حكى السبكي في طبقاته من حديث رحمة بنت إبراهيم عن الحاكم عن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري عن أبي العباس عيسى بن محمد بن عيسى الطهماني المروزي أنه ورد في سنة ثمان وثلاثين ومائتين مدينة من مدائن خوارزم تدعى هزارنيف وهي في غربي وادي جيحون ومنها إلى المدينة العظمى مسافة نصف يوم قال وأخبرت أن بها امرأة من نساء الشهداء رأت رؤيا كأنها أطعمت في منامها شيئا فهي لا تأكل شيئا ولا تشرب منذ عهد أبي العباس بن طاهر والي خراسان وكان توفي قبل ذلك بثمان سنين رحمه الله تعالى.ثم مررت بتلك المدينة سنة اثنين وأربعين ومائتين فرأيتها وحدثتني بحديثها فلم أستقص عليها لحداثة سني ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنين وخمسين ومائتين فرأيتها باقية ووجدت حديثها شائعا مستفيضا وهذه المدينة على مدرجة القوافل وكان الكثير ممن ينزلها إذا بلغهم قصتها أحبوا أن ينظروا إليها فلا يسألون عنها رجلا ولا امرأة ولا غلاما إلا عرفها ودل عليها فلما وافيت الناحية طلبتها فوجدتها غائبة على عدة فراسخ فمضيت في أثرها من قرية إلى أخرى فأدركتها بين قريتين تمشي مشية قوية وإذا هي امرأة نصف جيدة القامة ظاهرة الدم متوردة الخدين زكية الفؤاد فسايرتني وأنا راكب فعرضت عليها مركبا فلم تركبه وأقبلت تمشي معي بقوة وحضر مجلسي قوم من التجار والدهاقين وفيهم فقيه يسمى محمد بن حمدويه الحارثي وقد كتب عنه موسى بن هارون البزار بمكة، وكهل له عبارة ورواية للحديث، وشاب حسن يسمى عبد الله بن عبد الرحمن وكان يحلق أصحاب المظالم بناحيته فسألتهم عنها فأحسنوا الثناء عليها وقالوا عنها خيرا وقالوا إن أمرها ظاهر عندنا فليس فينا من يختلف فيها قال المسمى عبد الله بن عبد الرحمن أنا أسمع حديثها منذ أيام الحداثة ونشأت والناس يتفاوضون في خبرها وقد فرغت بالي لها وشغلت نفسي بالاستقصاء عليها فلم أر إلا سترا و عفافا ولم أعثر منها على كذب في دعواها ولا حيلة في التلبيس، وذكر أن من كان يلي خوارزم من العمال كانوا فيما خلا يشخصونها ويحضرونها الشهر والشهرين والأكثر في بيت يغلقونه عليها ويوكلون عليها من يراعيها فلا يرونها تأكل ولا تشرب ولا يجدون لها أثر بول ولا غائط فيبرونها ويكسونها ويخلون سبيلها، فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها قصصتها عن حديثها وسألتها عن اسمها وشأنها كله فذكرت أن اسمها رحمة بنت إبراهيم وأنه كان لها زوج نجار فقير معيشته من عمل يده يأتيه رزقه يوما ويوما لا فضل في كسبه عن قوت أهله وأنها ولدت منه عدة أولاد وجاء الأقطع ملك الترك إلى القرية وكان كافرا عاتيا كثير العداوة للمسلمين في زهاء ثلاثة آلاف فارس وعاث وأفسد وقتل ومثل وعجزت عنه خيول خوارزم، فلما بلغ خبره أبا العباس عبد الله بن طاهر أنهض إليهم أربعة من القواد وشحن البلد بالعساكر والأسلحة ورتبهم في أرباع البلد كل في ربع فحموا الحريم بإذن الله تعالى.
ثم إن وادي جيحون وهو الذي في أعلى نهر بلخ جمد لما اشتد البرد قالت المرأة فعبر الكافر في خيله إلى باب الحصن وقد تحصن الناس وضموا أمتعتهم فحضر أهل الناحية وأرادوا الخروج فمنعهم العامل عن الخروج إلا في عساكر السلطان فشد طائفة من شبان الناس وأحداثهم فتقاربوا من السور بما أطاقوا حمله من السلاح وحملوا على الكفرة فتهارج الكفرة واستحروهم من بين الأبنية والحيطان فلما أصحروا أكثر الترك عليهم وانقطع ما بينهم وبين الحصن وبعدت المؤنة عنهم فحاربوا كأشد حرب وثبتوا حتى تقطعت الأوتار والقسي وأدركهم التعب ومسهم الجوع والعطش وقتل عامتهم وأثخن الباقون بالجراحات ، ولما جن عليهم الليل تحاجز الفريقان قالت المرأة ورفعت النار على المناظر ساعة عبور الكافر فاتصلت بالجرجانية وهي مدينة عظيمة في قاصية خوارزم وكان ميكال مولى طاهر مرابطا بها في عسكر فخف في الطلب وركض إلى هزارنيف في يوم وليلة أربعين فرسخا بفراسخ خوارزم وفيها فضل كثير على فراسخ خراسان وعن للترك الفراغ من أمر أولئك النفر فبينما هم كذلك إذ ارتفعت لهم الأعلام السود سمعوا أصوات الطبول فأفرجوا عن القوم ووافى ميكال موضع المعركة فوارى القتلى وحمل الجرحى .
قالت المرأة وأدخل الحصن ذلك اليوم زهاء أربعمائة جنازة فلم يبق دار إلا حمل إليها قتيل وعمت المصيبة وارتجت الناحية بالبكاء قالت: ووضع زوجي بين يدي قتيلا فأدركني من الجزع والهلع عليه ما يدرك المرأة الشابة على الزوج أبي الأولاد وكانت لنا عيال قالت فاجتمع النساء من قراباتي والجيران يساعدنني على البكاء وجاء الصبيان وهم أطفال لا يعقلون من الأمور شيئا يطلبون الخبز وليس عندي ما أعطيهم فضقت صدرا بأمري .
ثم إني سمعت أذان المغرب ففزعت إلى الصلاة فصليت ما قضى لي ربي ثم سجدت أدعو وأتضرع إلى الله تعالى وأسأله الصبر وأن يجبر يتم صبياني قالت : فذهب بي النوم في سجودي فرأيت في منامي كأني في أرض خشناء ذات حجارة وأنا أطلب زوجي فناداني رجل إلى أين أيتها الحرة قلت أطلب زوجي فقال : خذي ذات اليمين فرفع لي أرض سهلة طيبة الري ظاهرة العشب وإذا قصور وأبنية لا أحفظ أن أصفها ولم أر مثلها وإذا أنهار تجري على وجه الأرض غير أخاديد ليست لها حافات فانتهيت إلى قوم جلوس حلقا حلقا عليهم ثياب خضر قد علاهم النور فإذا هم الذين قتلوا في المعركة يأكلون على موائد بين أيديهم فجعلت أتصفح وجوههم لألقى زوجي فناداني يا رحمة يا رحمة فيممت الصوت فإذا أنا به في مثل حال من رأيت من الشهداء وجهه مثل القمر ليلة البدر وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه فقال لأصحابه إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم أفتأذنوا لي أن أناولها شيئا تأكله فأذنوا لي فناولني كسرة خبز قالت وأنا أعلم حينئذ أنه خبز ولكن لا أدري كيف هو أشد بياضا من الثلج واللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد فأكلته فلما استقر في جوفي قال اذهبي كفاك الله مؤنة الطعام والشراب ما حييت في الدنيا فانتبهت من نومي شبعى ريانة لا أحتاج إلى طعام ولا شراب وما ذقتهما منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا ولا شيئا يأكله الناس .
قال أبو العباس: وكانت تحضرنا وكنا نأكل فتأخذ على أنفها تزعم أنها تتأذى من رائحة الطعام فسألتها تتغذي بشيء أو تشربي شيئا غير الماء فقالت لا فسألتها هل يخرج منها ريح أو أذى كما يخرج من الناس؟ فقالت: لا عهد لي بالأذى منذ ذلك الزمان قلت: والحيض؟ أظنها قالت: انقطع بانقطاع الطعام قلت: فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجال؟ قالت: أما تستحي مني تسألني عن مثل هذا قلت: إني لعلي أحدث الناس عنك ولا بد أن أستقصي قالت: لا أحتاج، قلت: فتنامين؟ قالت: نعم أطيب نوم قلت: فما ترين في منامك؟ قالت: مثل ما ترون قلت: فتجدين لفقد الطعام وهنا في نفسك؟ قالت: ما أحسست بالجوع منذ طعمت ذلك الطعام وكانت تقبل الصدقة فقلت: ما تصنعين بها؟ قالت: أكتسي وأكسو ولدي قلت فهل تجدين البرد وتتأذين بالحر؟ قالت: نعم قلت: يدركك اللغوب والإعياء إذا مشيت؟ قالت: نعم ألست من البشر؟ قلت: فتتوضئين للصلاة؟ قالت: نعم، قلت: لم ؟ قالت: أمرني بذلك الفقهاء، فقلت: إنهم أفتوها على حديث لا وضوء إلا من حدث أو نوم وذكرت لي أن بطنها لاصق بظهرها وأمرت امرأة من نسائنا فنظرت فإذا بطنها كما وصفت وإذا قد اتخذت كيسا مصمتا بالقطن وشدته على بطنها كي لا يقصف ظهرها إذا مشت .
ثم لم أزل أختلف إلى هزارنيف، بين السنتين والثلاث فتحضرني فأعيد مسألتها فلا تزيد ولا تنقص وعرضت كلامها على عبد الله بن عبد الرحمن الفقيه فقال : أنا أسمع هذا الكلام منذ نشأت فلا أجد من يدفعه أو يزعم أنها تأكل أو تشرب أو تتغوط ا هـ .

تعليق: هذه القصة كما يرويها الإمام السبكي، وينقلها أيضا الإمام القرافي وهما إمامان، وحجة في الدين والفقه، تدل على كرامة الله للشهداء والصالحين من عباده وأوليائه في الدنيا والآخرة.
،
،





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©