بسم الله الرحمن الرحيم

بين المستعمل والمتأول2

الشيخ عبد الخالق ماضي وشمس الدين الدعي


2- المغالطة والتلبيس الثالث في كلام الدعي على الشيخ عبد الخالق ماضي حفظه الله:

ومما انتقده الدعي على الشيخ عبد الخالق ماضي حفظه الله قوله عنه أنه ينطوي على خبيئة سوء حيث قال بلغته الركيكة، وأنا أنقل معنى قوله باللغة الفصيحة: وقال:"وينطوي على خبيئة سوء"، خبيئة: معنى ذلك أن هذا الإنسان يعلم الغيب، عنده علم أني أخفي في قلبي السوء، يعني الشر، أود إذا يوما ماـ الآن يوجد مجموعة من المحامين يفكرون الآن كيف نأتي بهذا الرجل إلى المحكمة ـ وعندئذ أود أن يطلعنا كيف عرف؟ هل عندك مصور إشعاعي[1]؟ تعرف من خلاله أن الإنسان ينطوي على خبيئة سوء؟.

والجواب على هذه المغالطة وهذا التلبيس: من عدة نواحي:


1- الناحية الأولى: أن الغيب غيبان: غيب مطلق وغيب نسبي، غيب لا يمكن لأحد من الخلق أن يطلع عليه، بل هو من خصائصه سبحانه التي يستحيل على مخلوق من مخلوقاته مهما عظمت مكانته وشرفت عند الله منزلته أن يعلمه، وغيب يمكن لبعض الخلق أن يعلمه في الوقت الذي يخفى على غيره، فهو شهادة بالنسبة لمن علمه، وهو غيب بالنسبة لمن لم يطلع عليه فجهله.

فمن ادعى معرفة الغيب المطلق فهو مفتري كذاب، خارج عن دين الله الملك الغلاب، أما من ادعى معرفة الغيب النسبي فلا مجال للإنكار عليه، لأنه يمكن معرفته، والوصول إليه، بطرق كثيرة، سيأتي الإشارة إلى بعضها بإذن الله جل وعلا.

وهما أنواع:

- أما بالنسبة للغيب المطلق:

فمن أنواعه: كل ما يتعلق بالمستقبل، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله كما في مجموع فتاويه ورسائله ج2 ص 66: وكل علم يتعلق بالمستقبل فإنه من علم الغيب كما قال تعالى :" وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ" سورة لقمان من الآية 34.

ومن أنواعه: علم الساعة، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله كما في مجموع فتاويه ورسائله ج2 ص 66: ومن ذلك علم قيام الساعة، فإنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ولم يُطلع الله عليه أحداً من خلقه، حتى أشرف الرسل من الملائكة والبشر لا يعلمونه كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن الإسلام والإيمان والإحسان فبينها له ثم قال: أخبرني عن الساعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" ما المسئول عنها بأعلم من السائل" قال فأخبرني عن أماراتها؟ فأخبره بشيء منها. فقوله صلي الله عليه وسلم:" ما المسئول عنها بأعلم من السائل"، يعني أن علمي وعلمك فيها سواء فلست أعلم بها منك حتى أخبرك فإذا كنت لا تعلمها فأنا لا أعلمها، فإذا انتفى علمها عن أفضل الرسل من الملائكة وأفضل الرسل من البشر فانتفاء علمها عمن سواهما أولى.

وقد جاءت نصوص الكتاب كامل والسنة بنفي علم الخلق بوقت الساعة بخصوصه" ثم ذكر بعضها.

- أما بالنسبة للغيب النسبي:

- فمن أنواع الغيب النسبي: ما قد حدث وكان، ووقع في سالف الأزمان، فمع أن هذا النوع من العلوم، غيب للخلق غير معلوم، إلا أنه يمكن معرفته والاطلاع عليه بطرق متعددة، فيخرج عن دائرة الغيب إلى عالم الشهادة، كنزول الوحي بالإخبار به، أو بشهادة من حضره فأخبر عنه.

- قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في القول المفيد ج1 ص 314: وقد التبس على بعض طلبة العلم، فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب ولو فيما مضى، فهو كاهن، لكن ما مضى مما يقع في الأرض ليس غيباً مطلقاً، بل هو غيب نسبي، مثل ما يقع في المسجد يعد غيباً بالنسبة لمن في الشارع، وليس غيباً بالنسبة لمن في المسجد.

- ومن أنواع الغيب النسبي: معرفة نوع الجنين وجنسه، بعد تخليقه في بطن أمه، بوسائل حديثة سخرها الله لعباده، من أحسن استخدامها صار المخفي على غيره معلوما لديه.

- قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله كما في مجموع فتاويه ورسائله ج2 ص 69: فإن قال قائل: ما تقولون عما قيل: إنهم يطلعون على الجنين قبل وضعه فيعلمون أذكر هو أم أنثى، وإنهم يتوقعون نزول المطر في المستقبل فينزل كما توقعوا.

قلنا: الجواب عن الأول أنهم لا يعلمون أنه ذكر أم أنثى إلا بعد أن يخلق فتبين ذكورته أو أنوثته وحينئذ لا يكون من الغيب المحض المطلق بل هو غيب نسبي ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة الملك الموكل بالرحم أنه يقول عند تخليق الجنين: يا رب أذكر أم أنثى، يا رب أشقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل، فيكتب كذلك في بطن أمه. وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة ابن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الملك الموكل بالرحم قال: يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك. فقد علم الملك أن الجنين ذكر أو أنثى وهو في بطن أمه لكنه قبل أن يخلق لا يعلم الملك ولا غيره أنه ذكر أو أنثى.

- ومن أنواع الغيب النسبي: توقع نزول المطر قبل نزوله، والإخبار عن ذلك قبل وقوعه، وهذا يتمكن منه من تمكن من وسائله، وتيسر له استعمال آلاته الموصلة إليه.

- قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله كما في مجموع فتاويه ورسائله ج2 ص 69: فإن قال قائل: ما تقولون عما قيل: إنهم يطلعون على الجنين قبل وضعه فيعلمون أذكر هو أم أنثى، وإنهم يتوقعون نزول المطر في المستقبل فينزل كما توقعوا.

..... والجواب عن الثاني: أن هذه التوقعات إنما تكون بوسائل حسية وهي الأرصاد الدقيقة التي يعلم بها تكيفات الجو وتهيؤه لنزول المطر بوجه خفي لا يدرك بمجرد الحس، وهذا التوقع بهذه الأرصاد ليس من علم الغيب الذي يختص به الله -عز وجل- فهو كتوقعنا أن ينزل المطر حين يتكاثف السحاب ويتراكم ويدنو من الأرض ويحصل فيه رعد وبرق.

- ومن أنواع الغيب النسبي: المكنون في النفس والضمير، مما يخفيه صاحبه عن الغير، فهذا من الغيب النسبي لأن صاحبه على الأقل يعلمه، وقد يحدث به بعض أوليائه حينما يخلو به، فهذا يمكن الاطلاع عليه إما بإخبار صاحبه به، وإما بالاستدلال على وجوده بما يدل عليه، وليس ذلك من ادعاء علم الغيب وإنما هو من باب معرفة المُغَيَّبِ بما يظهر من أحوال المُغَيِّبِ.

- قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وهو يتكلم على الكهانة وما قيل فيها في القول المفيد ج1 ص 315: وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وهو نوع من الكهانة في الواقع، إذا لم يستند إلى فراسة ثاقبة، أما إذا كان يخبر عما في الضمير استناداً إلى فراسة، فإنه ليس من الكهانة في شيء، لأن بعض الناس قد يفهم ما في الإنسان اعتماداً على أسارير وجهه ولمحاته، وإن كان لا يعلمه على وجه التفصيل، لكن يعلمه على سبيل الإجمال.

- قلت: وهذا النوع الأخير هو الذي أنكره الدعي هداه الله على الشيخ عبد الخالق ماضي حفظه الله، وكما تلاحظون من تقرير العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله أن هذا النوع ليس من الغيوب المطلقة التي لا يمكن معرفتها والعلم بها، بل هو من الغيوب النسبية التي يمكن أن يعرفها من أحسن الاستدلال عليها، بما يُنبئ عنها، ويُعلم بوجودها، وبالتالي فالشيخ لم يدعي علم الغيب، ولا معرفة ما في القلب، وإنما أخبر إجمالا بوجود طوية سيئة عند الدعي يخفيها، وخبيئة سوء يخبؤها، واستند في هذا الحكم على أقوال الدعي وأفعاله، وتصرفاته وتصريحاته، بل وطريقه الذي يسلكه ومذهبه الذي ينتحله ويعلن به، وسيأتي مزيد بيان لهذا بإذن الله سبحانه وتعالى.

2- الناحية الثانية: في توضيح المعنى المراد من كلمة الشيخ حفظه الله وأنها ليس فيها ما يدل على أن الشيخ يدعي علم الغيب.

أن كلمة:" ينطوي على خبيئة سوء" التي وصف بها الشيخ عبد الخالق ماضي حفظه الله الرجل الدعي هداه الله، ليس فيها كما زعم الدعي إدعاء علم الغيب، ومعرفة ما في القلب، وبيان ذلك من وجوه عدة:

الوجه الأول: لم يقل الشيخ عبد الخالق حفظه الله أن الدعي ينطوي على شرور سماها، ولا على نيات عينها، وإنما قال ينطوي على خبيئة يخبؤها، وعلى خفية يضمرها، وهذا إطلاق يدل أن الشيخ لا يدعي العلم بها وبتفاصيلها، وإن كان يستدل بما يظهر من أمر الدعي على وجودها. يوضحه التالي:

الوجه الثاني: أن الشيخ عبد الخالق لم يعين حفظه الله هذه الخبيئة التي تكلم عليها ووصف الدعي بها، ولم يدعي علمه بحقيقتها وجلية أمرها، بل إن تسميته لها بالخبيئة واضح في كونها مخفية يخفيها صاحبها، ولا يصرح على الأقل لغير أوليائه بها، على طريقة أهل التقية الذين يظهرون ما لا يضمرون، ويبدون ما لا يبطنون، يوضحه:

الوجه الثالث: فسر الدعي قول الشيخ عنه:"أنه ينطوي على خبيئة سوء" بقوله:"عنده علم أني أخفي في قلبي السوء، يعني الشر" فهل يستطيع الدعي أن يخبرنا عن الشر الذي قصد الشيخ عبد الخالق حفظه الله أن يصفه به، ويخبر عنه أنه يضمره في قلبه؟، قطعا لن يستطيع تعيين ذلك لأن الشيخ لم يذكره، إلا إذا قوله الدعي ما لم يقله، أو ادعى أن الشيخ يقصد الشر بأكمله والسوء برمته، يوضحه:

الوجه الرابع: أن الشيخ حفظه الله لم يقل أنك تضمر الشر كما قلت على الإطلاق، بالألف واللام التي تفيد الاستغراق، وإنما صرح أنك تنطوي على خبيئة سوء لم يذكرها ولم يعينها، وأنت لا يمكنك أن تدلنا على مقصده منها، فعلم أن الشيخ يعلم وجودها إجمالا لا تفصيلا وهذا ليس من ادعاء علم الغيب كما تقدم في الناحية الأولى.

اعتراض وجوابه:

قد يقول قائل: لكن الشيخ عبد الخالق وإن كان لم يعين الخبيئة ولم يذكر حقيقتها، إلا أنه ذكر السوء وصفا لها، وهذا مما يدخل في علم الغيب، الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب.

الجواب على هذا الاعتراض كالتالي:

أولا: تقدم في الناحية الأولى أن هذا من الغيب النسبي الذي يمكن معرفته، والاستدلال على وجوده، بما يظهر من أحوال صاحبه، فإذا كان من الغيب النسبي، فلا ينبغي الإنكار على من ادعى معرفته وإنما ينبغي مطالبته بالدليل الذي استدل به على وجوده أو على وصفه الذي أطلقه عليه.

ثانيا: أن الشيخ حفظه الله لم يعين السوء الذي ينطوي الدعي عليه، والذي نسبه إليه ووصفه به، ومجرد وصفه للخبيئة بالسوء، لا يعني أنه يعلم نوع ذلك السوء، ولذلك نعت السوء بالمخبأ، ولو كان يعلمه لما صرح بأن الدعي يخبؤه، ولأخبر الناس به حتى يعلموا حقيقة ما يبطنه.

ثالثا: أن الشيخ حفظه الله استدل على وجود خبيئة السوء في باطنه، بما يبدو جليا على ظاهره، في أقواله وأفعاله وتصريحاته وتصرفاته، بل وفي طريقه الذي يسير عليه، ومذهبه الذي يدعوا الناس إليه. يوضحه:

رابعا: أن ادعاء الغيب والإطلاع على السرائر، ليس هو الاستدلال بالظواهر على الضمائر، وإنما هو التصريح على وجه التفصيل بما يوجد في القلوب، مما لا يعلمه إلا علام الغيوب، والذي حصل من الشيخ هو الاستدلال بالظاهر على الباطن، وليس الإخبار بما يخفي الدعي في قلبه ويبطن، وهذا ستأتي الأدلة علية في الناحية الثالثة. يوضحه:

خامسا: أن الظواهر كما تقدم تدل على البواطن، فالظاهر الصالح يدل على الباطن الصالح، كما أن الظاهر الطالح يدل على الباطن الطالح، فالشيخ لما رأى ظاهرا طالحا حكم على الباطن بالطلاح، وهذا أمر متقرر في الشريعة الاسلامية الله، وجاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ" رواه مسلم من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، وسيأتي بيانه أكثر في الناحية الثالثة إن شاء الله.

سادسا: أن هذه الكلمة التي قالها الشيخ عبد الخالق ماضي حفظه الله واصفا بها الدعي هداه الله، قد قالها إمام من أئمة الدين، وجهبذ من جهابذة المسلمين، ألا وهو الإمام المبجل أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله:

فعن الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله، وسئل عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص، أيقال له رافضي؟ فقال:" إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا له داخلة سوء". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خير الناس قرني " رواه أبو بكر الخلال في كتاب كامله السنة.

فماذا يقول الدعي عن الإمام أحمد وهو قد قال هذه الكلمة؟ هل سيتجرأ عليه فيغمزه ويلمزه ويتكلم في عرضه، ويصفه بما وصف به الشيخ عبد الخالق من ادعاء علم الغيب؟ أقول: والله إن هذا ليس ببعيد لما هو معلوم من حال الدعي ولكثرة طعونه في أئمة أهل السنة.

- الناحية الثالثة: قد يقول قائل: فهل جاء في الشريعة الاسلامية الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في كلام أئمة الدين وعلمائه المتمكنين أن الظواهر تدل على الضمائر وأنه يمكن الاستدلال بظاهر الإنسان، على ما في باطنه المخفي عن العيان؟.

والجواب على هذا السؤال هو:

أن أسوق لكم الآن بحمد الله تبارك وتعالى بعض الأدلة التي تدل على إمكانية الاستدلال على البواطن بالظواهر ومعرفة بعض ما في القلب وأنه ليس من علم الغيب:

1- الدليل الأول: قال الله تعالى:" ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)" سورة آل عمران.

- قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقوله: { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي: يختبركم بما جرى عليكم، وليميز الخبيثَ من الطيب، ويظهر أمْرَ المؤمن والمنافق للناس في الأقوال والأفعال، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي: بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

تعليق: من المعلوم أن أشد الناس إخفاء لما في ضمائرهم عن غيرهم، وإظهارا لخلاف ما يكنونه في صدورهم: المنافقون وأهل التقية الروافض، ومع ذلك فإن الله سبحانه يهتك أسرارهم ويفضحهم بإطلاع المؤمنين على خباياهم، وذلك بإظهارها في لحن أقوالهم وجلي أعمالهم وتصرفاتهم، فإذا كان هذا فيمن يعظم حرصه على إخفاء ما يبطنه من المنافقين وأهل التقية في الدين فما بالك بغيرهم ممن يقل تحرزهم واحتياطهم، فإن سر هؤلاء لا شك أقرب للهتك، وخباياهم أولى بأن يطلع عليها الخلق.

الدليل الثاني: قال الله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)" سورة آل عمران.

- قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ثم قال تعالى: { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } أي: قد لاح على صَفَحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال: { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

- قال البغوي رحمه الله: { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء } أي: البغض، معناه ظهرتْ أمارة العداوة، { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } بالشتيمة والوقيعة في المسلمين، وقيل: بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ } من العداوة والغيظ ، { أَكْبَرُ } أعظم، { قَدْ بَيَّنَّا لَكُم الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

تعليق: في كلام الإمام ابن كثير ما يدل على أن خبايا هؤلاء وأسرارهم تظهر على أقوالهم ووجوههم ظهورا لا يخفي مثله على أهل العقول والألباب.

[color="rgb(139, 0, 0)"]الدليل الثالث:[/color]قال الله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)" سورة غافر.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي: يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، { إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ }أي: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه من إخمال الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع، { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } أي: من حال مثل هؤلاء، { إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان. هذا تفسير ابن جرير" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

- قال العلامة السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أن من جادل في آياته ليبطلها بالباطل، بغير بينة من أمره ولا حجة، إن هذا صادر من كبر في صدورهم على الحق وعلى من جاء به، يريدون الاستعلاء عليه بما معهم من الباطل، فهذا قصدهم ومرادهم.

ولكن هذا لا يتم لهم وليسوا ببالغيه، فهذا نص صريح، وبشارة، بأن كل من جادل الحق أنه مغلوب، وكل من تكبر عليه فهو في نهايته ذليل.

{ فَاسْتَعِذْ } أي: اعتصم والجأ { بِاللَّهِ } ولم يذكر ما يستعيذ منه، إرادة للعموم. أي: استعذ بالله من الكبر الذي يوجب التكبر على الحق، واستعذ بالله من شياطين الإنس والجن، واستعذ بالله من جميع الشرور.

{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لجميع الأصوات على اختلافها، { الْبَصِيرُ } بجميع المرئيات، بأي محل وموضع وزمان كانت" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

تعليق: هذا خبر من الله سبحانه عما في ضمائر المجادلين والمخاصمين الذين يريدون أن يدفعوا الحق بباطلهم، ويردوا الصدق بترهاتهم وافتراءاتهم، أن هذا الذي يصدر عنهم يدل على خبيئة سوء أطلع الله عباده عليها ألا وهي الكبر الذي يعمر قلوبهم ويصدهم عن الاستجابة للحق من ربهم.

[color="rgb(139, 0, 0)"] الدليل الرابع:[/color]عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ:" إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِى الْحَرَامِ كَالرَّاعِى يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ " رواه البخاري ومسلم.

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التفسير الكبير ج 3 ص 86، 87: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن في الجسد مُضْغَةً إذا صلُحَتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب"، فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد. فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمناً، حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه وفى السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه، كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك ـ لا بقوله ولا بفعله قط ـ فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان.

- قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير ج4 ص 100 عند كلامه على قول النبي صلى الله عليه وسلم:" سَتَكُونُ أَئِمَّةٌ مِنْ بَعْدِي يَقُولُونَ فَلاَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ يَتَقَاحَمُونَ فِي النَّارِ كَمَا تَقَاحمُ الْقِرَدَةُ" الذي رواه الطبراني وغيره عن معاوية وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير رقم 3615.

- قال رحمه الله: قال بعضهم: إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق، وانصبغ بذلك صبغة تامة، صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير وغيرهما، ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدو على صفحات وجهه بدوا خفيا، ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهرا جليا عند من له فراسة فيرى على صور الناس مسخا من صور الحيوانات التي تخلقوا بأخلاقها باطنا، فَقَلَّ أن ترى محتالا مكارا مخادعا إلا على وجهه مسخة قرد، وأن ترى شرها نهما إلا على وجهه مسخة كلب، فالظاهر مرتبط بالباطن أتم ارتباط.

[color="rgb(139, 0, 0)"] الدليل الخامس:[/color]قال الله تعالى:" مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)" سورة فاطر.

- وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره: وقوله:"وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ": قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وشَهْر بن حَوْشَب: هم المراؤون بأعمالهم، يعني: يمكرون بالناس، يوهمون أنهم في طاعة الله، وهم بُغَضَاء إلى الله عز وجل، يراؤون بأعمالهم،"وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا" سورة النساء من الآية 142.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المشركون.

والصحيح أنها عامة، والمشركون داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال:"لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ"، أي: يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فإنه ما أسر عبد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل يُكشَف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

تعليق: قرر الإمام ابن كثير رحمه الله أن سرائر أهل الباطل مكشوفة للمتفرسين من أهل الإيمان، وأن أمرهم وباطلهم لا يروج ويستمر إلا على أهل الغباء من العميان، ذلك لأن عالم الغيب الذي لا تخفى عليه خافية، يكشفها للمؤمنين ويجليها لعباده المتقين حتى يصير أهل الباطل المتحرزون المتسترون وقد انكشف عنهم سترهم وتلاشى تحرزهم فظهرت أسرارهم وبدت للعيان سرائرهم وخباياهم، والله المستعان.

الدليل السادس:قال الله تعالى:"وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)" سورة محمد.

والآية دليل واضح على أنه يمكن للإنسان أن يعرف ما يستر الناس في بواطنهم بأمرين اثنين: بسيما وجوههم وبلحن قولهم، وهذا هو الذي جاء فيه قول عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما أسَرّ أحد سريرة إلا أظهرها اللّه على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه، والمعرفة بفلتات اللسان أعظم من المعرفة بصفحات الوجه وإليك تقرير هذه الأمور وبيانها من كلام أئمة الإسلام وعلمائه الكرام:

- أولا: تقرير أن ما يخفيه الإنسان في باطنه لابد أن يظهر في قوله وفعله:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في التفسير الكبير[2] ج 3 ص 74: فالمنافق لابد أن يظهر في قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره، كما قال عثمان بن عفان : ما أسَرّ أحد سريرة إلا أظهرها اللّه على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه.

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الإيمان الأوسط ص 575[3]: فإن قيل: فالله قد أمر بجهاد الكفار والمنافقين في آيتين من القرآن فإذا كان المنافق تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر فكيف يمكن مجاهدته.

قيل: ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق لا بد أن يظهر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. وقد قال تعالى في حق المنافقين:"وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ". فأقسم أنه لابد أن يعرفهم في لحن القول، فإذا أظهر المنافق من ترك الواجبات وفعل المحرمات ما يستحق عليه العقوبة عوقب على الظاهر ولا يعاقب على ما يُعلم من باطنه بلا حجة ظاهرة ..." انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

- ثانيا: تقرير أن ما يخفيه الإنسان في باطنه يظهر على صفحات وجهه وإن كان أقل من ظهوره على فلتات لسانه وأن أهل الفراسة يلحظونه ويعرفونه:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في التفسير الكبير ج 3 ص 74: وقد قال تعالى عن المنافقين:"وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ" ثم قال:"وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ"، وهو جواب قسم محذوف، أي: واللّه لتعرفهم في لحن القول، فمعرفة المنافق في لحن القول لابد منها، وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة.

- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التفسير الكبير ج 6 ص 88: وقوله:"سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)" سورة القلم، فيه إطلاق يتضمن الوَسْمَ في الآخرة وفي الدنيا أيضًا، فإن الله جعل للصالحين سِيمًا، وجعل للفاجرين سيما، قال تعالى:"سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ" سورة الفتح من الآية 29، وقال يظهر:"وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ" سورة محمد من الآية 30. فجعل الإرادة والتعريف بالسيما الذي يدرك بالبصر معلقًا على المشيئة....

وأما ظهور ما في قلوبهم على وجوههم فقد يكون وقد لا يكون، ودل على أن ظهور ما في باطن الإنسان على فلتات لسانه أقوى من ظهوره على صَفْحَات وجهه... وأما إدراكه إياهم بالبصر بسيماهم فقد يكون وقد لا يكون. فأخبر ـ سبحانه ـ أنه لابد أن يسِمَ صاحب هذه الأخلاق الخبيثة على خرطومه، وهو أنفه الذي هو عضوه البارز، الذي يسبق البصر إليه عند مشاهدته؛ لتكون السيما ظاهرة من أول ما يرى، وهذا ظاهر في الفَجَرَة الظَّلَمَة، الذين وَدَعَهم الناس اتقاء شرهم وفحشهم؛ فإن لهم سيما من شر يعرفون بها. وكذلك الفسقة وأهل الريب.

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب كامل الاستقامة ج 1 ص 355[4]:"...وهذا أمر محسوس لمن له قلب، فإن ما في القلب من النور والظلمة، والخير والشر، يسري كثيرا إلى الوجه والعين، وهما أعظم الأشياء ارتباطا بالقلب.

ولهذا يروى عن عثمان أو غيره أنه قال:" ما أسر أحد بسريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه" والله قد أخبر في القرآن أن ذلك قد يظهر في الوجه فقال:"وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ"، فهذا تحت المشيئة ثم قال:" وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ"، فهذا مقسم عليه محقق لا شرط فيه، وذلك أن ظهور ما في قلب الإنسان على لسانه أعظم من ظهوره في وجهه، لكنه يبدو في الوجه بدوا خفيا يعلمه الله، فإذا صار خُلقا ظهر لكثير من الناس، وقد يقوى السواد والقسمة حتى يظهر لجمهور الناس، وربما مسخ قردا أو خنزيرا كما في الأمم قبلنا وكما في هذه الأمة أيضا.

- قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان الباب الثالث عشر ج1 ص 476[5]: قال بعض أهل العلم: إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق، وانصبغ بذلك صبغاً تاما، صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك: من القردة، والخنازير، وغيرهما، ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدو على صفحات وجهه بدوا خفياً، ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهراً على الوجه، ثم يقوى حتى يقلب الصورة الظاهرة، كما قلب الهيئة الباطنة، ومن له فراسة تامة يرى على صور الناس مسخا من صور الحيوانات التي تخلقوا بأخلاقها في الباطن، فَقَلَّ أن ترى محتالاً مكاراً مخادعاً ختارا إلا وعلى وجهه مسخة قرد، وقَلَّ أن ترى رافضيا إلاَّ وعلى وجهه مسخة خنزير، وقَلَّ أن ترى شرها نهما، نفسه نفس كلبية إلا وعلى وجهه مسخة كلب. فالظاهر مرتبط بالباطن أتم ارتباط، فإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قَلْبِ الصورة الظاهرة، ولهذا خَوَّفَ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مَنْ سابق الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار، لمشابهته للحمار في الباطن، فإنه لم يستفد بمسابقة الإمام إلا فساد صلاته، وبطلان أجره، فإنه لا يسلم قبله، فهو شبه الحمار في البلادة، وعدم الفطنة.

- قال الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقول الله تعالى:"سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ" سورة الفتح من الآية 29": والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه.

- قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير ج5 ص 419 عند كلامه على قول النبي صلى الله عليه وسلم:" مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إِلاَّ أَلْبَسَهُ الله رِدَاءَهَا إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرّاً فَشَرٌّ" الذي رواه الطبراني وغيره عن جندب بن سفيان وضعفه العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة رقم 237.

قال رحمه الله: " مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إِلاَّ أَلْبَسَهُ الله رِدَاءَهَا إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرّاً فَشَرٌّ" يعني: أن ما أضمره يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه وقد أخبر الله في التنزيل بأن ذلك قد يظهر في الوجه فقال:" وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ"، وظهور ما في الباطن على اللسان أعظم من ظهوره في الوجه لكنه يبدو في الوجه بدوا خفيا فإذا صار خلقا ظهر لأهل الفراسة والنهى.

- ثالثا: تقرير أن ما يخفيه الإنسان يظهر على فلتات لسانه وأن ذلك كائن منه لا يمكنه إخفاؤه ولا التحرز منه:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في التفسير الكبير ج 3 ص 74: وقد قال تعالى عن المنافقين:"وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ" ثم قال:"وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ"، وهو جواب قسم محذوف، أي: واللّه لتعرفهم في لحن القول، فمعرفة المنافق في لحن القول لابد منها، وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة.

- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التفسير الكبير ج 6 ص 88: وقوله:"سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)" سورة القلم، .... وأقسم على التعريف في لحن القول، وهو الصوت الذي يدرك بالسمع، فدل على أن المنافقين لابد أن يعرفوا في أصواتهم وكلامهم الذي يظهر فيه لحن قولهم،وهذا ظاهر بَين لمن تأمله في الناس، من أهل الفراسة في الأقوال وغيرها مما يظهر فيها من النواقص والفحش وغير ذلك .

وأما ظهور ما في قلوبهم على وجوههم فقد يكون وقد لا يكون، ودل علي أن ظهور ما في باطن الإنسان على فلتات لسانه أقوى من ظهوره علي صَفْحَات وجهه؛ لأن اللسان ترجمان القلب، فإظهاره لما أَكَنَّه أَوكَد؛ ولأن دلالة اللسان قالية، ودلالة الوجه حالية، والقول أجمع وأوسع للمعاني التي في القلب من الحال؛ ولهذا فَضَّلَ من فَضَّل ـ كابن قتيبة وغيره ـ السمعَ علي البصر.

والتحقيق أن السمع أوسع، والبصر أخص وأرفع، وإن كان إدراك السمع أكثر، فإدراك البصر أكمل؛ ولهذا أقسم أنه لابد أن يدركهم بسمعه...

- وقال الإمام ابن كثير في تفسيره:"وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ" أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وفي الحديث:"ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها، إن خيرا فخير، وإن شرًّا فشر"[6].

- زيادة على ما مر هذه كلمات لبعض العلماء المجتهدين والأئمة المعروفين فيها تقرير ما نحن بصدد تقريره:

- قال الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرح مفصل العقيدة الطحاوية ص 143[7]:

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ: قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ رِضَى الرَّجُلِ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ وَفَرَحَهُ وَحُزْنَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِي نَفْسِهِ، بِأُمُورٍ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ، قَدْ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:"وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ"، ثُمَّ قَالَ:"وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ". وَقَدْ قِيلَ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ.

قلت: وهذا الكلام أصله لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وإليكموه:

- قال الشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح مفصل العقيدة الأصفهانية ص 158[8]: فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله، علم علما يقينا أنه ليس بشاعر ولا كاهن ولا كاذب والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعين للصناعات والمقالات كالفلاحة والنساجة والكتاب كاملة وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك فما من أحد يدعي العلم بصناعة أو مقالة إلا والتفريق في ذلك بين الصادق والكاذب له وجوه كثيرة وكذلك من أظهر قصدا وعملا كمن يظهر الديانة والأمانة والنصيحة والمحبة وأمثال ذلك من الأخلاق فإنه لا بد أن يتبين صدقه وكذبه من وجوه متعددة.....

وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه تنازع الناس في أن خبر الواحد هل يجوز أن يقترن به من القرائن والضمائم ما يفيد معه العلم؟ ولا ريب أن المحققين من كل طائفة على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري بخبر المخبر، بل القرائن وحدها قد تفيد العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضاء الرجل وغضبه وحبه وبغضه وفرحه وحزنه وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه، قد لا يمكنه التعبير عنها كما قال تعالى:"وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ"، ثُمَّ قَالَ:"وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ" فأقسم أنه لا بد أن يعرف المنافقين في لحن القول، وعلق معرفتهم بالسيما على المشيئة، لأن ظهور ما في نفس الإنسان من كلامه أبين من ظهوره على صفحات وجهه، وقد قيل: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه" فإذا كان مثل هذا يعلم به ما في نفس الإنسان من غير إخبار فإذا اقترن بذلك أخباره كان أولى بحصول العلم .... وإذا كان صدق المخبر أو كذبه يعلم بما يقترن به من القرائن، بل في لحن قوله وصفحات وجهه، ويحصل بذلك علم ضروري لا يمكن المرء أن يدفعه عن نفسه .....

قلت: هذا النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه فيه أن حال الرجل وطويته، يمكن أن تعرف بجملة من القرائن وأنه قد يحصل بها من العلم الضروري ما لا يمكن لمن حصل له أن يدفعه عن نفسه.

- قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في تفسيره[9] عند ذكره لفوائد الآية 264 من سورة البقرة وهي" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)":

- قال: ومنها: أن من راءى الناس بإنفاقه ففي إيمانه بالله، وباليوم الآخر نقص؛ لقوله تعالى:"وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"؛ لأن الذي يرائي لو كان مؤمناً بالله حق الإيمان لجعل عمله لله خالصاً لله؛ ولو كان يؤمن باليوم الآخر حق الإيمان لم يجعل عمل الآخرة للدنيا؛ لأن مراءاة الناس قد يكسب بها الإنسان جاهاً في الدنيا فقط؛ مع أنه لا بد أن يتبين أمره؛ وإذا تبين أنه مراءٍ نزلت قيمته في أعين الناس؛ يقول الشاعر:

ثوب الرياء يشف عما تحته ... فإذا اكتسيت به فإنك عاري


أنت لا تظن أنك إذا راءيت الناس أنك ستبقى مخادعاً لهم؛ بل إن الله سبحانه وتعالى سيظهر ذلك؛ ما أسر إنسان سريرة إلا أظهرها الله سبحانه على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.

- قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في القول المفيد ج 2 ص 146[10]: وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله، لكن له شاهد في الجوارح، ولذا يروى عن الحسن رحمه الله أنه قال: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه"; فالجوارح مرآة القلب.

7- الدليل السابع: إن من عجائب الأمر أن ينكر الدعي ما ليس بمنكر، ويستنكر ما قد عرف عند جميع الخلق وتقرر، لأن الأمر الذي نحن بصدد بيانه والتدليل عليه لمن أبرز الأمور عند الناس وأجلاها، فإنه ما من أحد إلا ويستدل على بواطن الناس بظواهرهم، وعلى خوافيهم وأسرارهم بما يبدوا عليهم ويتجلى في أحوالهم، حتى صار الأمر شائعا بينهم أن حمرة الوجه تدل على الخجل، واضطراب الحركات على الخوف والوجل، وتمعر الوجه على الغضب الذي يعتري الإنسان، وطلاقته على الفرح وانشراح الجنان، وغير ذلك مما قد علم لكل أحد، وصار يقينا لا يحتاج إلى دليل واحد فضلا عن أدلة ذوات عدد.

ومما يدل على أن هذا الأمر معلوم عند سائر الناس ما جاء على ألسنة الشعراء والأدباء من تقرير هذا الأمر وبيانه، وذكره دون استدلال منهم على صحته، لأنه من الأمور المعلومة عندهم والبديهية لديهم وإليكم بعض ما قالوه في ذلك:

- قال الراغب الأصبهاني في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ج1 ص 245:

تحت باب: ومما جاء في العداوات:

من نظره ينبئ عن عداوته[11]:

زهير:

الود لا يخفى وإن أخفيته .. والبغض تبديه لك العينان

وقال آخر:

ستور الضمائر مهتوكة .. إذا ما تلاحظت الأعين

- وقال أيضا في الكتاب كامل نفسه ج3 ص 8:

الحد الثاني عشر: في الإخوانيات:

تحت باب:

الاعتبار بالعين والاعتماد على ما في القلب:

قيل: اعتبر ما في قلب أخيك بعينه فالعين عنوان القلب. وقيل: شاهد الحب والبغض اللحظ فاستنطق العيون تعلم المكنون.

شاعر:

تقلب أحوال الفتى في أموره .. تبين عما تقتضيـه ضمائره

وفي لحظ عينيه وفي حركاته .. دليلٌ على ما تحتويه سرائره
اسحق:

ستور الضمائر مهتوكةٌ .. إذا ما تلاحظت الأعين

وقال ابن بسام:

ألا إن عين المرء عنوان قلبه.. تخبر عن أسراره شاء أم أبى

كشاجم:

ويأبى الذي في القلب إلا تبينا .. وكل إناءٍ بالذي فيه يرشح

- سؤال ينبغي الجواب عليه:

هل وصف الشيخ عبد الخالق حفظه الله للرجل بأنه ينطوي على خبيئة سوء ينطبق عليه ويتحقق فيه، أم أنه بريء منه لا ينبغي أن يوصف به؟ أو بصيغة أخرى هل للشيخ عبد الخالق ماضي حفظه الله دليل من ظاهر الدعي على ما وصف به باطنه المخفي؟.

والجواب كالتالي:

إن الخبيئة السيئة التي ينطوي عليها الدعي لم يعلمها الشيخ عبد الخالق ماضي حفظه الله وأهل السنة معه من خلال النظر في صفحات وجه الدعي ولا من خلال فلتات لسانه، وإنما علموها من صريح قوله وواضح بيانه، ومن مذهبه الذي يعتنقه، وطريقه الذي يسلكه، فخبيئة الدعي السيئة لا نحتاج إلى فراسة حتى نكشف عنها، ولا إلى ذكاء ونباهة حتى نستجلي حقيقتها، فالسماع له لوحده يكفي لمعرفة ما يبطنه، لأنه يبوح به ويصرح، ويخبر عنه ويوضح، ومما يدل على هذه الخبيئة السيئة أمور:

الأول: طعنه في أهل السنة والجماعة وحربه لهم.

الثاني: انتقاصه من أئمة الدين وعلمائه المعروفين من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.

الثالث: دفاعه عن أهل البدع والضلالة.

الرابع: تسويغه لكثير من الضلالات والانحرافات التي يحرمها الإسلام وينهى عنها.

وغير ذلك كثير.

وسأقتصر هنا بإذن الله تعالى على كلمة واحدة كثيرا ما يرددها، ويحلو له أن يصف أهل السنة والجماعة بها، وهي تدل على خبيئة سيئة ينطوي عليها، وهي كلمة "حشوية" والتي قالها في هذه الحصة التي عقدها للرد على الشيخ عبد الخالق حفظه الله حيث قال:"أنا أحذر من الحشوية"، أقول: وهذه الكلمة مما يدل على طوية سيئة عنده، وخبيئة قبيحة لديه، لأن هذه الكلمة من الكلمات التي كان المبتدعة يلمزون بها أهل السنة ويطعنون فيهم، ويستخدمونها للتشهير بعلماء الحديث والانتقاص منهم، وإليك بعض ما يتعلق بهذه الكلمة مما يجعلك تعلم أنها تدل على خبيئة سيئة عند من يتكلم بها:

- أولا: هنيئا للدعي لوكه لكلمة كان أول من قالها، ونبز بعض الصالحين بها هو: عمرو بن عبيد المعتزلي، حيث نبز بهذه الكلمة وليا من أولياء الله الصالحين، وإماما من أئمة الملة والدين، وصحابيا من أفضل صحابة النبي الأمين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ألا وهو صاحب رسول الله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وإليك البيان:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية ج 1 ص 242[12]: قلت مسمى الحشوية في لغة الناطقين به ليس اسما لطائفة معينة..." إلى أن قال:"...وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو ابن عبيد رئيس المعتزلة _ فقيههم وعابدهم _ فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله، فقال: كان ابن عمر حشويا. نسبه إلى الحشو وهم العامة والجمهور.".

- وقال رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل ج 7 ص 351[13]: ... فإن لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المعتزلة ونحوهم، رووا عن عمرو بن عبيد أنه قال: كان عبد الله بن عمر حشويا.

- وقال أيضا في مجموع الفتاوى ج 12 ص 97[14]: وأما قول القائل حشوية فهذا اللفظ ليس له مسمى معروف لا في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف العام ولكن يذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد وقال كان عبد الله بن عمر حشويا.

قلت: وقد صرح بذلك في مواطن أخرى من كتبه رحمه الله.

- ثانيا: إن هذه الكلمة التي يطلقها الدعي ويكررها، وينبز أهل السنة والجماعة بها، لا يعرف في الشرع مسمى لها، ولا في اللغة مادة اللغة العربية التي يرجع إليها، ولا في العرف العام الذي يعين على فهم مراد المتكلم بها، وإنما هي كلمة محدثة يأوي المبتدعة إليها، ليطعنوا بها فيمن خالفهم في بدعهم، ولم يوافقهم على أهوائهم وعقائدهم:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ج 12 ص 97[15]: وأما قول القائل حشوية فهذا اللفظ ليس له مسمى معروف لا في الشرع، ولا في اللغة، ولا في العرف العام، ولكن يذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد وقال: كان عبد الله بن عمر حشويا. وأصل ذلك أن كل طائفة قالت قولا تخالف به الجمهور والعامة ينسب إلى أنه قول الحشوية أي الذين هم حشو في الناس ليسوا من المتأهلين عندهم.

- وقال رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل ج 7 ص 351[16]: ومثل هذا موجود في كلام عامة أئمة المسلمين، فإنهم يذمون الطريق التي أحدثها أهل الكلام كالمعتزلة ونحوهم، ولكن هؤلاء الذين ابتدعوها يذمون من لم يسلكها من عوام المسلمين وعلمائهم، ويسمونهم حشوية، فإن لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المعتزلة ونحوهم، رووا عن عمرو بن عبيد أنه قال: كان عبد الله بن عمر حشويا، وهم يسمون العامة الحشو، كما تسميهم الرافضة والفلاسفة الجمهور، ويسمون مذهب الجماعة مذهب الحشو....

- ثالثا: يوضحه أن كلمة حشوية لا يؤوي إليها في نبز غيره ممن لا يوافقه على هواه بها، إلا الطوائف الضالة عن الصراط المستقيم، والفرق المخالفة للدين القويم، وإليك البيان:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية ج 1 ص 242[17]: وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو ابن عبيد رئيس المعتزلة _ فقيههم وعابدهم _ فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله فقال: كان ابن عمر حشويا. نسبه إلى الحشو وهم العامة والجمهور، وكذلك تسميهم الفلاسفة كما سماهم بذلك صاحب هذا الكتاب كامل[18]، والمعتزلة ونحوهم يسمونهم الحشوية، والمعتزلة تعني بذلك كل من قال بالصفات وأثبت القدر، وأخذ ذلك عنها متأخروا الرافضة فسموهم الجمهور بهذا الاسم، وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسموا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الالشريعة الاسلامية، فمن قال عندهم بوجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروض رسميةة وصوم رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والمظالم والشرك ونحو ذلك سموه حشويا، كما رأينا ذلك مذكورا في مصنفاتهم، والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الجسمي والنعيم الحسي حشويا، وأخذ ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعرية فسموا من أقر بما ينكرونه من الصفات، ومن يذم ما دخلوا فيه من بدع أهل الكلام والجهمية والإرجاء حشويا، ومنهم أخذ ذلك هذا المصنف...

قلت: فالطوائف المبتدعة التي تستعمل هذا اللفظ وما في معناه والتي ذكرها شيخ الإسلام في هذا النص هي: 1- الفلاسفة. 2- المعتزلة. 3- الرافضة. 4- القرامطة الباطنية. 5- الأشعرية.

- وقال أيضا في مجموع الفتاوى ج 12 ص97[19]: فالمعتزلة تسمي من أثبت القدر حشويا، والجهمية يسمون مثبتة الصفات حشوية، والقرامطة كأتباع الحاكم[20] يسمون من أوجب الصلاة والزكاة والصيام والحج حشويا، وهذا كما أن الرافضة يسمون قول أهل السنة والجماعة قول الجمهور، وكذلك الفلاسفة تسمى ذلك قول الجمهور، فقول الجمهور وقول العامة من جنس واحد، فإن كان قائل ذلك يعتقد أن الخاصة لا تقوله، وإنما تقوله العامة والجمهور، فأضافه إليهم وسماهم حشوية....

قلت: فالطوائف المبتدعة التي تستعمل هذا اللفظ وما في معناه والتي ذكرها شيخ الإسلام في هذا النص هي: 1- المعتزلة. 2- الجهمية. 3- القرامطة كأتباع الحاكم. 4- الرافضة. 5- الفلاسفة.

- تعليق: فهنيئا للدعي أنه سلك سبيل كل ضال منحرف، وجاهل متخبط مخرف، وليس له سلف في استعماله لهذه الكلمة أقصد ممن هو على سبيل المؤمنين، وطريق الصالحين المصلحين:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج 4 ص 89[21]: وأول من ابتدع الذم بها "المعتزلة" الذين فارقوا جماعة المسلمين فإتباع سبيل المعتزلة دون سبيل سلف الأمة ترك للقول السديد الواجب في الدين وإتباع لسبيل المبتدعة الضالين ....

- رابعا: معلوم عند كل من درس شيئا من كتب الفرق والملل، والطوائف والنحل، أن الفِرَقَ تُنسب دائما إما إلى مؤسسها، أو إلى بدعتها التي ابتدعتها، أو إلى فعل قبيح من أفعالها[22]، فإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فطائفة الحشوية التي يزعم الدعي أنه يحاربها، وانبرى في زمننا للتحذير منها، ما هي مناسبة تسميتها بهذا الاسم هل هي منسوبة لمن أسسها، أم هي منسوبة لبدعة دعت الناس إليها، أم هي منسوبة لفعل قبيح من أفعالها؟ والحقيقة أن هذا الاسم كما تقدم وسيأتي إن شاء الله لا حقيقة له، ولا وجود لمسماه، وإنما هو اسم مبتدع يقصد من خلاله نبز أهل الحق للتنفير منهم وصرف الناس عن الحق الذي عندهم:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية ج 1 ص 242[23]: قلت مسمى الحشوية في لغة الناطقين به ليس اسما لطائفة معينة لها رئيس قال مقالة فاتبعته، كالجهمية، والكلابية، والأشعرية، ولا اسما لقول معين من قاله كان كذلك والطائفة إنما تتميز بذكر قولها أو بذكر رئيسها...

- وقال أيضا في مجموع الفتاوى ج 12 ص 97[24]: والطائفة تضاف تارة إلى الرجل الذي هو رأس مقالتها كما يقال: الجهمية، والإباضية، والأزارقة، والكلابية، والأشعرية، والكرامية، ويقال في أئمة المذاهب: مالكية، وحنفية، وشافعية، وحنبلية، وتارة تضاف إلى قولها وعملها كما يقال: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، ونحو ذلك، ولفظة الحشوية لا ينبني لا عن هذا ولا عن هذا.

- وقال رحمه الله في منهاج السنة النبوية ج2 ص 518 وما بعدها[25]: الوجه الثالث

أن يقال إن الطائفة إنما تتميز باسم رجالها، أو بنعت أحوالها، فالأول كما يقال النجدات، والأزارقة، والجهمية، والنجارية، والضرارية، ونحو ذلك، والثاني كما يقال الرافضة والشيعة، والقدرية، والمرجئة، والخوارج، ونحو ذلك، فأما لفظ الحشوية فليس فيه ما يدل على شخص معين، ولا مقالة معينة، فلا يدرى من هم هؤلاء..

قلت: فأصبح لفظ الحشوية مثل العباءة الفضفاضة التي يلبسها المستعملون لها من شاؤوا ممن خالفهم في معتقدهم ومنهجهم بغرض ذمهم والتنفير منهم وصرف الناس عنهم.

- خامسا: ثم اعلم أن مقصود الطوائف الضالة التي سبق ذكرها من إطلاق هذه الكلمة على المخالفين لهم، وصف هؤلاء المخالفين بالجهل وانعدام العلم، وبالسذاجة وقلة الفهم، لأن الحشو عندهم هم العامة وجمهور الناس الذين قل علمهم، وضعف فهمهم، وعظم جهلهم، وبخاصة بعلم الكلام الذي يظن هؤلاء المبتدعة أنهم نبغوا فيه، وأن الحقائق لا تعلم إلا من خلاله، ولذلك فكل من خالفهم في أقوالهم ومناهجهم، وتقريراتهم وعقائدهم، فهو حشوي ولو كان من أحفظ الناس وأعلمهم، بل ولو كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، فالحشوي هو كل من خالف ما عليه القوم من وهم سموه علما، ومن تخريفات زعموها حِكَمًا، وخلاصة القول: أن المطلق لهذا اللفظ على غيره متعالي بفنه وعلمه، محسن الظن بنفسه، مزهو بما عنده، مزدري لغيره ممن خالفه ولو كان أفضل منه فهما وعلما، وعملا وحالا، والدليل على هذا كلامُ عمرو بن عبيد المعتزلي في عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي المهاجري.

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية ج 1 ص 242[26]: قلت مسمى الحشوية في لغة الناطقين به ليس اسما لطائفة معينة..." إلى أن قال:"... وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو ابن عبيد رئيس المعتزلة _ فقيههم وعابدهم _ فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله فقال: كان ابن عمر حشويا. نسبه إلى الحشو وهم العامة والجمهور...".

قلت: أي نسبه والعياذ بالله إلى الجهلة ومن لا علم عندهم. قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله في معجم المناهي اللفظية ص 232[27]: فانظر إلى هذه الجسارة الخبيثة في قولة المعتزلي عمرو بن عبيد في حق إمام من أئمة الهدى الصحابي عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وما تزال سلسلة الفساد، يجترها المرضى بفساد الاعتقاد، يطلقون عباراتهم الفجة في حق أهل السنة والجماعة، فيلقبونهم بالحشوية وينبزونهم. والله الموعد.

- وفي معرض بيان من يطلق عليه المبتدعةُ الضلالُ اسمَ الحشوية:

- يقول شيخ الإسلام رحمه الله في المناظرة في العقيدة الواسطية من ضمن مجموع الفتاوى له ج3 ص 119 وما بعدها[28]: وتكلمت على لفظ الحشوية ما أدري جوابا عن سؤال الأمير أو غيره أو عن غير جواب فقلت: هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة فإنهم يسمون الجماعة والسواد الأعظم الحشو، كما تسميهم الرافضة الجمهور، وحشو الناس هم عموم الناس وجمهورهم، وهم غير الأعيان المتميزين، يقولون هذا من حشو الناس كما يقال هذا من جمهورهم، وأول من تكلم بهذا عمرو بن عبيد وقال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه حشويا. فالمعتزلة سموا الجماعة حشوا، كما تسميهم الرافضة الجمهور.

- وقال أيضا في مجموع الفتاوى ج 12 ص 97[29]: وأصل ذلك: أن كل طائفة قالت قولا تخالف به الجمهور والعامة ينسب إلى أنه قول الحشوية أي الذين هم حشو في الناس، ليسوا من المتأهلين عندهم ..." إلى أن قال:"... فإن كان قائل ذلك يعتقد أن الخاصة لا تقوله وإنما تقوله العامة والجمهور فأضافه إليهم وسماهم حشوية ...".

- وقال رحمه الله في منهاج السنة النبوية ج2 ص 518 وما بعدها[30]: فأما لفظ الحشوية فليس فيه ما يدل على شخص معين، ولا مقالة معينة، فلا يدرى من هم هؤلاء، وقد قيل: إن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد فقال كان عبد الله بن عمر حشويا وكان هذا اللفظ في اصطلاح من قاله يريد به العامة الذين هم حشو كما تقول الرافضة عن مذهب أهل السنة مذهب الجمهور.

قلت: إذا الحشوية عند هؤلاء هم الجمهور، وهم الجماعة، وهم غير الأعيان المميزين، ولا المتأهلين أي بعلومهم وفهومهم، والحقيقة أن علوم هؤلاء التي يفخرون على غيرهم بها مجرد أوهام، لم تورثهم سعادة ولا انشراح صدر بل كانت من أعظم أسباب اضطرابهم وقلقهم على الدوام، ولذلك صرح كثير من مُقَدَميهم والمعظمين عندهم بعد طول عنائهم وتعبهم بما يدل على ضحالة ما كانوا عليه، وتفاهة ما خاضوا فيه وخاصموا لأجله، وأن علم الكلام مجرد أوهام، اغتر به بعض الأعلام، وإليك بعض ما يدل على ذلك من كلامهم وأحوالهم:

قال الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرح مفصله على الطحاوية ص 167[31]:

قوله:" فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، مُوَسوساً تائهاً شاكَّاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً".

يتذبذب: يضطرب ويتردد، وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله حال كل من عدل عن الكتاب كامل والسنة إلى علم الكلام المذموم أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب كامل والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد - وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتاب كامله تهافت التهافت: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟! وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه واقفٌ في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمات و(البخاري) على صدره، وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتاب كامله الذي صنفه في أقسام اللذات:

ن
هاية إقدام العقــــول عقال وغاية سعي العــالمين ضلال

وأرواحنـا في وحشة من جسومنا .. وحاصل دنيانا أذىً ووبــال

ولم نستفد من بحثنـا طول عمرنا .. سوى أن جمعنا فيه قيـل وقالوا

فكم قد رأينـا من رجال ودولة .. فبادوا جميعاً مسرعــين وزالوا

وكم من جبـال قد علت شرفاتها .. رجالٌ فزالوا والجبــال جبال

لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.

أقرأ في الإثبات:" الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه:5]، " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ" [فاطر:10].

وأقرأ في النفي:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " [الشورى:11]، " وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً " [طه:110].

ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم حيث قال:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم

وكذلك قال أبو المعالي الجويني: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور. وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي، وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوما فقال: ما تعتقده ؟ قال: ما يعتقده المسلمون. فقال: وأنت منشرح مفصل الصدر لذلك مستيقن به ؟ أو كما قال، فقال: نعم. فقال: أشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته. ولابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق:

فيك يا أغلوطة الفكر ... حار أمري وانقضى عمري

سافرت فيك العقول ... فما ربحت إلا أذى السفر

فلحى الله الأولى زعموا ... أنك المعروف بالنظر

كذبوا إن الذي ذكروا ... خارج عن قوة البشر

وقال الخوفجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئا سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم قال: الإفتقار وصف سلبي أموت وما عرفت شيئا. وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع اللحفة على وجهي وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء.

ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق كما قال أبو يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب. وقال الشافعي رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب كامل والسنة وأقبل على الكلام. وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ماظننت مسلما يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه - ما خلا الشرك بالله - خير له من أن يبتلى بالكلام انتهى.

وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كان يقطع بها ثم تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها فيكونون في نهاياتهم - إذا سلموا من العذاب - بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب" إلى آخر كلامه رحمه الله.

- سادسا: من المتقرر عند أهل الإسلام أن الذم والمدح إنما يكونان بالأسماء الشرعية، والألفاظ المأثورة المرعية، فمن ذم غيره بلفظ من الألفاظ أو كلمة من الكلمات فعليه أن يبرهن على أن هذا اللفظ مذموم في الشريعة الاسلامية الإسلام، إما في كلام الملك العلام، أو كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أو كلام السلف الأعلام، فإن لم يوجد اللفظ في هذه المصادر الثلاثة وجب على من يذم غيره به أن يخبر أولا عن مراده به، وثانيا: أن هذا المراد مذموم في الشريعة الاسلامية الله، فإن تحقق هذا كله وجب إقامة الدليل بعد ذلك على أن المنسوب إليه والموصوف به ينطبق عليه ويتحقق فيه، وإلا لم يجز الذم به أو نسبة الناس إليه:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج 4 ص 89[32]: والمقصود أن كلامه فيه حق[33]، وفيه من الباطل أمور، أحدهما قوله:" لا يتحاشى من الحشو والتجسيم" ذم للناس بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، والذي مدحه زين وذمه شين هو الله، والأسماء التي يتعلق بها المدح والذم من الدين لا تكون إلا من الأسماء التي أنزل الله بها سلطانه، ودل عليها الكتاب كامل والسنة أو الإجماع، كالمؤمن والكافر، والعالم والجاهل، والمقتصد والملحد، فأما هذه الألفاظ الثلاثة فليست في كتاب كامل الله، ولا في حديث عن رسول الله، ولا نطق بها أحد من سلف الأمة وأئمتها، لا نفيا ولا إثباتا.

وأول من ابتدع الذم بها المعتزلة الذين فارقوا جماعة المسلمين، فاتباع سبيل المعتزلة دون سبيل سلف الأمة ترك للقول السديد الواجب في الدين، واتباع لسبيل المبتدعة الضالين، وليس فيها ما يوجد عن بعض السلف ذمه إلا لفظ التشبيه، فلو اقتصر عليه لكان له قدوة من السلف الصالح، ولو ذكر الأسماء التي نفاها الله في القرآن مثل: لفظ الكفؤ والند والسمي، وقال: منهم من لا يتحاشى من التمثيل ونحوه، لكان قد ذم بقول نفاه الله في كتاب كامله، ودل القرآن على ذم قائله، ثم ينظر هل قائله موصوف بما وصفه به من الذم أم لا؟، فأما الأسماء التي لم يدل الشرع على ذم أهلها ولا مدحهم، فيحتاج فيها إلى مقامين، أحدهما: بيان المراد بها، والثاني: بيان أن أولئك مذمومون في الالشريعة الاسلامية.

والمعترض عليه له أن يمنع المقامين، فيقول: لا نسلم أن الذين عنيتهم داخلون في هذه الأسماء التي ذممتها، ولم يقم دليل شرعي على ذمها، وإن دخلوا فيها فلا نسلم أن كل من دخل في هذه الأسماء فهو مذموم في الشرع" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

قلت: قسم شيخ الإسلام في كلامه هذا اللفظ الذي يذم به إلى قسمين وذكر أحكاما تتعلق بكل قسم كالتالي:

1- القسم الأول: اللفظ الذي جاء الذم به في كتاب كامل الله، أو في سنة رسول الله، أو في قول أحد من سلف الأمة المعتبرين: فحُكم هذا اللفظ أن لا يذم أحد به إلا إذا كان منطبقا عليه ومتصفا به.

2- القسم الثاني: اللفظ الذي لم يأتي الذم به في كتاب كامل الله، ولا على لسان رسوله، ولا في قول أحد من سلف الأمة: فحُكم هذا اللفظ أن لا يُذم به إلا بعد تحقيق مقامين: الأول: بيان المعنى المراد بذلك اللفظ. الثاني: أن يكون المعنى المقصود بذلك اللفظ مذموما في الشرع. ثم إذا تحقق المقامان في اللفظ لا يُذم به إلا من ينطبق عليه ويتحقق فيه، فإن ذُم به من ليس له بأهل كان الذام حينئذ متجنيا على غيره ومتعديا عليه.

وبناء على هذا نطلب من الدعي أن يحقق في كلمته هته التي يلوكها بلسانه هذه المقامات المذكورات وإلا عد من المعتدين الظالمين والمفترين الكاذبين.

سابعا: لقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في نونيته كثيرا من الأحكام التي سبق ذكرها، وزاد عليها ما يمتع أسماع أهل السنة ويشنفها، ولذلك أردت أن أسوق ما قاله رحمه الله إقامة للحجة على المخالفين، وإمتاعا وإيناسا للسنيين السلفيين، فإليكم ما يتعلق بموضوعنا مما جاء في النونية من نظم رائق، وبيان نافع فائق:

- قال رحمه الله في القصيدة النونية المسماة بـ: الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية[34]:

فصل

في تلقيبهم أهلَ السُنَّةِ بالحشويةِ وبيانِ منْ أولَى بالوصفِ المذمومِ منْ هذا اللَّقَبِ مِنَ الطَّائِفَتَينِ وذكرِ أَوَّلِ من لَقَّبَ بهِ أهلَ السُنَّةِ مِن أَهْلِ البدعِ

وَمِنَ العَجَائِبِ قَوْلُهُــمْ لِمَنْ اقْتَدَى بالوَحْي مِنْ أَثَـــــرٍ وَمِنْ قُرْآنِ

حَشْوِيةٌ يَعْنُـــونَ حَشْوًا في الوُجُو .. ـدِ وَفَضْلَةً في أُمَّةِ الإِنْسَــــانِ

وَيَظُنُّ جَـــــاهِلُهُمْ بأَنَّهُمُ حَشَوْا .. رَبَّ العِبَـــــادِ بِدَاخِلِ الأَكْوَانِ

إِذْ قَوْلُهُمْ فَوْقَ العِبَـــادِ وَفِي السَّمَا .. ءِ الرَّبُّ ذُو الملَكُــوتِ وَالسُّلْـطَانِ

ظَنَّ الحَمِيرُ بــأَنَّ "في" لِلظَّرْفِ والرَّ .. حْمَنُ مَحْــــوِيٌّ بظَرْفِ مَكَـانِ

واللهِ لَمْ نَسْمَـــــعْ بِذَا مِنْ فِرْقَةٍ .. قَـــالَتْهُ في زَمَنٍ مِنَ الأَزْمَـــانِ

لاَ تَبْهَتُوا أَهْلَ الحَــــدِيثِ بِهِ فَمَا .. ذَا قَوْلَهُـــمْ تَبًّـــا لِذِي البُهْتَانِ

بَلْ قَوْلُهُمْ إِنَّ السَّمَــــواتِ العُلَى .. في كَفِّ خَـــــالِقِ هَذِهِ الأَكْوَانِ

حَقّــاً كَخَرْدَلَةٍ تُرَى في كَفِّ مُمْـ .. سِكِهَـــــا تَعَالَى اللهُ ذُو السُّلْطَانِ

أَتَرَوْنَهُ المَحْصُــــورَ بَعْدُ أَمِ السَّمَا؟ .. يَا قَوْمَنَـــــا ارْتَدِعُوا عَنِ العُدْوَانِ

كَمْ ذَا مَشَبِّهَةٌ وَكَمْ حَشْــــوِيَّةٌ .. فَالبَهْتُ لاَ يَخْفَــــى عَلَى الرَحْمَنِ

يَا قَوْمُ إٍن كَانَ الكِتَــابُ وَسُنَّةُ الـ .. مُخْتَـــــارِ حَشْوًا فَاشْهَدُوا بِبَيَانِ

أَنَّا بِحَمْدِ إِلَهِنَا حَشْوِّيَـــــــةٌ .. صِرْفٌ بِلاَ جَحْـــــدٍ وَلاَ كِتْمَانِ

تَدْرُونَ مَنْ سَمَّتْ شُيُوخُـــكُمُ بِـ .. هَذَا الاسْمِ فِي المَـــاضِي مِنَ الأَزْمَانِ

سَمَّى بِهِ عَمْـــــرٌو لِعَبْدِ اللهِ ذَا .. كَ ابْنُ الخَلِيفَةِ طَـــــارِدِ الشَّيْطَانِ

فَوَرِثْتُمُ عَمْرًا كَمَا وَرِثُـــوا لِعَبْـ .. ـدِ اللهِ أَنَّى يَسْتَوِي الإِرْثـَــــانِ

تَدْرُونَ مَنْ أَوْلَى بِهَــذَا الاِسْمِ وَهْـ .. ـوَ مُنَــــــاسِبٌ أَحْوَالَهُ بِوِزَانِ؟

مَنْ قَدْ حَشَــا الأَوْرَاقَ وَالأَذْهَانَ مِنْ .. بِدَعٍ تُخَــــــالِفُ مُوجَبَ القُرْآنِ

هَذَا هُوَ الحَشْــويُّ لاَ أَهْلَ الحَدِيـ .. ـثِ أَئِمَّــــــةَ الإِسْلاَمِ وَالإِيْمَانِ

وَرَدُوا عِذَابَ مَنَـــاهِلِ السُّنَنَ التِّي .. لَيْسَتْ زُبَـــــــالَةَ هَذِهِ الأَذْهَانِ

وَوَرَدْتُمُ القَلُّـوطَ مَجْرَى كُلِّ ذِي الـ .. ـأَوْسَــــــاخِ وَالأَقْذَارِ وَالأَنْتَانِ

وَكَسِلْتُمُ أَنْ تَصْعَـــدُوا لِلْوِرْدِ مِنْ .. رَأْسِ الشَّرِيعَــــــةِ خَيْبَةَ الكَسْلاَنِ
- وقال رحمه الله في القصيدة نفسها[35]:

فصل فِي بَيَانِ مَوْرِدِ أَهْلِ التَعْطِيلِ وَأَنَّهُم تَعَوَّضُوا بِالقَلُّوطِ عَن السَلْسَبِيل

يَا وَارِدَ القَلُّــــوطِ وَيْحَكَ لَوْ تَرَى مَاذَا عَلَى شَفَتَيْكَ وَالأَسْنَــــانِ

أَوَ مَا تَرَى آثَارَهَـــــا فِي القَلْـ .. ـبِ وَالنِّيَّاتِ وَالأَعْمَـالِ وَالأَرْكَانِ

لَوْ طَابَ مِنْـــكَ الوِرْدُ طَابَتْ كُلُّهَا .. أَنَّى تَطِيـــــبُ مَوَارِدُ الأَنْتَانِ

يَا وَارِدَ القَلُّــــوطِ طَهِّرْ فَاكَ مِنْ .. خَبَثٍ بِهِ واغْسِلْهُ مِنْ أَنْتَـــــانِ

ثُمَّ اشْتُمِ الحَشَوِيَّ حَشْوَ الـدِينِ وَالـ .. قُرْآنِ وَالآثَارِ وَالإِيمَـــــــانِ

أَهْلًا بِهِم حَشْوَ الهُـــدَى وَسِوَاهُمُ .. حَشْوُ الضَلاَلِ فَمَا هُمَا سَيَّــــانِ

أَهْلًا بِهِم حَشْــــوَ اليَقِينِ وَغَيْرُهُم .. حَشْوُ الشُّكُوكِ فَمَا هُمَـــا صِنْوَانِ

أَهْلاً بِهِم حَشْوَ المَسَــاجِدِ وَالسِّوَى .. حَشْوُ الكَنِيفِ فَمَا هُمَـــا عَدْلاَنِ

أَهْلًا بِهِم حَشْوَ الجِنَــــانِ وَغَيْرُهُم .. حَشْوُ الجَحِيـــمِ أَيَسْتَوِي الحَشْوَانِ

يَا وَارِدَ القَلُّــــوطِ وَيْحَكَ لَوْ تَـ .. ـرَى الحَشَوِيَّ وَارِدَ مَنْهَلِ الفُرْقَـانِ

وَتَرَاهُ مِنْ رَأْسِ الشَرِيعَةِ شَــــارِبًا ., مِنْ كَفِّ مَنْ قَدْ جَــــاءَ بِالقُرْآنِ

وَتَرَاهُ يَسْقِي النَّـــاسَ فَضْلَةَ كَأْسِهِ .. وَخِتَامُهَا مِسْكٌ عَلَى رَيْحَـــــانِ

لَعَذَرْتَهُ إِنْ بَالَ فِي القَلُّــــوطِ لَمْ .. يَشْرَبْ بِهِ مَعَ جُمْلَةِ العُمْيَـــــانِ

يَا وَارِدَ القَلُّــــوطِ لاَ تَكْسَلْ فَرَأْ .. سُ المَاءِ فَاقْصِدْهُ قَرِيـــــبٌ دَانِ

هُوَ مَنْهَلٌ سَهْـــــلٌ قَرِيبٌ وَاسِعٌ .. كَــــــافٍ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ الثَّقَلَانِ

واللهِ لَــــيسَ بِأَصْعَبِ الوِرْدَيْنِ بَلْ .. هُوَ أَسْهَلُ الوِرْدَيْنِ لِلظَّمْـــــآنِ


خلاصة:

وخلاصة القول أن نبز الدعي لأهل السنة والجماعة بلفظ الحشوية، يدل على صدق ما وُصف به من سوء الطوية، والتي أصبحت بادية لأهل السنة غير خفية، ثم اعلم أن استدلال أهل السنة على سوء طوية الدعي بلفظ الحشوية الذي ينبزهم به كان من وجهين:

الوجه الأول: حكم أئمة الدين وعلمائه المبرزين على من وصم أهل السنة بهذا اللفظ أنه من أهل البدع الذين يضمرون حب البدعة وحرب السنة، قال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى في كتاب كامله عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص 299[36]: وعلامات البدع على أهلها بادية ظاهرة، وأظهر آياتهم وعلاماتهم شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم وتسميتهم إياهم حشوية وجهلة وظاهرية ومشبهة، اعتقادا منهم في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنها بمعزل عن العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتاج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية من الخير، وحججهم العاطلة بل شبههم الداحضة الباطلة. أولئك الذين لعنهم الله، فأصمهم وأعمى أبصارهم. ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء.

ثم قال رحمه الله ص 303: وسمعت أبا منصور محمد بن عبد الله بن حماد العالم الزاهد يقول: سمعت أبا القاسم جعفر بن أحمد المقري الرازي يقول: قرئ على عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وأنا أسمع: سمعت أبي يقول: _ عني به الإمام في بلده أباه أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي _ يقول: علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر حشويه، يريدون بذلك إبطال الآثار، وعلامة القدرية تسميتهم أهل السنة مجبرة، وعلامة الجهمية تسميهم أهل السنة مشبهة، وعلامة الرافضة تسميتهم أهل الأثر ثابتة وناصبة.

بالإضافة إلى ما تقدم من كلام العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله في معجم المناهي اللفظية ص 232[37] حيث قال:" وما تزال سلسلة الفساد، يجترها المرضى بفساد الاعتقاد، يطلقون عباراتهم الفجة في حق أهل السنة والجماعة، فيلقبونهم بالحشوية وينبزونهم. والله الموعد".

الوجه الثاني: أن ذم المخالف بهذه الكلمة لا يفعله إلا أهل البدع والضلال، والانحراف في العقائد والأقوال والأعمال والأحوال، كالفلاسفة والمعتزلة والجهمية والأشاعرة والرافضة وغيرهم، فالدعي لا يخرج عن الانتساب والإتباع لطائفة من هذه الطوائف، إن لم يكن منتسبا إليها بأكملها، متبعا لها جميعها، على طريقة شيخه وإمامه الذي يدافع عنه ويذب عن حياضه أقصد الصوفي المعروف ابن عربي حيث يقول:

عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
أو كقوله:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينــه داني

لقد صار قلبي قابلاً كـل صورة فمرعىً لغزلان، وديراً لرهبـان

وبيتاً لأوثـــان، وكعبةَ طائف وألـواحَ توراةٍ، ومصحفَ قرآن

أدينُ بديــنِ الحبِّ أَنَّى تَوَجَهَت رَكَائِبُه فَالحُبُّ ديني وإيمـــاني

هذا وإلى كلمة أخرى مع مغالطة من مغالطاته، وتلبيس من تلبيساته، إن شاء الله ويَسَّر.

وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.


وكتبه

أبو عبد السّلام,عبد الصّمد بن الحسين سُليمان

غفر الله له ولوالديه وللمسلمين





مدينة مغنية

يوم السبت

28 من ربيع الأول 1434 هـ
9 من فبراير 2014 م



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- والدعي ذكره باسمه الأجنبي الإفرنجي: سكانيير.

[2]- طبعة دار الكتب العلمية تحقيق وتعليق الدكتور عبد الرحمن عميرة.

[3]- طبعة دار ابن الجوزي دراسة وتحقيق الدكتور علي بن بخيت الزهراني.

[4]- طبعة إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.

[5]- طبعة ابن الجوزي تحقيق علي حسن عبد الحميد.

[6]- قال العلامة الألباني رحمه الله في الضعيفة تحت رقم 237 عن هذا الحديث ضعيف جدا.

[7] - طبعة دار الرسالة بتحقيق شعيب الأرنؤوط وغيره.

[8]- طبعة مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض تحقيق: سعيد بن نصر بن محمد.

[9] - ج 1 ص 686 و 687 طبعة دار النجاح جمع صلاح الدين محمود السعيد.

[10] - طبعة دار العاصمة للنشر والتوزيع.

[11]- ج 1 ص 249.

[12]- طبعة مطبعة الحكومة بمكة المكرمة بتصحيح نمذجي مفصل وتكميل وتعليق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم.

[13]- طبعة جامعة الإمام أشرفت على طباعته ونشره إدارة الثقافة والنشر بالجامعة تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.

[14]- طبعة دار الوفاء اعتناء وتخريج عامر الجزار وأنور الباز.

[15]- طبعة دار الوفاء اعتناء وتخريج عامر الجزار وأنور الباز.

[16]- طبعة جامعة الإمام أشرفت على طباعته ونشره إدارة الثقافة والنشر بالجامعة تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.

[17]- طبعة مطبعة الحكومة بمكة المكرمة بتصحيح نمذجي مفصل وتكميل وتعليق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم.

[18]- يقصد فخر الدين الرازي في كتاب كامله تأسيس التقديس.

[19]- طبعة دار الوفاء اعتناء وتخريج عامر الجزار وأنور الباز.

[20]- يقصد الحاكم العبيدي القرميطي الذي كان بمصر.

[21]- طبعة دار الوفاء اعتناء وتخريج عامر الجزار وأنور الباز.

[22]- قال العلامة صالح الفوزان حفظه الله في شرح مفصل العقيدة الواسطية ص 12 طبعة مكتبة دار السلام بالرياض: بخلاف أهل البدع فإنهم ينسبون إلى بدعهم وضلالاتهم كالقدرية والمرجئة، وتارة ينسبون إلى إمامهم كالجهمية، وتارة ينسبون إلى أفعالهم القبيحة كالرافضة والخوارج .

[23]- طبعة مطبعة الحكومة بمكة المكرمة بتصحيح نمذجي مفصل وتكميل وتعليق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم.

[24]- طبعة دار الوفاء اعتناء وتخريج عامر الجزار وأنور الباز.

[25]- تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.

[26]- طبعة مطبعة الحكومة بمكة المكرمة بتصحيح نمذجي مفصل وتكميل وتعليق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم.

[27]- طبعة دار العاصمة للنشر والتوزيع بالرياض المملكة مادة اللغة العربية السعودية.

[28]- طبعة دار الوفاء اعتناء وتخريج عامر الجزار وأنور الباز.

[29]- طبعة دار الوفاء اعتناء وتخريج عامر الجزار وأنور الباز.

[30]- تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.

[31]- طبعة دار الفكر العربي تخريج العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله.

[32]- طبعة دار الوفاء اعتناء وتخريج عامر الجزار وأنور الباز.

[33]- ذكر هذا في معرض الجواب على قائل لم يسمه: حيث قال في أول الفصل الذي نقلت منه: وأما قول من قال: إن الحشوية على ضربين ....." الخ.

[34]- ص 573، طبعة دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع تحقيق وتعليق: محمد بن عبد الرحمن العريفي، وناصر بن يحي الجنيني، وعبد الله بن عبد الرحمن الهذيل، وفهد بن علي المساعد. تنسيق: محمد أجمل الإصلاحي. تحت إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد.

[35]- ص 581، طبعة دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع تحقيق وتعليق: محمد بن عبد الرحمن العريفي، وناصر بن يحي الجنيني، وعبد الله بن عبد الرحمن الهذيل، وفهد بن علي المساعد. تنسيق: محمد أجمل الإصلاحي. تحت إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد.

[36] - طبعة دار العاصمة للنشر والتوزيع، دراسة وتحقيق: الدكتور ناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع.

[37]- طبعة دار العاصمة للنشر والتوزيع بالرياض المملكة مادة اللغة العربية السعودية.


المصدر: http://www.tasfiatarbia.org/vb/showthread.php?t=9953




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©