الكيف مجهول لأن نفى العلم بالكيف لا ينفى إلا ما قد علم أصله , كما نقول انا نقر بالله ونؤمن به , ولا نعلم كيف هو.
الخامس : الاستيلاء سواء بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك هو عام في المخلوقات كالربوبية , والعرش وإن كان أعظم المخلوقات ونسبة الربوبية إليه لا لنفى نسبتها إلى غيره , كما في قوله " قل من رب السماوات السبع ورب العرش ورب العرش العظيم " وكما في دعاء الكرب فلو كان استوى بمعنى استولى – كما هو عام في الموجودات كلها – لجاز مع إضافته إلى العرش أن يقال : استوى على السماء وعلى الهوى , والبحار والأرض وعليها ودونها ونحوها , إذ هو مستو على العرش . فلما اتفق المسلمون على أنه يقال : استوي على العرش ولا يقال استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال : استولى على العرش والأشياء علم أن معنى استوى خاص بالعرش ليس عاما كعموم الأشياء
السادس : أنه أخبر بخلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوي على العرش , وأخبر أن عرشه كان على الماء قبل خلقها وثبت ذلك في صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان الله ولا شئ غيره , وكان عرشه على الماء , وكتب فى الذكر كل شئ ثم خلق السماوات والأرض " مع أن العرش كان مخلوقا قبل ذلك , فمعلوم أنه مازال مستويا عليه قبل وبعد , فاقتنع أن يكون مازال مستوليا عليه قبل وبعد فامتنع أن يكون الاستيلاء العام هذا الاستيلاء الخاص بزمان كما كان مختصا بالعرش .
السابع : أنه لم يثبت أن لفظ استوي في اللغة بمعنى استولى , اذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور :
ثم استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي , وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه وقالوا : انه بيت موضوع لا يعرف في اللغة وقد علم أنه لو اجتح بحديث رسول الله صلى الله علية وسلم لاحتاج إلى صحته , فكيف بيت من الشعر لا يعرف إسناده ؟ وقد طعن فيه أئمة اللغة , وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتاب كاملة " الإفصاح " قال : سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى فقال هذا مالا تعرفه العرب , ولا هو جائز في لغتها وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمله فهو باطل .
الثامن : أنه روى عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا : لا يجوز استوي بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزا ثم ظهر والله سبحانه لا يعجزه شئ , والعرش لا يغالبه في حال , فامتنع أن يكون بمعنى استولى , فإذا تبين هذا فقول الشاعر : ثم استوى بشر على العراق لفظ مجازى لا يجوز حمل الكلام عليه إلا مع قرينة تدل على ارادته , واللفظ المشترك بطريق الأولى , ومعلوم أنه ليس في الخطاب قرنية أنه أراد بالآية الاستيلاء .
وأيضا فأهل اللغة قالوا : لا يكون استوي بمعنى استولى إلا فيما كان منازعا مغالبا , فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل : استولى , والله لم ينازعه في أحد في العرش , فلو ثبت استعماله في هذا المعنى الأخص مع النزاع في إرادة المعنى الأعم لم يحب حملة عليه بمجرد قول بعض أهل اللغة مع تنازعهم فيه , وهؤلاء ادعوا أنه بمعنى استولى في اللغة مطلقا والاستواء في القرآن في غير موضع , مثل قوله " استويت أنت ومن معك على الفلك " , " واستوت على الجودى " , " لتستوواعلى ظهورها"
وفى حديث عدى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بدابته فلما وضع رجله فى الغرز قال : " بسم الله " فلما استوي على ظهرها قال " الحمد لله "
التاسع : أنه لو ثبت أنه فى اللغة مادة اللغة العربية لم يحب أن يكون من لغة العرب العرباء ولو كان من لفظ بعض العرب العرباء لم يجب أن يكون من لغة رسول الله صلى الله وسلم وقوله ولو كان من لغتة لكان بالمعنى المعروف فى الكتاب كامل والسنة وهو الذي يراد به ولا يجوز أن يراد معنى آخر
العاشر : أنه لو حمل على هذا المعنى لأدى إلى محذور يجب تنزيه بعض الأئمة عنه , فضلا عن الصحابة فضلا عن الله ورسوله , فلو كان الكلام فى الكتاب كامل والسنة كلاما نفهم منه معنى ، ويريدون به آخر , لكان فى ذلك تدليس وتلبيس ومعاذ الله أن يكون ذلك ! فيجب أن يكون استعمال هذا الشاعر فى هذا اللفظ فى هذا المعنى ليس حقيقة بالاتفاق , بل حقيقة فى غيره , ولو كان حقيقة فيه للزم الاشتراك المجازى فيه . وإذا كان مجازا عن بعض العرب أو مجازا اخترعه من بعده , أفنترك اللغة التي يخاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ؟!
الحادي عشر : أن هذا اللفظ – الذي تكرر فى الكتاب كامل والسنة والدواعي متوفرة على فهم محذور من الخاصة والعامة عادة ودينا – أن جعل الطريق إلى فهمه بيت شعر أحدث فيؤدى إلى محذور , فلو حمل على معنى هذا البيت للزم تخطئة الأئمة الذين لهم مصنفات فى الرد على من تأول ذلك , ولكان يؤدى إلى الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة , وللزم أن الله امتحن عباده بفهم هذا دون هذا مع ما تقرر فى نفوسهم وما ورد به نص الكتاب كامل والسنة , والله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها , وهذا مستحيل على الله ورسوله والصحابة والأئمة .
الثاني عشر : أن معنى الاستواء معلوم علما ظاهرا بين الصحابه والتابعين وتابعيهم , فيكون التفسير المحدث بعده باطلا قطعا , وهذا قول يزيد بن هارون الواسطى فانه قال : أن من قال " الرحمن على العرش استوي " خلاف ما تقرر فى نفوس العامة فهو جهمى , ومنه قول مالك : الاستواء معلوم ,وليس المراد أن هذا اللفظ فى القرآن معلوم كما قال بعض الناس : استوى أم لا ؟ أوانه سئل عن الكيفية ومالك جمعها معلومة . والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه , فقد تكلم فيه الصحابة والتابعون , وإنما البدعة السؤال عن الكيفية.
ومن أراد أن يزداد فى القاعدة نورا فلينظر فى شئ من الهيئة وهى الإحاطة والكريه ولابد من ذكر الإحاطة ليعلم ذلك أ 0 هـ ( )

رد الإمام القرطبي :
وقد أجاب أيضا الإمام القرطبي على هذه الشبهة بكلام بسيط مانع قريب من الكلام السابق فقال " الاستواء بمعنى القهر والغلبة فيه نظر وذلك لأن الله سبحانه لم يزل قادرا قاهرا عزيزا غالبا مقتدرا وقوله " ثم استوي على العرش " يقتضى استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فبطل ما قالوه . وكذلك إذا روعي هذا المعنى فى أن العرش بمعنى الملك وأن الله عز وجل لم يزل ملكا مالكا بطل فتأمله. " ( )
رد الإمام أبو الحسن الأشعري :
قال الإمام أبو الحسن الأشعري فى كتاب كاملة الإبانة عن أصول الديانة " وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن معنى قول الله تعالى : " الرحمن على العرش استوي " . أنه استولى وملك وقهر وأن الله تعالى فى كل مكان , وجحدوا أن يكون الله عز وجل مستو على عرشه , كما قال أهل الحق , وذهبوا فى الاستواء إلى القدرة .
ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة ، لأن الله تعالى قادر على كل شئ , والأرض السابعة , لأن الله تعالى قادر على كل شئ , والأرض لله سبحانه قادر عليها , وعلى الحشوس وعلى كل ما فى العالم فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء , وهو تعالى مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش , وعلى الأرض وعلى السماء , وعلى الحشوس , والأفراد , لأنه قادر على الأشياء مستول عليها , وإذا كان قادرا على الأشياء كلها لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول : إن الله تعالى مستول على الحشوس والأخيلة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا , لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام فى الأشياء كلها , ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها." ( )
الـــرد على الشـــــبهة الثانــــــية :-
يقول شارح العقيدة الطحاوية ( ومن تأول " فوق " بأنه خير من عبادة وأفضل منهم وأنه خير من العرش وأفضل منه كما يقال : الأمير فوق الوزير , والدينار فوق الدرهم , فذلك مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة , فان قول القائل ابتداء : الله خير من عبادة وخير من عرشه من جنس قوله الثلج بارد والنار حارة والشمس أضوأ من السراج والسماء أعلى من سقف الدار والجبل أثقل من الحصى ورسول الله أفضل من فلان اليهودي والسماء فوق الأرض وليس فى ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه , فكيف يليق بكلام الله الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا , بل فى ذلك تنقص كما قيل فى المثل السائر :
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصي
ولو قال قائل : الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك لضحك منه العقلاء للتفاوت الذي بينهما فان التفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم بخلاف ما إذا كان المقام يقتضى ذلك بأن كان احتجاجا على مبطل كما فى قول يوسف الصدق عليه السلام : " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " ( يوسف 39 )وقوله تعالى: الله خير أما يشركون " ( النمل: 59 ) . " والله خير وأبقى " (طه: 73) )( )
الــــــرد على الشـــــــبهة الثالــــثة :
والقول أن الاستواء بمعنى العلو بالغنى عن العرش " فاسد لأن العرب تقول : استغنيت عن الشئ ولا تقول استغنيت على الشئ ولأنه لو كان بمعنى الاستغناء لأدى إلى أن يكون إنما استغنى بعد خلق العرش ولما كان البارئ موصوفا بأنه لم يزل غنيا عن العرش دل على بطلانه لأنه لو كان كذلك لم يكن لتخصيص العرش بالذكر فائدة إذ هو غنى عن الأشياء كلها " ( )

الرد على الشبهة الرابعة
والقول بأن المراد بالاستواء الانفراد بالتدبير " غير صحيح لأنه يقال : انفرد بكذا ولا يقال انفردت على كذا , ثم انه يؤدى إلى أنه لم يكن منفردا بالتدبير حتى خلق العرش وهذا فساده يغنى عن جوابه " ( )
الرد على الشبهة الخامسة :
وأصحابه هذا القول يقولون أن المراد بالعرش جملة المملكة وهذا غير صحيح أيضا لقوله تعالى : " وترى الملائكة حافين من حول العرش " ( الزمر :75 ) وما كان حول العرش فهو خارج عنه فلو كان العرش جملة المملكة لأدى ذلك إلى أن يكون الملائكة وغيرها خارجة عن جملة المملكة . وهذا فساده يغنى عن جوابه مع ما جاء فى الأخبار بأنه السرير . يوضح فساده قوله تعالى إخبارا عن سليمان عليه السلام : " أيكم يأيتنى بعرشها " (النمل : 38 ) أي السرير دون بقية مملكتها وقوله تعالى: " ورفع أبوية على العرش " ( يوسف: 100 ) أي السرير دون سائر مملكته فدل على ما قلناه ( )
الرد على الشبهة السادسة :
وقال البعض : أن الوقف على " علا" والعرش كلام مستأنف . قال الإمام أبو بكر المرادى : وهذا مما لا ينبغى أن يحكى لاستحالته وبعده عما نقله أهل التواتر
قلت – والقول للقرطبى – ذكر البيهقى بإسناده عن أبى عبد الله محمد بن زياد الأعرابي صاحب النحو قال : قال لي أحمد بن أبى داود يا أبا عبد الله يصح هذا فى اللغة ومخرج الكلام الرحمن علا من العلو فقد تم الكلام , ثم قلت : العرش استوى يجوز أن رفعت العرش لأنه فاعل ولكن إذا قلت له ما فى السماوات وما فى الأرض فهو العرش فهذا كفر " ( )

الرد على الشبهة السابعة :
و هي ما رواه محمد بن مروان عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس فى قوله : ثم استوي على العرش " يقول استوي عنده الخلائق القريب والبعيد فصاروا عنده سواء وعنه عن ابن عباس فى قوله : ثم استوي على العرش " يقول استقر على العرش ويقال : امتلأ به . ويقال : قائم على العرش وهو السرير . وأبو صالح والكلبى ومحمد بن مروان كلهم متروك عند أهل الحديث ولا يحتجون بشئ من رواياتهم . وقال حبيب بابن أبى ثابت كنا نسميه الدروغزن يعنى أبا صالح مولى أم هانئ والدروغزن هو الكذاب بلغة الفرس وذكر على بن المدينى قال : سمعت يحيى بن سعيد القطان يحدث عن سفيان قال : قال الكلبى قال أبو صالح : كل ما حدثتك كذب . وقال محمد بن السائب : أبو النضر الكلبى الكوفي تركه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وقال يحيى بن معين : الكلبى ليس بشئ . وقال البخاري : محمد بن مروان الكوفي صاحب الكلبي سكتوا عنه لا يكتب حديثه البتة . قال البيهقى : وكيف يجوز أن يكون مثل هذه الأقاويل صحيحة عن ابن عباس ثم لا يرويها ولا بعضها أحد من أصحابه الثقات الأثبات مع شدة الحاجة إلى معرفتها ؟ وما تفرد به الكلبى وأمثاله يوجب الحد , والحد يوجب الحدث لحاجة الحد إلى حادٍّ خصه به والبارئ قديم لم يزل , وأما استوى على العرش بمعنى استوي عنده الخلائق ففيه ركاكة ومثله لا يليق بابن عباس وإذا كان الاستواء بمعنى استواء الخلائق فإيش المعنى فى قوله " استوى على العرش " ( )


المطلـــب الســـادس
(1) الرد على شبهتهم فى الاعتراض على الدليل الفطري
- يقول ابن أبى العز " وأجيب على هذا الاعتراض من وجوه :
أحدها: أن قولكم إن السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله بن من سلطان , وهذا من الأمور الشرعية الدينية , فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
الثاني : أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة فانه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة فى دعائه فى مواطن كثيرة , فمن قال : إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة أو أن له قبلتين : إحداهما الكعبة والأخرى السماء فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين .
الثالث : - أن القبلة هي ما يستقبله العابد بوجهة كما تستقبل الكعبة فى الصلاة والدعاء والذكر والذبح , وكما يوجه المحتضر والمدفون ولذلك سميت , وجهة , والاستقبال خلاف الاستدبار فالاستقبال بالوجه والاستدبار بالدبر , فأما ماحاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة , لا حقيقة ولا مجازا فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها , وهذا لم يشرع ، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة لا حقيقة ولا مجازا , ولأن القبلة فى الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقبل السماء بوجهه بل نهوا عن ذلك , ومعلوم أن التوجه بالقلب واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطرى يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل , وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل , كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة , وأمر التوجه فى الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز فى الفطر , والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك بخلاف الداعي فانه يتوجه إلى ربه ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده .
وأما النقص بوضع الجبهة فما أفسده من نقص فان واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له لا أن يميل إليه إذ هو تحته , هذا لا يخطر فى قلب ساجد , لكن يحكى عن بشر المريسى أنه سمع وهو يقول فى سجوده : سبحان ربى الأسفل , تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا , وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال حرى أن يتزندق إن لم يتداركه الله برحمته , وبعيد من مثله الصلاح , قال تعالى " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " (الانعام: 110) وقال تعالى " فلما زاعوا أزارع الله قلوبهم " (الصف :5) . فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان , نسأل الله العفو والعافية ." ( )

" وذكر محمد بن طاهر المقدسى أن الشيخ أبا جعفر الهمدانى حضر مجلس أبى المعالي الجوينى المعروف بإمام الحرمين وهو يتكلم فى نفى صفة العلو ويقول : كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان , فقال أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها فى قلوبنا , فانه ما قال عارف قط ياالله إلا وجد فى قلبه ضرورة طلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف تدفع بهذه الضرورة عن أنفسنا ؟ قال : فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل , وأظنه قال: وبكى وقال :حيرني الهمدانى حيرني ، أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عبادة من غير أن يتلقوه من المرسلين , يجدون فى قلوبهم طلباً ضروريا يتوجه إلى الله ويطلبه فى العلو. " ( )

(2) الرد على شبهتهم فى الاعتراض على الدليل العقلي
" وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته لأنه أنكرة جمهور العقلاء فلو كان بديهيا لما كان مختلفا فيه بين العقلاء بل هو قضية وهمية خيالية ( )
ثم يقول ابن أبى العز فى رد على هذا " إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل , وان رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم ردا , فان كان قولنا باطلاً فى العقل فقولكم أبطل وان كان قولكم حقا مقبولا فى العقل فقولنا أولى أن يكون مقبولا فى العقل , فان دعوى الضرورة مشتركة , فانا نقول : نعلم بالضرورة بطلان قولكم وأنتم تقولون كذلك , فإذا قلتم : تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل قابلناكم بنظير قولكم , وعامة فطر الناس ليسوا منكم ولامنا موافقون لنا على هذا , فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً تحرجنا عليكم وان كان مردودا غير مقبول بطل قولكم بالكلية , فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية , وبطلت عقلياتنا أيضا وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم , فنحن مختصون بالسمع دونكم والعقل مشترك بنينا وبنيكم .
فان قلتمة : أكثر العقلاء يقولون بقولنا.
قيل : ليس الأمر كذلك فان الذين يصرحون بأن صانع العالم شئ موجود ليس فوق العالم وأنه لا مباين للعالم ولا حالٌّ فى العالم طائفة من النظار وأول من عرف عنه ذلك فى الإسلام جهم بن صفوان وأتباعه .
وأخيرا:
بعد عرض هذه الشبهات والرد على بعضها تقول لهم قولا واحدا مجملا:
عليكم بشمولية المنهج :
فنلزمهم هنا بقولهم , ونقول : " القول فى الصفات كالقول فى بعض فلا يجوز أن نثبت بعض الصفات وننازع فى باقي الصفات , أو نردها بالتعطيل والتأويل بغير دليل لأن منهج السلف واحد فى كل الصفات , إما أن تثبت الجميع وتكون مؤمنا , أو ترد الجميع وتكون جاحدا معطلا , أما إثبات البعض ورد البعض تحت أي حجة فهذا عمل اليهود بكتاب كامل الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم " ( )
فإذا قلنا لهم لم تنفون صفة العلو ؟ سيقولون لأنها توهم الجسمية والانقسام وذلك من صفات المخلوقين .
قيل لهم : القول فى العلو كالقول فى الإرادة مثلا .
فإنكم تثبتون الإرادة مع أن " الإرادة والمشيئة فينا. فهى ميل الحى الى الشئ أو الى ما يلائمه ويناسبه , فإن الحى منا لايريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة , وهو محتاج إلى ما يريده ويفتقر إليه , ويزداد بوجوده وينتقص بعدمه , فالمعني الذي صرفت إليه اللفظ كالمعني الذي صرفته عنه سواء , فان جاز هذا جاز ذاك وإن امتنع هذا امتنع ذاك .
فإن قالوا: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وان كان كل منهما حقيقة . " ( )
قيل لهم : إذن قولوا في العلو مثلما تقولون في الإرادة لكي تسلموا " من التناقض وتسلم أيضا من تعطيل معني أسماء الله تعالي وصفات جزائريةه بلا موجب , فان صرف القرآن عن ظاهرة وحقيقته بغير موجب حرام ولا يكون الموجب للصرف ما دل عليه عقله , إذ العقول مختلفة فكلٌ يقول إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر ." ( )

ونختم بكلمات لصاحب معارج القبول . حيث يقول تعليقا على تكذيب فرعون لموسى عليه السلام بأن الله رب العالمين و أنه فوق السماء : " فكل جهمى ناف لعلو الله عزوجل فهو فرعونى وعن فرعون أخذ دينه , وكل سنى يصف الله تعالى بما وصف به
نفسه أنه استوى على عرشه بائن من خلقه فهو موسوى محمدى متبع لرسل الله وكتبه .

ثم يقول : " وبالجملة فجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام وجميع كتبه المنزلة وجميع أهل السماوات و مؤمنى أهل الارض من الجن والانس أتباع رسل الله وجميع الفطر السليمة والقلوب المستقيمة التى لم تجتلها الشياطين عن دينها جميعها شاهدة حالاً ومقالاً أن خالقها وفاطرها ومعبودها الذى تألهه وتفزع اليه و تدعوه رغباً ورهباً هو فوق كل شئ عال على جميع خلقه استوى على عرشه بائناً من مخلوقاته و هو يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى حركاتهم و سكناتهم و جميع تقلباتهم و أحوالهم لايخفى عليه منهم خافية , ولهذ ترى جميع المؤمنين عالمهم وعاميهم وحرهم و مملوكهم و ذكرهم و أنثاهم و صغيرهم و كبيرهم كل منهم اذا دعا الله تبارك وتعالى فى جلب خير أو كشف مكروه إنما يرفع يديه ويشخص ببصره الى السماء الى جهة العلو الى من يعلم سره ونجواه متوجهاً إليه بقلبه و قالبه يعلم أن معبوده فوقه و أنه إنما يدعى من أعلى , لا من أسفل كما يقوله الجهمية قبحهم الله تعالى وتنزه عما يقولون علواً كبيراً ."

مجموعة المراجع :

1- أم البراهين -- القاطعة لشبهات المعطلين والموؤلين والمفوضين لصفات رب العالمين الشخ حامد العلى

2- الاسنى فى شرح مفصل أسماء الله الحسنى القرطبى

3- شرح مفصل العقيدة الطحاوية ابن ابى العز

4- المحاضرة الخامسة عشرة من محاضرات أصول العقيدة د/ محمود عبد الرازق الرضوانى

5- شرح مفصل صحيح مسلم النووى

6- مختصر الصواعق المرسلة محمد بن الموصلى

7- الابانة عن أصول الديانة أبو الحسن الاشعرى

8- الرسالة التدمرية ضمن مجموع الفتاوى نقلا عن " مختصر القواعد السلفية " د/ محمود عبد الرازق الضوانى

9-معارج القبول الشيخ حافظ أحمد حكمى
منقول





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©