المفوضة في ميزان أهل السنة




بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
أما بعد، فلا ريب في عِظم فضل وكبر شرف العلم بأسماء الله وصفات جزائريةه الواردة في كتاب كامله وسنة رسوله وفهمها فهماً صحيحاً سليماً بعيداً عن تحريفات المحرّفين وتأويلات الجاهلين؛ وفي ذلك سوف نتناقش في بدعة من أشنع البدع والتي أفضت إلى تعطيل صفات الرحمن جل وعلا ، بل ونسبت إلى السلف الصالح_وحاشاهم_ ألا وهي بدعة التفويض ، أي تفويض معاني صفات الرحمن التي وردت في الكتاب كامل والسنة إلى الله عز وجل ، وكأن الله عز وجل قد خاطبنا بطلاسم لا نفهم معناها وقد قال تعالى (( كتاب كامل أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكرا أولو الألباب)) وقال أيضا ((بلسان عربي مبين)) ، بل اعتقد كثير من الناس مذهب جماهيير السلف هو التفويض، فلما كان الأمر كذلك ، وجب علينا توضيح خطأ هذه النسبة عن سلفنا الصالح رضي الله عنهم.
يقول أبو الحسن الأشعري رحمه الله في الإبانة : (ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه، فلما كان من لايحسن لسان العرب لا يحسنه، وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه، على أنهم إنما علموه لأنه بلسانهم نزل وليس في لسانهم ما ادعوه) اهــ
ويقول أيضا : ( وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة، وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهومافي كلامها ومعقولا في خطابها) اهــولم يتوقف الأمر على بدعة التفويض بل نسبوا عقيدتهم الى السلف الصالح !! لكي يضمنوا استمرار منهجهم الفاسد ,وقد بيّن الائمة من العلماء الاجلاء من اهل السنة الذين تصدوا لهم.. بيّنوا تلبيسهم و تدليسهم و لله الحمد و المنة ومن الجدير بالذكر أن الجهمية كانوا يحاربون على صرف آيات الصفات عن معناها الظاهر ، ويصفون أهل السنة بالمشبهة والمجسمة حتى قال أبو حاتم الرازي (علامة الجهمية تسمية أهل السنة مشبهة!) ، فإن كان السلف الصالح مفوضة ، فلم يكن لإتهام الجهمية لهم بالتشبيه أي وجه من الوجوه!

ولقد رد القشيري في التذكرة الشرقية على المفوضةلذلك سوف أذكر طرفا من نقد علماء أهل السنة للمفوضة في فصل مستقل ثم أذكر نقد الأشاعرة للمفوضة فصل آخر، لذلك سوف أنظم هذا البحث في فصول:



1- فصل: إعتناء النبي صلى الله عليه وسلم ببيان معاني الصفات للصحابة رضي الله عنهم.
2- فصل: تقسيم المفوضة إلى مفوضة يقرون الظواهر ومفوضة لا يقرون
3- فصل:كلام السلف في إثبات الصفات على ظواهرها.
4- فصل:كلام السلف وأهل السنة في إثبات المعنى اللغوي.
5- فصل:ذكر أقوال السلف وعلماء السنة في ذم التفويض والمفوضة.
6- فصل: ذم الأشاعرة للمفوضة.
7- فصل:هل كان السلف يثبتون معاني بعض الصفات ويفوضون بعضها.
8- فصل: في ذكر أن الإستواء معلوم ومعقول وكذلك باقي الصفات.
9- فصل: ذكر حجج المخالفين والإجابة عليها.



توطئة



التفويض في الغة : » التسليم وترك المنازعة « [1]

يُقال : فوّض إليه الأمر تفويضا إذا ردّه إليه ، وجعله الحاكم فيه « (
[2]) .

يقول صاحب كتاب كامل جوهرة التوحيد


وكلُّ نص أوهمَ التشبيها ** أوّله أو فوّض ورُمْ تنزيها


نجد أنّ المفوّضة يقصدون بتفويض نصوص الصفات هو القطع بأنَّ ظاهر معناها غير مراد



ولقد تناقض المفوضة في كثير من المباحث ، فمن ذلك أنهم يقولون (نثبت ما اثبته الله لنفسه) لكنا لا نعلم معناه ،وهذا من اللغو ، إذ كيف تثبت شيئا لا تفهم معناه يعني تثبت طلاسم! ومن عجيب تناقضهم أيضا قول بعضهم (إجراء الصفات على ظواهرها ، ولا يعلم تأويلها إلا الله) فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف ظاهرها


يقول ابن القيم: ((ثم تناقضوا أقبح تناقض فقالوا : تجري على ظواهرها وتأويلها مما يخالف الظواهر باطل ،ومع ذلك فلها تأويل لا يعلمه إلا الله ، فكيف يثبتون لها تأويلا ويقولون تجرى على ظواهرها ،ويقولون: الظاهر منها مراد والرب منفرد بعلم تأويلها وهل في التناقض أقبح من هذا؟!!)[3] ..وأيضا قولهم (لا نعلم معنى الصفات ولا كيفيتها) وهذا تناقض جلي لأن تفويض الكيف بعد تفويض المعنى لغو من القول فما الذي يجعلك تنفي الكيفية مادمت لا تفهم المعنى!

.وتناقضاتهم في هذا الباب أكثر من أن تحصى ، وقد تتبع شيخ الإسلام وابن القيم تناقضهم وبينوها أحسن تبيان ..وآفة ذلك أنهم لم يفهموا عقيدة السلف وظنوا أنها تفويض

فتلقوا بعض كلماتهم الموهمة بالتفويض كقول السلف (ونكل علمها إلى الله) أو (لا تفسر) أو (لا كيف ولا معنى) وما شابه ذلك

فلما رأى بعضهم كلاما من السلف يخالف تلك العبارات كقول السلف (إثبات ما ثبته الله لنفسه) أو (إجراؤها على ظواهرها ) فحاولوا التوفيق بين هذه وتلك ، فتناقضوا !

وسوف نثبت_بإذن الله_ بالحجج القطعية و بنصوص واضحة جلية بأن السلف يثبتون المعنى اللغوي للصفات ولا يفوضونه ، بما لا يدع مجالا للشك، كما سيأتي بيانه على وجه التفصيل في الفصول القادمة بإذن الله .



فصل:


إعتناء النبي صلى الله عليه وسلم ببيان معاني الصفات للصحابة رضي الله عنهم




*قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته. تجر زمامها بأرض قفر ليس بها طعام ولا شراب. وعليها له طعام وشراب. فطلبها حتى شق عليه. ثم مرت بجذل شجرة فتعلق زمامها. فوجدها متعلقة به؟" قلنا: شديدا[أي فرحه]. يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما، والله! لله أشد فرحا بتوبة عبده، من الرجل براحلته". أخرجه مسلم.


هكذا يعتني عليه الصلاة والسلام ببيان المعاني لأصحابه وتوضيح المراد غاية التوضيح ففي صفة الفرح ضرب لهم مثلاً بأشد ما يكون فيه الفرح وهو فرح رجل في صحراء مهلكة قد انفلتت دابته وعليها طعامه وشرابه فأيس منها واستظل بظل شجرة ينتظر الموت فإذا براحلته وعليها طعامه وشرابه ففرح الرجل بذلك وليس في المخلوق فرح أشد من هذا فإذا عقل السامع عظم هذ الفرحة وشدتها فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الله أشد فرحا بتوبة عبده، من هذا الرجل براحلته وهل هناك تحقيق للمراد وتوضيحه أكثر من هذا .؟


*عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار). قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها).رواه البخاري.


وهاهنا في صفة الرحمة ضرب لهم مثلاً بأشد ما يكون فيه الرحمة وهو رحمة امرأة وفيه بيان لمعنى الرحمة فإذا عقل السامع علم عظم هذه الرحمه وفهمها فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الله أرحم بعباده من هذه بولدها .


*قال صلى الله عليه وسلم ((يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه فيقول: أنا الله-[وجعل رسول الله] يقبض أصابعه ويبسطها-. أنا الملك)) حتى قال ابن عمر :نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه. حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

والحديث أخرجه مسلم و أبو داود في الرد على الجهمية وابن خزيمه في التوحيد (باب تمجيد الرب عز وجل نفسه)


والسؤال هنا : لماذا يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ويبسطها حين ذكر أن الله يأخذ سماواته وأرضيه بيديه ؟


الجواب: هو أنه صلى الله عليه وسلم يعتني ببيان المعاني لأصحابه وتوضيح المراد غاية التوضيح كما وضحنا من قبل .


*أخرج البخاري ومسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ، يتكفؤها الجبار بيده ،كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة..."الخ


كذلك قوله (كما يكفأ...) فيه بيان انه صلى الله عليه وسلم يعتني ببيان المعاني لأصحابه وتوضيح المراد غاية التوضيح."


*و في الحديث الذي رواه ابن ماجة من حديث أَبِو رزين؛قَالَ:

قَالَ رَسُول اللَّه صَلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلمْ: (ضحك ربنا من قنوطعباده وقرب غيره) قَالَ، قلت: يا رَسُول اللَّه! أَوْ يضحك ربنا؟ قَالَ (نعم) قلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً. )


قلت : فهذا السؤال و الاستفسار منأبي رزين للرسول صلى الله عليه و سلم : أويضحك ربنا ؟.؟ و أجابة النبي صلى اللهعليه و سلم بالايجاب , و عدم انكاره عليه , وعدم إرشاده لتفويض معنى الضحك ولم يقل له النبي : "إنتبه إن ذلك لا نعلم معناه!" بل ترك الصحابي بفطرته , كل هذادليل صريح واضح ان النبي صلى الله عليه و سلم يقصد ما يقوله من الفاظ الصفات . و لوكان فيها تفويضا للمعنى لأرشدنا إليه


والسؤال هنا:


هل هؤلاء المفوضة أغيَََر من النبي صلى الله عليه وسلم على الله؟؟؟؟ الجواب: عند كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد




فصل :


تقسيم المفوضة إلى مفوضة يقرون بالظواهر ولايقرون بالظواهر



* يمكن تقسيم المفوضة إلى نوعين:


1- النوع الأول : مفوضة لا يقرون بظواهر النصوص لأن القول بالظاهر يفضي إلى التشبيه، ، وهؤلاء يصادمون السلف ويخالفونهم جهرة بنفيهم الظواهر.


2- النوع الثاني : مفوضة يقولون نؤمن بظواهر النصوص، لما علموا أن السلف يثبتون الظاهر إلا أنهم يقولون إن معاني الصفات لا نعلمها ، كما أن للصفات تأويل لا يعلمه إلا الله، وهؤلاء قد وقعوا في تناقض عجيب!..


ولا يوجد خلاف بين الفريقين أصلا لأن الفريق الثاني لا يثبت الظواهر كما يدعي

وعلى كل حال فإن كلا الفريقين يجتمعان على أن المعنى اللغوي غير مراد وسوف أبين بطلان ذلك من كلام السلف كما سيأتي تفصيله


مع ملاحظة أنني سوف أتجنب النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، لأن بعض السفهاء يعتقدون بأن أول من قال بإثبات المعنى هو ابن تيمية وهذا أيضا كذب وافتراء على شيخ الإسلام كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى


جاء في(كتاب كامل أهل السنة الأشاعرة) الذي قرظه كبار علمائهم في هذا العصر:


((صرف الكلام عن الحقيقة والظاهر ، ثم بعد صرفه عن الظاهر، ...ويوكل العلم به إلى الله وهذا هو التفويض الذي عليه جماهيير السلف الصالح...))


قلت : ولا شك أن هذا كذب وافتراء على السلف الصالح رضي الله عنهم ، وفي الفصل التالي كلام علماء أهل السنة في إثبات ظواهر النصوص




فصل :


كلام السلف وأهل السنة في إثبات الصفات على ظواهرها




قال ابن سريج الشافعي (303هـ) : ((ونسلم الخبر لظاهره والآية لظاهر تنزيلها ولا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة و المجسمة والمشبهة
[4] ..)

قال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني : مذهب مالك والثوري والأوزاعيوالشافعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد واحمد ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بنمهدي وإسحاق بن راهوية ، أن صفات الله التي وصف بها نفسه ، ووصفه بها رسوله من: السمع والبصر والوجه واليدان وسائر أوصافه ، إنما هي على ظاهرهاالمعروف المشهورمن غير كيف يتوهم فيها ، ولا تشبيه ولا تأويل، قال ابن عيينة: كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره ، أي :هو على ظاهره ، لايجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل))
[5]

قال البغوي"أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكِل علم كنهها إلى الله، ويعتقد أن الله منزه عن سمات الحدوث، على ما كان عليه أئمة السلف وعلماء السنة [6])


قال الخطابي

(فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها في الكتاب كامل والسنة، فإن مذهب السلفإثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها
[7]،)

قال الخطيب البغدادي ناقلا مذهب السلف (( أما الكلام في الصفات ، فإن ما روي في السنن والصحاح ،مذهب السلف إثباتها، وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه) (ذم التأويل للمقدسي ص15)
[8]

ثم بعد ذلك يقول الأشاعرة في كتاب كاملهم (أهل السنة الأشاعرة) ما نصه :


((ونحن نتسائل بعجب...ونقول : وهل بين التكييف والقول بظواهر هذه النصوص فرق؟!!)اهـ


سوف أترك التعليق للقراء!!!!


قلت: فلما أدرك بعض من المفوضة كلام السلف في إثبات ظواهر النصوص ، صاروا يقولون إنه لا تعارض بين التفويض وإثبات الظواهر إذ أن السلف أثبتوا الظاهر ولم يثبتوا معناه المعروف في اللغة !! وهذا من أشنع التناقض كما قال ابن القيم وهم النوع الثاني،


يتبع بإذن الله
-------------

([1]) » المغرب في ترتيب المعرب « (2/152)

([2])» النهاية « لابن الأثير (3 /479)

[3] (الصواعق المرسلة2/423)

[4](أجوبة ابن سريج في أصول الدين 86، وأورده الذهبي في العلو208وابن القيم في اجتماع الجيوش 174)


[5]مختصر العلوص281-282.

[6] مختصر العلو للشيخ الألباني ص280

[7] سير أعلام النبلاء18/284مختصر العلو ص257

.
[8](ذم التأويل للمقدسي ص15)





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©