الجزء 8

وقد ثبت عن عمر أنه كان شديد التسامح مع أهل الذمة، حيث كان يعفيهم من الجزية عندما يعجزون عن تسديدها، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب كامل الأموال: أن عمر – رضي الله عنه – مر بباب قوم وعليه سائل يسأل – شيخ كبير ضرير البصر – فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب كامل أنت؟ فقال يهودي، قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرض رائعخ له بشيء من المنزل( )، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه( )، وقد كتب إلى عماله معمّماً عليهم هذا الأمر( ) وهذه الأفعال تدل على عدالة الإسلام وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرفق برعاياها ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرية الدينية معلماً بارزاً في عصر الخلافة الراشدة، مكفولة من قبل الدولة، ومصانه بأحكام التشريع الرباني.

2- حرية التنقل أو حرية الغدو والرواح:
حرص الفاروق على هذه الحرية حرصاً شديداً ولكنه قيدها في بعض الحالات الاستثنائية التي استدعت ضرورة لذلك، أما الحالات الاستثنائية التي جرى فيها تقييد حرية التنقل أو حرية المأوى فهي قليلة جداً، ويكفينا أن نشير إلى الحالتين نظراً لأهميتها:
أ‌- أمسك عمر كبار الصحابة في المدينة ومنعهم من الذهاب إلى الأقطار المفتوحة إلا بإذن منه أو لمهمة رسمية كتعيين بعضهم ولاة أو قادة للجيوش وذلك حتى يتمكن من أخذ مشورتهم والرجوع إليها فيما يصادفه من مشاكل في الحكم ويحول في الوقت نفسه دون وقوع أية فتنة أو انقسام في صفوف المسلمين في حال خروجهم للأمصار واستقرارهم فيها( )، فقد كان من حكمته السياسية ومعرفته الدقيقة لطبائع الناس ونفسيتهم، أنه حصر كبار الصحابة في المدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد( )، وكان يعتقد أنه إذا كان التساهل في هذا الشأن، نجمت الفتنة في البلاد المفتوحة، والتفَّ الناس حول الشخصيات المرموقة، وثارت حولها الشبهات، وكثرت القيادات والرايات، وكان من أسباب الفوضى( )، لقد خشي عمر رضي الله عنه: من تعدد مراكز القوى السياسية والدينية داخل الدولة الإسلامية، حيث يصبح لشخص هذا الصحابي الجليل أو ذاك هالة من الإجلال والاحترام على رأيه، ترقى به إلى مستوى القرار الصادر من السلطة العامة، وتجنباً لتعدد مراكز القوى، وتشتت السلطة، فقد رأى عمر إبقاء كبار الصحابة، داخل المدينة يشاركونه في صناعة القرار، ويتجنبون فوضى الاجتهاد الفردي، ولولا هذا السند الشرعي لكان القرار الصادر عن عمر – رضي الله عنه – غير مجد ولا ملزم لافتقاده لسببه الشرعي الذي يسوغه؛ إذ التصرف على الرعية منوط بالمصلحة( ).
ب‌- وأما الحالة الثانية فقد حصلت عندما أمر عمر بإجلاء نصارى نجران ويهود خيبر من قلب البلاد مادة اللغة العربية إلى العراق والشام وسبب ذلك أن يهود خيبر ونصارى نجران لم يلتزموا بالعهود والشروط التي أبرموها مع رسول الله  وجددوها مع الصديق، فقد كانت مقرات يهود خيبر ونصارى نجران أوكاراً للدسائس والمكر فكان لا بد من إزالة تلك القلاع الشيطانية، وإضعاف قواتهم، أما بقية النصارى واليهود، كأفراد فقد عاشوا في المجتمع المدني يتمتعون بكافة حقوقهم، روى البيهقي في سننه وعبد الرزاق بن همام الصنعاني في مصنفه عن ابن المسيب وابن شهاب: أن رسول الله –- قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب. قال مالك، قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حتى أتاه الثلج واليقين عن رسول الله  أنه قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، فأجلى يهود خيبر. قال مالك: قد أجلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يهود نجران وفدك( ).
لقد كانت نبوة النبي  بالنسبة للصحابة يقيناً ولذلك لم يستطع اليهود
ولا نصارى نجران أن يلتزموا بعهودهم مع المسلمين لشدة عداوتهم وبغضهم وحسدهم للإسلام والمسلمين، فاليهود في خيبر كان من أسباب إجلائهم ما رواه ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: لما فدع( ) أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيباً فقال: إن رسول الله –  – عامل يهود خيبر على أموالهم وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيره هم عدونا وتهمتنا وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني الحقيق فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا – محمد  – وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله –  -: كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك( )، ليلة بعد ليلة؟ فقال: كان ذلك هزيلة من أبي القاسم فقال: كذبت ياعدو الله. فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك( ) لقد غدر اليهود ونقضوا عهودهم، فكان طبيعياً أن يخرجوا من جزيرة العرب تنفيذاً لوصية رسول الله فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحا، وأما نصارى نجران فلم يلتزموا بالشروط والعهود التي أبرموها مع رسول الله ، وجددوها مع الصديق؛فأخلوا ببعضها وأكلوا الربا وتعاملوا به، فأجلاهم الفاروق من نجران إلى العراق وكتب لهم: أما بعد .. فمن وقع به من أمراء الشام أو العراق فليوسعهم خريب الأرض( )، وما اعتملوا من شيء فهو لهم لوجه الله وعقب من أرضهم (( فأتوا العراق فاتخذوا النجرانية وهي قرية بالكوفة( )، وذكر أبو يوسف أن الفاروق خاف من النصارى على المسلمين( )، وبذلك تتجلى سياسة الفاروق فيما فعل من إخراجهم بعد توفر أسباب أخرى إضافة إلى وصية رسول الله ، ويتجلى فقه الفاروق في توجيه الضربات المركزة إلى مقرات اليهود في خيبر، والنصارى في نجران بعد أن وجد المبررات اللازمة لإخراجهم من جزيرة العرب بدون ظلم أو عسف أو جور، وهكذا منع أوكار الدسائس والمكر من أن تأخذ نفساً طويلاً للتخطيط من أجل القضاء على دولة الإسلام الفتية.

3- حق الأمن، وحرمة المسكن، وحرية الملكية:
إن الإسلام أقر حق الأمن في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، قال تعالى: فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ  (البقرة، آية:193). وقال أيضاً:  فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ  (البقرة، آية194). وقد عرف الإسلام أيضاً حق الحياة الذي هو أوسع من حق الأمن، لأن هذا الأخير يتضمن فعلاً سلبياً من جانب الدولة يعبر عنه بالامتناع عن الاعتداء أو التهديد في حين أن حق الحياة يتضمن علاوة على ذلك فعلاً إيجابياً وهو حماية الإنسان ودمه من أي اعتداء أو تهديد ويجعل هذه الحماية مسؤولية عامة ملقاة على عاتق الناس كافة، لأن الاعتداء بدون حق على أحدهم هو بمثابة الاعتداء عليهم جميعاً( )، قال تعالى:  مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا  (المائدة،آية:32). ومن المنطلق القرآني والممارسة النبوية تكفل الفاروق في عهده للأفراد بحق الأمن وحق الحياة وسهر على تأمينهما وصيانتهما من أي عبث أو تطاول وكان الفاروق رضي الله عنه يقول: (إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم ويشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكن استعملتهم ليعلموكم كتاب كامل ربكم وسنة نبيكم فمن ظلمه عامله بمظلمة فليرفعها إليَّ حتى أقصه منه( )، وجاء عن عمر أيضاً قوله: ليس الرجل بمأمون على نفسه أن أجعته أو أخفته أو حبسته أن يقر على نفسه( )، وقوله هذا يدل على عدم جواز الحصول على الإقرار والاعتراف من مشتبه به في جريمة تحت الضغط أو التهديد سواء أكانت الوسيلة المستعملة بذلك مادية (كحرمانه من عطائه أو مصادرة أمواله) أو معنوية (كاللجوء إلى تهديده أم تخويفه بأي نوع من العقاب) وجاء في كتاب كامله لأبي موسى الأشعري بصفته قاضياً: واجعل للمدعي حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا وجهت عليه القضاء فإن ذلك أنفى للشك)( ) وهذا القول يدل على أن حق الدفاع كان محترماً ومصاناً( )، وفيما يتعلق بحرمة المسكن، فإن الله سبحانه حرم دخول البيوت والمساكن بغير موافقة أهلها أو بغير الطريقة المألوفة لدخولها، فقال سبحانه بهذا الشأن لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27) 0فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ  (النور، آية: 27-28).
وقال أيضاً وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا  (البقرة: 189)، كما قال:
ولا تَجسَّسُوا  وقد كانت حرمة المسكن مكفولة ومصانة في عهد الفاروق وعصر الخلفاء الراشدين( )، وأما حرية الملكية فقد كانت مكفولة ومصانة في عصر الراشدين ضمن أبعد الحدود التي تقرها الالشريعة الاسلامية الإسلامية في هذا المجال فحين اضطر عمر رضي الله عنه، لأسباب سياسية وحربية بإجلاء نصارى نجران ويهود خيبر من قلب شبه الجزيرة مادة اللغة العربية، إلى العراق والشام أمر بإعطائهم أرضاً كأرضهم في الأماكن التي انتقلوا إليها احتراماً منه وإقراراً لحق الملكية الفردية الذي يكفله الإسلام لأهل الذمة مثلما يكفله للمسلمين( )، وعندما اضطر عمر إلى نزع ملكية بعض الدور من أجل العمل على توسيع المسجد الحرام في مكة، ولم يكن دفعه للتعويض العادل إلا اعترافاً منه وإقراراً بحق الملكية الفردية التي لا يجوز مصادرتها حتى في حالة الضرورة إلا بعد إنصاف أصحابها( )، وحرية الملكية لم تكن في عهد الراشدين مطلقة وإنما هي مقيدة بالحدود الشرعية وبمراعاة المصلحة العامة، فقد روي أن بلالاً بن الحارث المزني جاء إلى رسول الله  يطلب منه أن يستقطعه أرضاً، فأقطعه أرضاً طويلة عريضة، فلما آلت الخلافة إلى عمر رضي الله عنه، قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله  أرضاً طويلة عريضة فقطعها لك، وإن رسول الله  لم يكن يمنع شيئاً يسأله، وأنت لا تطيق ما في يدك فقال أجل: فقال عمر: فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق وما لم تقو عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال لا أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله ، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ عمر ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين( ) وهنا يدل على أن الملكية الفردية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصلحة الجماعة فإن أحسن المالك القيام بما يتطلبه معنى الاستخلاف في الرعاية والاستثمار فليس لأحد أن ينازعه ملكه، وإلا فإن لولي الأمر أن يتصرف بما يحول دون إهماله( ).

4- حرية الرأي:
كفل الإسلام للفرد حرية الرأي كفالة تامة، وقد كانت هذه الحرية مؤمنة ومصانة في عهد الخلفاء الراشدين، فكان عمر رضي الله عنه يترك الناس يبدون آراءهم السديدة ولا يقيدهم ولا يمنعهم من الإفصاح عما تكنه صدورهم( )، ويترك لهم فرصة الاجتهاد في المسائل التي لا نص فيها، فعن عمر أنه لقي رجلاً فقال: ما صنعت؟ قال؟ قضى علي وزيد بكذا قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب كامل الله أو إلى سنة نبيه  لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك ما قال علي وزيد( )، وهكذا ترك الفاروق الحرية للصحابة يبدون آراءهم في المسائل الاجتهادية ولم يمنعهم من الاجتهاد ولم يحملهم على رأي معين( )، وكان النقد أو النصح للحاكم في عهد الفاروق والخلفاء الراشدين مفتوحاً على مصراعيه، فقد قام الفاروق رضي الله عنه يخطب فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه، فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه( )، وقد جاء في خطبة عمر لما تولى الخلافة: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة( )، واعتبر الفاروق ممارسة الحرية السياسية البناءة (النصيحة) تعد واجباً على الرعية ومن حق الحاكم أن يطالب بها: أيها الرعية إن لنا عليكم حقاً: النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير( )، وكان يرى أن من حق أي فرد في الأمة أن يراقبه ويقوم اعوجاجه ولو بحد السيف إن هو حاد عن الطريق، فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه( )، وكان يقول: أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي( )، وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تهيباً مني( )، وجاءه يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: اتق الله يا عمر: فغضب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها( )، ووقف ذات يوم يخطب في الناس فما كاد يقول: (أيها الناس اسمعوا وأطيعوا) حتى قاطعه أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر، فقال عمر بهدوء: لم يا عبد الله؟ قال: لأن كلاً منا أصابه قميص واحد من القماش لستر عورته. فقال له عمر: مكانك، ثم نادى ولده عبد الله بن عمر، فشرح مفصل عبد الله أنه قد أعطى أباه نصيبه من القماش ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصحابة وقال الرجل في احترام وخشوع: الآن السمع والطاعة يا أمير المؤمنين( ) وخطب ذات يوم، فقال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي القصة –يعني يزيد بن الحصين- فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة معترضة على ذلك: ما ذاك لك قال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى قال:  وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(20)  (النساء،آية:20). فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ( )، وجاء في رواية: أنه قال: اللهم غفراً كل إنسان أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مئة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب وطابت به نفسه فليفعل( ) وليست حرية الرأي مطلقة في نظر الالشريعة الاسلامية فليس للإنسان أن يفصح في كل ما يشاء، بل هي مقيدة بعدم مضرة الآخرين بإبداء الرأي، سواء كان الضرر عاماً أو خاصاً، ومما منعه عمر رضي الله عنه وحظره وقيده.

أ‌) الآراء الضالة المضلة في الدين واتباع المتشابهات: ومن ذلك قصة النبطي الذي أنكر القدر بالشام( ) فقد اعترض على عمر –رضي الله عنه- وهو يخطب بالشام حينما قال عمر: ومن يضلل الله فلا هادي له، فاعترض النبطي منكراً للقدر، قائلاً: إن الله لا يضل أحداً! فهدده عمر بالقتل إن أظهر مقولته القدرية مرة أخرى( )، وعن السائب بن يزيد أنه قال: أتى رجل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين:  وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا(1) فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا(2)  (الذاريات،آية:21) فقال عمر –رضي الله عنه- أنت هو؟ فقام إليه وحسر( )، عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه، واحملوه على قِتْب( )، ثم اخرجوا حتى تقدموا به بلاده، ثم ليقم خطيباً ثم ليقل: إن صبيغاً( )،ابتغى العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك( ).

ب) والوقوع في أعراض الناس بدعوى الحرية:
وقد حبس عمر –رضي الله عنه- الحطيئة( ) من أجل هجائه الزبرقان بن بدر( ) بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي( )
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسين( ) وقد توعد عمر الحطيئة بقطع لسانه إذا تمادى في هجو المسلمين ونهش أعراضهم، وقد استعطفه الحطيئة وهو في سجنه بشعر منه قوله:

ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
أنت الأمير الذي من بعد صاحبه
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر فاغفر عليك سـلام الله يا عمر
ألقى إليك مقاليد النهى البشـر

فرق له قلب عمر وخلى سبيله، وأخذ عليه ألا يهجو أحداً من المسلمين( )، وقد ورد أن الفاروق اشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بمبلغ ثلاثة آلاف درهم حتى قال ذلك الشاعر:

أخذت أطراف الكلام فلم تدع
ومنعتني عرض البخيل فلم يخف
شتما يضر ولا مديحاً ينفع
شتمي وأصبح آمنا لا يفزع( )

5- رأي عمر في الزواج بالكتاب كامليات:
لما علم عمر رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية كتب إليه: خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن: وفي رواية إني أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات( ).
قال أبو زهرة: (يجب أن نقرر هنا أن الأولى للمسلم ألا يتزوج إلا مسلمة لتمام الألفة من كل وجه ولقد كان عمر –رضي الله عنه- ينهى عن الزواج بالكتاب كامليات إلا لغرض سام كارتباط سياسي يقصد به جمع القلوب وتأليفها أو نحو
ذلك ...) ( ).
لقد بين المولى عز وجل في كتاب كامله بأن الزواج بالمؤمنة ولو كانت أمة أولى من الزواج بالمشركة ولو كانت حرة قال تعالى:  وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221)  (البقرة،آية:221)، ففي هذه الآيات الكريمة ينهى الحق سبحانه وتعالى عن الزواج بالمشركات حتى يؤمن بالله ويصدقن نبيه، وحكم بأفضلية الأمة المؤمنة بالله ورسوله -وإن كانت سوداء رقيقة الحال- على المشركة الحرة وإن كانت ذات جمال وحسب ومال، ويمنع في المقابل المؤمنات من الزواج بالمشركين ولو كان المشرك أحسن من المؤمن في جماله وماله وحسبه( )، وإذا كان الزواج بالمشركة حراماً بنص هذه الآية فإن الزواج بالكتاب كاملية جائز بنص آخر وهو قوله تعالى:
 وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (المائدة،آية:5) وهو نص مخصص للعموم في النص الأول، هذا هو رأي الجمهور( )، إلا أنهم قالوا إن الزواج بالمسلمة أفضل، هذا فيما إذا لم تكن هنالك مفاسد تلحق الزوج أو الأبناء أو المجتمع المسلم، أما إن وجدت مفاسد فإن الحكم هو المنع، وهذا ماذهب إليه بعض العلماء المعاصرين( )، وهو رأي سبق إليه عمر بن الخطاب: إذ هو أول من منع الزواج بالكتاب كامليات مستنداً في ذلك إلى حجتين:
أ‌- لأنه يؤدي إلى كساد الفتيات المسلمات وتعنيسهن.
ب‌- لأن الكتاب كاملية تفسد أخلاق الأولاد المسلمين ودينهم وهما حجتان كافيتان في هذا المنع، إلا أنه إذا نظرنا إلى عصرنا فإننا سنجد مفاسد أخرى كثيرة استجدت تجعل هذا المنع أشد( )، وقد أورد الأستاذ جميل محمد مبارك مجموعة من هذه المفاسد منها:
أ‌- قد تكون للزوجة من أهل الكتاب كامل مهمة التجسس على المسلمين.
ب‌- دخول عادات الكفار إلى بلاد المسلمين.
ت‌- تعرض المسلم للتجنس بجنسية الكفار.
ث‌- جهل المسلمين المتزوجين بالكتاب كامليات مما يجعلهم عجينة سهلة التشكيل في يد الكتاب كامليات.
ج‌- شعور المتزوجين بالكتاب كامليات بالنقص وهو أمر أدى إليه الجهل بدين الله( ).

وهي مفاسد كافية للاستدلال على حرمة الزواج بالكتاب كاملية في عصرنا.
إن القيود التي وضعها عمر على الزواج بالكتاب كامليات تنسجم مع المصالح الكبرى للدولة والأهداف العظمى للمجتمعات الإسلامية، فقد عرفت الأمم الواعية ما في زواج أبنائها بالأجنبيات من المضار، وما يجلبه هذا الزواج من أخطار تعيب الوطن عفواً أو قصداً، فوضعت لذلك قيوداً وبالذات للذين يمثلونها في المجالات العامة، وهو احتياط له مبرراته الوجيهة، فالزوجة تعرف الكثير من أسرار زوجها إن لم تكن تعرفها كلها، على قدر ما بينهم من مودة وانسجام، ولقد كان لهذه الناحية من اهتمام عمر رضي الله عنه مقام الأستاذية الحازمة الحاسبة لكل من جاء بعده كحاكم على مر الزمان، إن الزواج من الكتاب كامليات فيه مفاسد عظيمة، فإنهن دخيلات علينا ويخالفننا في كل شيء، وأكثرهن يبقين على دينهن، فلا يتذوقن حلاوة الإسلام وما فيه من وفاء وتقدير للزوج، قدر عمر كل ذلك بفهمه لدينه، وبصائب تقديره، لطبائع البشر، وبحسن معرفته لما ينفع المسلمين وما يضرهم، فأصدر فيه أوامره وعلى الفور وفي حسم( ) لقد كانت الحرية في العهد الراشدي مصونة ومكفولة ولها حدودها وقيودها ولذلك ازدهر المجتمع وتقدم في مدار الرقي، فالحرية حق أساسي للفرد والمجتمع، يتمتع بها في تحقيق ذاته وإبراز قدراته، وسلب الحرية من المجتمع سلب لأهم مقوماته فهو أشبه بالأموات.
إن الحرية في الإسلام إشعاع داخلي ملأ جنبات النفس الإنسانية بارتباطها بالله، فارتفع الإنسان بهذا الارتباط إلى درجة السمو والرفعة، فأصبحت النفس تواقة لفعل الصالحات والمسارعة في الخيرات ابتغاء رب الأرض والسماوات، فالحرية في المجتمع الإسلامي دعامة من دعائمه تحققت في المجتمع الراشدي في أبهى صور انعكست أنوارها على صفحات الزمان( ).

ثامناً: نفقات الخليفة، والبدء بالمادة التاريخ الهجري ولقب أمير المؤمنين:

1- نفقات الخليفة:
لما كانت الخلافة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن من يتولاها ويحسن فيها فإنه يرجى له مثوبته، وجزاؤه عند الله سبحانه وتعالى، فإنه يجازي المحسن، بإحسانه، والمسيء بإساءته( )، قال تعالى:  فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ(94)  (الأنبياء،آية:94) ذلك بالنسبة للجزاء الأخروي، وأما بالنسبة للجزاء الدنيوي فإن الخليفة الذي يحجز منافعه الصالحة للأمة، ويعمل على أداء الواجب نحوها يستحق عوضاً على ذلك، إذ أن المنافع إذا حجزت قوبلت بعوضين( )، فالقاعدة الفقهية أن كل محبوس لمنفعة غيره يلزمه نفقته، كمفت وقاض ووال( )، وأخذ العوض على تولي الأعمال مشروع بإعطاء النبي  العمال( ) لمن ولاه عملاً( ) ولما ولي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد
أبي بكر مكث زماناً، لا يأكل من بيت المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، لم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته، لأنه اشتغل عنها بأمور الرعية، فأرسل إلى أصحاب رسول الله فاستشارهم في ذلك فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل( )، وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وقد بين عمر حظه من بيت المال فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف( )، وجاء في رواية أن عمر خرج على جماعة من الصحابة فسألهم
ما ترونه يحل لي من مال الله؟ أو قال: من هذا المال؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم بذلك منا، قال إن شئتم أخبرتكم ما أستحل منه، ما أحج وأعتمر عليه من الظهر، وحلتي في الشتاء وحلتي في الصيف، وقوت عيالي شبعهم، وسهمي في المسلمين، فإنما أنا رجل من المسلمين، قال معمر: وإنما كان الذي يحج عليه ويعتمر بعيراً واحداً( )، وقد ضرب الخليفة الراشد الفاروق للحكام أروع الأمثلة في أداء الأمانة فيما تحت أيديهم، فقد روى أبو داود عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: ذكر عمر بن الخطاب يوماً الفيء فقال: ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب كامل الله عز وجل وقسم رسول الله  فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته( )، وعن الربيع بن زياد الحارثي أنه وفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعجبته هيئته ونحوه، فقال: يا أمير المؤمنين إن أحق الناس بطعام لين، ومركب لين، وملبس لين لأنت -وكان أكل طعاماً غليظاً- فرفع عمر جريدة كانت معه فضرب بها رأسه، ثم قال: أما والله ما أراك أردت بها الله، ما أردت بها إلا مقاربتي، وإن كنت لعلّها: لأحسب أن فيك خيراً، ويحك هل تدري مثلي ومثل هؤلاء؟ قال: وما مثلك ومثلهم، قال مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل يحل له أن يستأثر منها بشيء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال فذلك مثلي ومثلهم( )، وقد استنبط الفقهاء من خلال الهدى النبوي والعهد الراشدي مجموعة من الأحكام تتعلق بنفقات الخليفة منها:
أ‌- أنه يجوز للخليفة أن يأخذ عوضاً عن عمله، وقد نص النووي( )، وابن العربي( )، والبهوتي( )، وابن مفلح( ) على جواز ذلك.
ب‌- وأن الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد أخذا رزقاً على ذلك.
ث- وأن أخذ الرزق هو مقابل انشغالهما في أمور المسلمين كما قاله
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
ت‌- وأن الخليفة له أن يأخذ ذلك سواء كان بحاجة إليه أولا، ويرى ابن المنير( )، أن الأفضل له أن يأخذ، لأنه لو أخذ كان أعون في عمله مما لو ترك، لأنه بذلك يكون مستشعراً بأن العمل واجب عليه( ).

2- بدء المادة التاريخ:
يعد المادة التاريخ بالهجرة تطوراً له خطره في النواحي الحضارية، وكان أول من وضع المادة التاريخ بالهجرة عمر، ويحكى في سبب ذلك عدة روايات، فقد جاء عن ميمون بن مهران أنه قال: دُفع إلى عمر رضي الله عنه صَكٌ محله في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الذي مضى أو الذي هو آت أو الذي نحن فيه، ثم جمع أصحاب رسول الله  فقال لهم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على مادة التاريخ الروم فقيل: إنه يطول وإنهم يكتبون من عند ذي القرنين، فقال قائل: اكتبوا مادة التاريخ الفرس قالوا: كلما قام ملك طرح ما كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه أقام عشرة سنين فكتب أو كتب المادة التاريخ على هجرة رسول الله ( )، وعن عثمان بن عبيد الله( )، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: جمع عمر بن الخطاب المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فقال: متى نكتب المادة التاريخ؟ فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: منذ خرج النبي  من أرض الشرك، يعني من يوم هاجر، قال: فكتب ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه( )، وعن ابن المسيب قال: أول من كتب المادة التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من المحرم بمشورة على بن أبي طالب رضي الله عنه( )، وقال أبو الزناد( ): استشار عمر في المادة التاريخ فأجمعوا على الهجرة( )، وروى ابن حجر في سبب جعلهم بداية المادة التاريخ في شهر محرم وليس في ربيع الأول الشهر الذي تمت فيه هجرة النبي  أن الصحابة الذين أشاروا على عمر وجدوا أن الأمور التي يمكن أن يؤرخ بها أربعة، هي مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، ووجدوا أن المولد والمبعث لا يخلو من النزاع في تعيين سنة حدوثه، وأعرضوا عن التأريخ بوفاته لما يثيره من الحزن والأسى عند المسلمين، فلم يبق إلا الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرم، إذ وقعت بيعة العقبة الثانية في ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال محرم، فناسب أن يُجعل مبتدأ.. ثم قال ابن حجر: وهذا أنسب ما وقعت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم( ).
وبهذا الحدث الإداري المتميز أسهم الفاروق في إحداث وحدة شاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى في شبه الجزيرة، حيث ظهرت وحدة العقيدة بوجود دين واحد، ووحدة الأمة بإزالة الفوارق، ووحدة الاتجاه باتخاذ مادة التاريخ واحد، فاستطاع أن يواجه عدوه وهو واثق من النصر( ).

3- لقب أمير المؤمنين:
لما مات أبو بكر رضي الله عنه وكان يدعى خليفة رسول الله  فقال المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة رسول الله  فيطول هذا، ولكن أجمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يُدْعى به من بعده من الخلفاء، فقال بعض أصحاب رسول الله : نحن المؤمنون وعمر أميرنا، فدعي عمر أمير المؤمنين فهو أول من سمي بذلك( )، وعن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سأل
أبا بكر ابن سليمان بن أبي خيثمة( )، لم كان أبو بكر رضي الله عنه يكتب من
أبي بكر خليفة رسول الله ؟ ثم كان عمر رضي الله عنه يكتب بعده: من عمر بن الخطاب خليفة أبي بكر ومن أول من كتب أمير المؤمنين فقال: حدثتني جدتي الشفاء( )، وكانت من المهاجرات الأول، وكان عمر إذا دخل السوق دخل عليها قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عامل بالعراق( )، أن ابعث إلي برجلين جلدين نبيلين، أسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه صاحب العراقين بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقدما المدينة فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثم دخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص، فقالا له: (ياعمرو استأذن لنا على أمير المؤمنين، فدخل عمرو فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال له عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا بن العاص؟ لتخرجن مما قلت: قال: نعم، قدم لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين فقلت: أنتما والله أصبتما اسمه، إنه أمير ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب كامل من ذلك اليوم( )، وفي رواية: أن عمر رضي الله عنه قال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم فهو سمى نفسه( )، وبذاك يكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أول من سمي بأمير المؤمنين
وأنه لم يسبق إليه، وإذا نظر الباحث في كلام أصحاب النبي  رأى أن جميعهم قد اتفقوا على تسميته بهذا الاسم وسار له في جميع الأقطار في حال ولايته( ).

المبحث الثاني: صفات الفاروق، وحياته مع أسرته، واحترامه لأهل البيت:

أولاً: أهم صفات الفاروق:
إن مفتاح شخصية الفاروق إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر وكان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، وسلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، فقد حقق شروط كلمة التوحيد، من العلم واليقين، والقبول، والانقياد، والإخلاص والمحبة وكان على فهم صحيح لحقيقة الإيمان وكلمة التوحيد فظهرت آثار إيمانه العميق في حياته والتي من أهمها:

1- شدة خوفه من الله تعالى بمحاسبته لنفسه:
كان رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النار، فإن حرّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامها حديد( )، وجاء ذات يوم أعرابي، فوقف عنده وقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة
جهِّز بُنيَّاتي وأمهنَّه

أقسـم باللـه لتـفعـلـنه
قال: فإن لم أفعل ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
أقسـم أنـي سـوف أمضـينه
قال: فإن مضيت ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
والله عن حالي لتسألنه
والواقف المسئول بينهنّه
ثمّ تكون المسألات ثمّه
إما إلى نار وإما جنة

فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، والله ما أملك قميصاً غيره( )، وهكذا بكى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بكاءً شديداً تأثراً بشعر ذلك الأعرابي الذي ذكّره بموقف الحساب يوم القيامة، مع أنه لا يذكر أنه ظلم أحداً من الناس، ولكنه لعظيم خشيته وشدة خوفه من الله تعالى تنهمر دموعه أمام كل من يذكّره بيوم القيامة( )، وكان رضي الله عنه من شدة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإذا خيل إليه أنه أخطأ في حق أحد طلبه، وأمره بأن يقتص منه، فكان يقبل على الناس يسألهم عن حاجاتهم، فإذا أفضوا إليه بها قضاها، ولكنه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشكاوى الخاصة إذا تفرغ لأمر عام، فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامة( )، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعني على فلان، فإنه ظلمني، فرفع عمر الدرة، فخفق بها رأس الرجل، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم، حتى إذا اشتغل بأمور المسلمين أتيتموه، فانصرف الرجل متذمراً، فقال عمر علَيَّ بالرجل: فلما أعادوه ألقى عمر بالدرة إليه، وقال، أمسك الدرة، واخفقني كما خفقتك قال الرجل: لا يا أمير المؤمنين، أدعها لله ولك قال عمر: ليس كذلك: إما أن تدعها لله وإرادة ما عنده من الثواب، أو تردها عليّ، فأعلم ذلك، فقال الرجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين، وانصرف الرجل، أما عمر فقد مشى حتى دخل بيته( ) ومعه بعض الناس منهم الأحنف بن قيس الذي حدثنا عمّا رأى: ... فافتتح الصلاة فصلى ركعتين ثم جلس، فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجل يستعديك، فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه خير أهل الأرض( )، وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر رضي الله عنه وأنا في السوق، وهو مار في حاجة، ومعه الدرة، فقال: هكذا أمِطْ( ) عن الطريق يا سلمة، قال: ثم خفقني بها خفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطريق، فسكت عني حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة أردت الحج العام؟ قلت نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتى دخل بيته، فأخرج كيساً في ست مائة درهم فقال: يا سلمة استعن بهذه واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك عام أول، قلت والله يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها حتى ذكرتنيها قال: والله ما نسيتها بعد( )، وكان رضي الله عنه يقول في محاسبة النفس ومراقبتها: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر  يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(18)  ( )، وكان من شدة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: لو مات جدْي بطف( ) الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر( )، وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قتب يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: بعير ندَّ( ) من إبل الصدقة أطلبه فقلت: أذللت الخلفاء بعدك، فقال يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي



................يتبع





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©