آفة المتعالمين والمخرج من ذلك.





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:

فإن لكل شيء آفة، ولكل آفة مخرج ودواء في هذه الحياة، ولقد ابتليت الأمة الإسلامية اليوم بالتعالم والمتعالمين في دين الدين الله تعالى، فكثر المتكلمون في الشريعة الاسلامية الله تعالى على غير بصيرة وبغير علم ولا فهم للكتاب كامل والسنة، فأخذوا العلم عن القراطيس والصحف والكتب وتركوا الأخذ عن الرجال الذين هم أهل العلم وحملته، فنشأت الفوضى العلمية التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم، فهؤلاء أطلق عليهم شيخنا الفوزان "مشايخ الورق" وقال عنهم بعض أصحابنا "مشايخ الغفلة"، وهم كما نقل ابن جماعة الكناني قوله:" وكان بعضهم يقول: "من أعظم البلية تشيخ الصحيفة. أي الذين تعلموا من الصحف".
فمن لم يُعرف عنه أخذه للعلم عن العلماء ولم يُشهد له بالطلب ولم يُشتهر بذلك؛ فحريٌ أن لا يُصَدّر مجالس العلم ومنابر الفتوى ولا يُشار إليه بالبنان ولا يُجلس إليه.
قال: قال ابن جابر: "لا يؤخذ العلم إلا ممن شهد له بالطلب"، قال أبو زرعة: فسمعت
أبا مسهرٍ يقول: " إلا جليس العالم فإن ذلك طلبه"، قال الخطيب ـ البغدادي ـ: "أراد أبو مسهر بهذا القول؛ أن من عُرفت مجالسته للعلماء وأخذه عنهم ، أغنى ظهور ذلك من أمره أن يسأل عن حاله، والله أعلم". "الكفاية في علم الرواية" (ص:149).ط. 1410هـ.




الأمر بأخذ العلم الشرعي من حملته:



قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَخُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ)، ثَلاثًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَنْفَدُ، وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟ فَغَضِبَ لا يُغْضِبُهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، أَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ فِي بني إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ ذَهَابُ حَمَلَتِهِ)"ثَلاثًا. أخرجه "الطبراني في الكبير" وسنده حسن في الشواهد والمتابعات، وله شاهد عند أحمد والترمذي.
وهذا الحديث وأمثاله؛ يقرر وجوب الأخذ من العلماء والتلقي عنهم وليس من الكتب والصحف والأوراق.
روى صالح ابن الإمام أحمد عن أبيه قال:
سمعت أبى يقول: ما الناس إلا من قال: حدثنا وأخبرنا. ولقد التفت المعتصم إلى أبى فقال له: كَلِّم ابن أبى دؤاد، فأعرض عنه أبى بوجهه، قال: "كيف أكلم من لم أره على باب عالم قط" . "الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع" (28) للقاضي عياض.
وهذا أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي الأسدي
من أئمة المالكية بالمغرب، والمتسمين في العلم، المجيدين للتأليف، كان ينكر على معاصريه من علماء القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد، وبقاؤهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك.
فأجابوه: أسكت لا شيخ لك.
أي لأن درسه كان وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنما وصل الى ما وصل بإدراكه، ويشيرون أنه لو كان له شيخ يفقهه حقيقة الفقه لعلم أن بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقية صالحة للإيمان، وأنهم لو خرج العلماء عن إفريقية لتشرّق من بقي فيها من العامة الألف والآلاف فرجحوا خير الشرين. اهـ. من كتاب كامل: "ترتيب المدارك وتقرير المسالك" (4/623).


وأخرج الدارمي في "سننه"(467): عَنِ الأَوْزَاعِىِّ قَالَ : "مَا زَالَ هَذَا الْعِلْمُ عَزِيزاً يَتَلَقَّاهُ الرِّجَالُ حَتَّى وَقَعَ فِى الصُّحُفِ فَحَمَلَهُ أَوْ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ". "المدخل" للبيهقي (1/410/رقم:741) تحقيق: الأعظمي.

وقال سليمان بن موسى: "لا يؤخذ العلم من صحفي". "التمهيد" (1/46) لابن عبد البر.


قال أحدهم:
ولا تأخذه من صُحف فتُرمى من التصحيف بالداء العضال



العلم يؤخذ بالتلقي من العلماء:


قال أحدهم:
وإنك لن ترى للعلم شيئاً يحققه كأفواهِ الرجالِ
فكن يا صاح ذا حرصٍ وخذه عن الرجال بِلا مَلال
قال الشاطبي في "الموافقات": هم ـ جمهور الأمة ـ مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلِّم، علما كان المعلَّم أو عملا، واتفاق الناس على ذلك فى الوقوع وجريان العادة به كاف فى أنه لا بد منه وقد قالوا: "إن العلم كان فى صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب وصارت مفاتحه بأيدى الرجال"، وهذا الكلام يقضى بأن لا بد فى تحصيله من الرجال إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم وأصل هذا فى الصحيح:
( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء ..) الحديث. فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتحه بلا شك
فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به وهذا أيضا واضح فى نفسه وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء إذ من شروطهم فى العالم بأي علم اتفق؛ أن يكون عارفا بأصوله وما ينبنى عليه ذلك العلم قادرا على التعبير عن مقصوده فيه عارفا بما يلزم عنه قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه وعرضنا أئمة السلف الصالح فى العلوم الشرعية وجدناهم قد أتصفوا بها على الكمال". اهـ.

وقال: "وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم وإن خالفتها فى النظر وهى ثلاث:
إحداها: العمل بما علِم حتى يكون قوله مطابقا لفعله فإن كان مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يقتدى به فى علم .


والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ فى ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك وهكذا كان شأن السلف الصالح .
فأول ذلك ملازمة الصحابة رضى الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأخذهم بأقواله وأفعله واعتمادهم على ما يرد منه كائنا ما كان وعلى أي وجه صدر فهم فهموا مغزى ما أراد به أو لا حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذى لا يعارض والحكمة التى لا ينكسر قانونها ولا يحوم النقص حول حمى كمالها وإنما ذلك بكثرة الملازمة وشدة المثابرة".

والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبى صلى الله عليه و سلم واقتداء التابعين بالصحابة وهكذا فى كل قرن وبهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه أعنى بشدة الإتصاف به وإلا فالجميع ممن يهتدى به فى الدين كذلك كانوا ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة فى هذا المعنى فلما تُرك هذا الوصف رَفعت البدع رؤوسها، لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك أصله اتباع الهوى".اهـ.




فوائد الملازمة والانقياد للعلماء والصبر عليهم:


قال الشاطبي في "الموافقات": وتأمل قصة عمر بن الخطاب فى صلح الحديبية حيث قال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: (بلى)، قال: أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار؟ قال: (بلى)، قال: ففيم نعطى الدنية في ديننا ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: (يا ابن الخطاب! إنى رسول الله ولم يضيعنى الله أبدا). فانطلق عمر ولم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال له: مثل ذلك. فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبدا ، قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه فقال: يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال: (نعم). فطابت نفسه ورجع .
فهذا من فوائد الملازمة والانقياد للعلماء والصبر عليهم فى مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان. وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين:
أيها الناس اتهموا رأيكم والله لقد رأيتنى يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لرددته. اخرجه البخاري، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم والتباس الأمر ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس".اهـ.



عاقبة من يفارق العلماء؛ الزيغ والمخالفة للسنة:


قال الشاطبي ـ استكمالاً لماسبق ـ: "وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم فالتزم التابعون فى الصحابة سيرتهم مع النبى صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال فى العلوم الشرعية.
وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر فى الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر فى قرنه بمثل ذلك.
وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف" . انتهى. راجع "الموافقات في أصول الفقه" (4/92ـ95) لابراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي. المعروف بالشاطبي. تحقيق: عبد الله دراز.



ذم التفقه من الصحف:


نقل بَدر الدّين ابن جماعة الكناني عن الشافعي قوله: "من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام".
وكان بعضهم يقول: "من أعظم البلية تشيخ الصحيفة. أي الذين تعلموا من الصحف". " تَذْكِرَةُ السَّامِعِ والمُتَكَلِّم في أَدَب العَالِم والمُتَعَلِّم" (ص: 187).



وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.








وللأمانة العلمية وإرجاع الفضل لأهله وحتى لا نتشبع بما لم نُعط، فقد استعنت في نقولاتي أو بعضها ـ بعد التوثق ـ بالكتاب كامل الموسوم بـ "النقولات السلفية في الرد على الطائفة الحدادية" لأخينا الفاضل الشيخ عبد الله بن محمد الأحمري. فجزاه الله عنا خير الجزاء.




كتبه
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي
23/1/1434هـ.

منتديات نور اليقين





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©