كان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية بيوم العَروبة، ولما جاء الإسلام سماه بهذا الاسم، و"الجمُعة" بضم الميم على الأشهر، ومن العرب من يسكنها، ومنهم من يفتحها، وبها كلِّها قُرئ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [الجمعة : 9]إلا أن المتواترَ ضم الميم وهي قراءة العشرة.
قال ابن منظور: (خففها الأعمش، وثقلها عاصم وأهل الحجاز، والأصل فيها التخفيف).
وقد ذكر في سبب تسميتها بهذا الاسم عدة آراء، فقيل: سمي بيوم الجمعة؛ لأن كمال الخلائق جمع فيه، وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه، وقيل: لاجتماع الناس فيه للصلاة، وقيل: سمي بذلك لما جمع فيه من الخير.
الجمعة في اللغة: قال الزبيدي في تاج العروس: (هي مأخوذة من الجمع، كالمنع بمعنى تأليف المتفرق، فالجمعة أي المجموعة، كما يقال: أعطني جمعة من تمر، فهو كالقبضة).
وأصل الجمعة يدل على تضام الشيء، يقال: جمعت الشيء، أي ضممته، كما تأتي بمعنى الألفة في قوله: أدام الله جُمْعة ما بينكما؛ أي أُلفة ما بينكما، فهي بذلك تعني اجتماع الأجساد واجتماع القلوب.
الجمعة في الاصطلاح:
لم تستعمل كلمة الجمعة في الشرع مفردة من غير الإضافة؛ وإنما استعملت في كتب الفقه بإضافة كلمة (الصلاة) إليها.
وصلاة الجمعة لقب لفريضة دورية تُقام كل أسبوع في يوم الجمعة بعد الزوال، وهي صلاة ركعتين فريضة بشرائطها. قال الجصاص: (الجمعة ركعتان نقلتها الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً).
يوم الجمعة يوم اختاره الله لعباده المسلمين، بينما ضلت عنه الأمم السابقة. جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نحن الآخرون السابقون – وفي رواية: الآخرون الأولون – يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب كامل من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض رائع الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد»[صحيح البخاري (876)، وصحيح مسلم (2015)]، وبيَّن صلى الله عليه وسلم فضل هذا اليوم في قوله: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق الله آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة»[صحيح مسلم (2014)].
وفيه من الفضائل ما لم يكن لغيره من الأيام، وقد فصل هذه الفضائل وأفاض فيها الإمام ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد، ومن أبرز هذه الفضائل:
1– أنه يوم عيد لهذه الأمة: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن هذا يوم عيد، جعله الله للمسلمين، فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، وإن كان عنده طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك»[سنن ابن ماجه (1098)، وصححه الألباني (1/449)].
2– أن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجرَ سنة صيامها وقيامها، لما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ودنا من الإمام، فأنصت كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامها»[سنن أبي داود (345)، وسنن الترمذي (496) وحسّنه، وسنن النسائي (1381)، وسنن ابن ماجه (1087)، ومسند أحمد (16218)، وقال الألباني في صحيح الجامع (1/1094): صحيح].
3– أنه يوم تكفير السيئات، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته، إلا كانت كفارة لما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتُنبت المقتلة» وزاد الطبراني: (وذلك الدهر كله) [مسند أحمد (23769)، والمعجم الكبير للطبراني (5967) والسنن الكبرى للنسائي (1665)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/171): إسناده حسن.].
4– أن جهنم تسجر كل يوم إلا يوم الجمعة. فعن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: «إن جهنم تسجر فيه إلا يوم الجمعة»[سنن أبي داود (1085) وذكر أن فيه انقطاعاً].
5– الأمان من فتنة القبر لمن مات يومها أو ليلتها، لحديث: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر»[سنن الترمذي (1074)، ومسند أحمد (6582) ، وقال الألباني في صحيح الجامع (2/1006): حسن].
6– أن فيه ساعة الإجابة، وهي الساعة التي لا يسأل اللهَ عبدٌ مسلم فيها شيئا إلا أعطاه إياه؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها»[صحيح البخاري (935)، وصحيح مسلم (2014)]. وقد اختلفت الأقوال في تعيين هذه الساعة، وأرجح الأقوال أنها آخر ساعة بعد العصر.
7– أنه يوم يزور فيه المؤمنون ربهم في الجنة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم، ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم، ويبرز لهم عرشه، ويتبدَّى لهم في روضة من رياض الجنة»[سنن الترمذي (2549)، وسنن ابن ماجه (4336)، وسنده ضعيف]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه دخل المسجد يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس يجلسون من الله يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعات الأول والثاني والثالث»، ثم قال رضي الله عنه: «رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد»[سنن ابن ماجه (1094)، والمعجم الكبير للطبراني (9870)، وقد حسنه المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/290)].
وكما فضَّل الله هذا اليوم العظيم بفضائل عن غيره من الأيام، فقد اختصه بشيء من الأعمال والعبادات التي استحبها الله لعباده في هذا اليوم، ومن هذه الأعمال:
1– استحباب قراءة سورتي السجدة والإنسان في صلاة الفجر يوم الجمعة؛ وذلك لما تضمنته هاتان السورتان مما كان ويكون في يوم الجمعة من خلق آدم وذكر المعاد والحشر، وقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك[انظر صحيح البخاري (891)، وصحيح مسلم (2068)].
2– استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومه وليلته لقوله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه وسلم عشرا»[أخرجه البيهقي في الكبرى (3/249)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1/263)].
3– الأمر بالاغتسال يومها، واستحباب التطيب والسواك، ولبس أحسن الثياب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل»[صحيح البخاري (894)، وصحيح مسلم (1989)]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد، ثم يركع إن بدا له، ولم يؤذِ أحدًا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينهما»[مسند أحمد (23618)، وإسناده حسن، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/171): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/1048)]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته»[سنن أبي داود (1080)، وسنن ابن ماجه (1095)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/985)].
قال الشافعي – رحمه الله –: (ونحب للرجل أن يتنظف يوم الجمعة بغسل وأخذ شعر وظفر، وعلاج ما يقطع تغير الريح من جميع جسده، وسواك، وكل ما نظّفه وطيّبه، وأن يمس طيبًا مع هذا إن قدر عليه، ويستحسن من ثيابه ما قدر عليه، يطيبها اتباعًا للسنة، ولا يؤذي أحدًا قاربه بحال).
4– استحباب قراءة سورة «الكهف» في يوم الجمعة وليلتها، لما جاء عن أبي سعيد الخدريَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ سورة (الكهف) في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين»[السنن الكبرى للبيهقي (5792)، والحاكم وصححه (2/368) ورده الذهبي بأن فيه نعيم بن حماد له مناكير، وصححه الألباني في "صحيح الجامع (2/1104)]، وفي رواية عند الدارمي: «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاءت له من النور ما بينه وبين البيت العتيق»[سنن الدارمي (3407)، والأصح في هذه الرواية وقفها على أبي سعيد، ولكن لها حكم].
5– استحباب قراءة سورتي (الجمعة) و(المنافقون)، أو (الأعلى) و(الغاشية) في صلاة الجمعة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن في الجمعة[صحيح مسلم (2065)].
6– كراهة إفراده بالصوم قصداً لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده»[صحيح البخاري (1985)، وصحيح مسلم (2739)]، وبقوله: «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام، إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم»[صحيح مسلم (2740)]، وهو قول الشافعي وأحمد، والمعتمد من مذهب أبي حنيفة. وذهب مالك إلى أنه لا فرق بين إفراد الجمعة وغيره بالصيام، فكل ذلك جائز.




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©