(2)
سودة بنت زمعة
المهاجرة أرملة المهاجر
(...-54هـ)(...-674م)
تداعيات المحن:
لم تكن تداعيات المحن تترفق برهة واحدة أو طرفة عين، إذ أنها كانت ثقيلة الوطأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تلك التداعيات تداعب وجدانه بين حين وحين...
وفيها ما فيها من الألم والمرارة والأشجان القاسية. فإن موت أبي طالب لم يكن أمرا هينا، ولم تكن وفاة خديجة أيضا بالنائبة المقدور عليها، والمطاق تجشمها، ومع تلاحق أحداث العنف والاضطهاد مع القرشيين لم تكن هذه الأحداث الجارية بالممكن نسيانه أو التحرر من مراسه وسطوته وسلطانه على الضمير وعلى الوجدان.
إن حياة الوحدة، وأشغال البيت والبنات، وهموم الدعوة، مع ذكريات السعادة والهناء في كنف خديجة المؤمنة الصابرة المحتبسة مما يجعل الألم مبرحا ممرضا عنيفا.. قاتل الله الهموم... !!
لكن أحدا من أصحابه صلى الله عليه وسلم لم يستطع ولم يجرؤ أن يتحدث معه في موضوع الزواج تحرجا من ذلك حتى لا يثير عنده كوامن الشجن... لكن أقبلت خولة بنت حكيم السلمية واقتربت من المنطقة المحظورة التي لم يقترب منها أحد، وصارحت رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يخالجها ويخامرها، ويعتمل في صدرها حتى تدفع عنه تلك الهموم والأنكاد والأحزان التي تروح وتغدو وتتظاهر عليه وتنال منه، وهو لا يستطيع لها دفعا،ولا منها تحررا.
عرضت خولة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واقترحت عليه أن يتزوج... فأطرق عليه الصلاة والسلام مليا ثم سألها من تقصد بذلك؟ قالت خولة: "عائشة... بنت أحب الناس إليك".
إنها عائشة بنت أبي بكر الصديق، أول من صدق به وآمن من الرجال، وقد بذل من نفسه وماله ما لم يستطع أحد غيره أن يبذله.
لكن كيف يكون ذلك وعائشة صبية لا تزال تمرح في مهاد الطفولة؟ فهي في ذلك الوقت، وفي ذلك الطور من حياتها لم تكن تعرف شيئا عن الحياة الزوجية ومقتضياتها... لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يقول لا، ثم يقول لخولة:
- لكنها ما تزال صغيرة يا خولة ... وكأن خولة كانت قد اعدت للأمر عدته، وتأهبت له تماما فقد كانت تتوقع أن يثير لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فسرعان ما قالت له:
- تخطبها اليوم إلى أبيها، ثم تنتظر حتى تنضج... لكن هل تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عامين أو ثلاثة أعوام حتى تنضج عائشة؟ إنه محتاج لمن تؤنس وحدته، وتقوم بشئون بيته وأولاده... فلا بد من زواج عاجل يملأ هذا الفراغ مؤقتا حتى تستوي عائشة على عودها، ويستعجم أمرها في سنة أو اثنتين أو ثلاث سنوات... ثم قالت خولة:
إن هناك امرأة ثيبا يمكن أن تكون زوجا له، وفي نفس الوقت تكون أما لبناته، وهي سيدة كريمة سمحة فاضلة مهاجرة في سبيل الله، ألا وهي "سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود العامرية".
ولم يتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وافق على ذلك، وأذن لخولة في خطبة سودة بنت زمعة عاجلا، وعائشة بنت أبي بكر بعد ذلك...
وما إن أبلغت سودة بأمر رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، حتى طارت فرحا وغبطة وسرورا، لأن هذا شرفا عظيما، ومجدا أثيلا.
ثم قالت لخولة بنت حكيم السلمية: أدخلي على أبي فاذكري له ذلك.. فدخلت على أبيها وكان شيخا كبيرا طاعنا في السن، وسرعان ما قصت عليه الموضوع فانتشى جذلان فرحا وقال: كفء كريم. فماذا تقول صاحبته؟ يقصد سودة ابنته... وعلى الفور أجابت خولة: إنها تحب ذلك... فسألها تدعوها إليه، فلما جاءت تلقاها قائلا:
"أي سودة، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسل يخطبك، وهو كفء كريم، أ فتحبين أو أزوجكه؟ قالت: نعم.".
وبنى صلى الله عليه وسلم على سودة بنت زمعة بمكة وكانت الصديقة بنت الصديق يومئذ لم تتعد السنوات الست من عمرها.
وكانت سودة بنت زمعة بهذا الزواج الكريم والبناء عليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت زوجا لأشرف الخلق، وأكرم الناس جميعا عند الله تعالى، نبيه ورسوله ومصطفاه المجاهد في سبيل الله المبشر بالجنة.
كذلك صارت من تلك اللحظة المادة التاريخية الحاسمة أما للمؤمنين، وهذا فخر وشرف ورفعة لا يدانيه فخر وشرف ورفعة.
كانت سودة بنت زمعة موسومة بحسن الخلق، وكرم الطبيعة ونظافة الطوية، سلامة الصدر، وطهارة الدخيلة، مشهورة بالصدق والإحسان، وهي من فضليات نساء المسلمين ومن أوائل الداخلين في دين الإسلام.
وكانت تزوجت قبل ذلك من ابن عمها السكران بن عمرو بن عبد شمس، الذي كان هو الآخر أيضا من السابقين الأولين للإسلام، وقد سبقت سودة زوجها إلى الإسلام، وكان لحق بها إلى هذا الشرف الكبير الذي لا مزيد عليه.
وأنجبت سودة من ابن عمها خمسة أبناء، وقيل بل ستة أبناء، ثم هاجر السكران وزوجته السيدة سودة مع المهاجرين الأولين والنفر الثمانية الذين فروا بدينهم من اضطهاد قريش وأذاها، وتركوا خلفهم ديارهم وأموالهم قاصدين الحبشة تلك البلاد القاصية النائبة، والأرض الشطون التي لم يكونوا يعرفون عنها شيئا ولا عن أهلها، ولا رأوها قبل ذلك... وقيل إن السكران قد مات في الحبشة، لكن ثم رواية أخرى تقول أنه مات في مكة بعد دعوته من الحبشة، وترك لزوجته سودة صبية خمسة عاشت بهم بعد وفاة زوجها في كنف أبيها زمعة بن قيس.
لذلك سميت سودة بنت زمعة باسم المهاجرة أرملة المهاجر، فرض رائعي الله عنهما....
ولعل موقفها من الهجرة وتضحيتها بكل نفس ونفيس في سبيل ذلك وفراقها لأهلها والوطن إلى الحبشة مع زوجها السكران كان سببا قويا وراء إكرامها الرفق بها، والحدب عليها، والزواج منها، تلكم المرأة التي آثرت الغربة في بلاد مجهولة قاصية، مستعدة لتحمل صنوف المشاق المهلكات في سبيل الفرار بدينها وعقيدتها.
لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنائه عليها تكريما لها، وسلوانا، وعوضا عما نابها من قسوة الأيام، وشظف العيش...
لكنها في نفس الوقت رأت أن هناك بونا كبيرا، وفارقا شاسعا بينها وبين خديجة من ناحية، ثم بينها وبين العروس الشابة عائشة من ناحية أخرى، وكأنها ترى نفسها ليست أهلا لهذا الشرف الرفيع، وكانت لذلك تشعر بالرهبة تداخلها، ويخامرها فزع ويخالطها عجب ودهشة من جراء ذلك.
لقد كان هناك حائب وفاصل عميق بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من اعتقادها ومن وجهة نظرها إذ أنها لم تر نفسها مرغوبا فيها مقصودة لجمال تتفرد به، أو لثراء ويسار، أو لمنقبة من المناقب التي تتميز بها المرغوب فيهن، وكانت تدرك جيدا أنها قد أريد من زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفقة عليها، والعطف والتحنن، وليست وراء ذلك عاطفة محصنة أو رغبة حسية كما يحدث في مثل هذه الأحوال والتي تكون بين رجل وامرأة. وكأن الرغبات الحسية والمتعة المنشودة لم تكن غاية وهدفا وراء هذا الزواج.
ورأت أن حسبها وكافيها أن تكون أم المؤمنين وخادمة لبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم... على الرغم من ترهل جسدها، وضخامة جثتها، وكان صلى الله عليه وسلم يضحك لذلك... وما إن بنى عليه الصلاة والسلام على الفتاة الوضيئة الحسناء الحبيبة بنت الحبيب، الصديقة بنت الصديق عائشة، حتى أفسحت لها المجال، وقدمتها على نفسها، وتعهدتها برعايتها وخدمتها، ساهرة على راحتها، قائمة بشئونها...
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متأثرا لذلك أشد التأثر، إذ أنه كان مشفقا عليها من الحرمان العاطفي، والجفاف الحسي الذي يجرح القلب، ويؤذي الشعور، وكأنها فضة عطلا من الحس، خاوية من الشعور، خالية من الرغبة التي تتميز بها كل النساء في الارتواء من نهر الحب العاطفي الحسي المحصن الصافي من أزواجهن.
إن المعلوم المعروف من العلم بالضرورة أن المقصد الأسمى للزواج، والشرف الأعلى، والمنزع الكريم له، محصور أساسا ومن الدرجة الأولى وموقوف على الاستمتاع النفسي والعاطفي والوجداني، ثم يكون بعد ذلك باقي الاعتبارات... لكن هنا في هذه الحالة رأى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة "سودة" لم تستوف حقها من هذه الناحية، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينكر عليها ذلك، لكن لا يملك ولا يستطيع أن يغير من الواقع شيئا، فإن الحب القلبي والنفسي أمر لا إرادي محصن لا اختيار فيه ولا تخيير، لأن إرادة أي إنسان فيه مسلوبة، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يكون قادرا على إعطائها شعورا بالدفء العاطفي الذي تنتظره أية امرأة من حليلها، وهذا حق من ظاهر حقوقها التي لم ينكرها أحد ولم يجحدها إنسان، لكن هذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يملك...
إن ميل القلوب وتوافق الأرواح ليس أمرا سهلا ولا ميسورا أن يصبح موجها متكلفا، فما أظهر التكلف فيه وأبينه وفي ظهور التكلف في العواطف ما فيه من إفساد للمتعة الحقيقية.
وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منزها عن كل ما يوصم البشر، لأنه غاية في النقاء والصفاء والطهارة وسلامة الصدر، وحسن الطوية، ولم يكن يعمد إلى أدنى إيذاء لمسلم، فما بالنا بأن المؤمنين "سودة بنت زمعة".... وأراد عليه الصلاة والسلام أن يريح نفسه ويرفع عن كاهله أثقالا من الهموم، لأنه لا يمكن أن يكون متكلفا في عاطفته تجاهها، وفي نفس الوقت لا يرضى بحال بحرمانها من حق تحرص عليه كل النساء على مختلف درجاتهن، فرأى أن يحسم هذا الأمر، فأجال الفكر وتدبر القضية مليا، فساورته فكرة لا مندوحة عنها، ولا محيص ولا متحول إلى غيرها ألا وهي أن يسرحها سراحا جميلا حتى يرحم نفسه ويرحمها من هذا الشعور القاسي والمؤلم.
وفي إحدى لياليها، جلس صلى الله عليه وسلم إلى جوارها، ثم طفق يحدثها برفق شديد، وحلم معهود، ورقة بالغة ثم أخبرها أنه يزمع ويعزم على طلاقها.
كسر في ذرعها، وكادت الأرض تميد تحت قدميها من هول المفاجأة، وأشرفت على الانهيار، ذهلت وأحست كأن السماء انطبقت على الأرض، واعتورها من الفزع والوجل ما لا يستطاع تصوره أو احتماله... ثم توسلت إليه بالدعاء ضارعة متضرعة غير متضررة من شيء البتة إن أمسكها ولم يسرح، فهي لا تطلب شيئا لنفسها، ولا ترغب فيما ترغب النساء فيه منه، فهي لا ترجو غير الانتساب إليه زوجا حليلا وحسب، وتنكر على نفسها أن يكون لها مكان بين زوجاته. قالت في نبرة حزينة مؤثرة:
أمسكني، والله ما بي على الأزواج من حرص، ولكني أحب أن يبعثني الله يوم القيامة زوجا لك.
وبعد برهة لما أن تماثلت من الإفاقة من تلك الغاشية قالت بنبرة واجمة محزونة مجروحة مكلومة:
"أبقني يا رسول الله، وأهب ليلتي لعائشة، وإني لا أريد كما تريد النساء".
استجداء، واستعطاف كريم، قوبل بكرم وسخاء منقطع النظير، من أكرم مخلوق، وأشرف مبعوث صلى الله عليه وسلم، فقام وتوضأ وصلى، وشعرت هي بعد ذلك بالرضى والسكينة، وبرد اليقين يترسل على صدرها بردا وسلاما، وأمنا وأمانا.
لقد كان قلبها عامرا بالإيمان، وفطرتها منحوتة من أكرم الخصال، منعوتة بجليل الشيم والصفات الخلقية، إذ قبلت أن تكون على هذا الوضع وعلى تلك الصورة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبين زوجاته رضي الله عنهن.
عاشت في بيت النبوة، بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فترة من الزمن امتدت إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان سنة وأربع وخمسين من الهجرة من شهر شوال، وقيل أنها توفيت سنة خمس وخمسين.
ورواية ثالثة تقول: إنها توفيت في أثناء خلافة عمر بن الخطاب.
وقد روت السيدة سودة بنت زمعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا متفقا عليه أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين.
وقد روى لها الإمام البخاري حديثين، أحدهما السابق المتفق عليه، والثاني لم يخرجه مسلم في صحيحه.
كما أخرج لها وروى عنها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وأبو داود والنسائي وغيرهم.
وكانت عائشة رضي الله عنها تعرف لها الفضل والجميل لما وهبتها ليلتها، فكانت تقول:
" ما من امرأة أحب إلي من أن أكون في مسالخها من سودة بنت زمعة... لما كبرت قالت: يا رسول الله، قد جعلت يومي منك لعائشة".
وقد أسند الواقدي عن الزهري عن عروة عن عائشة، قالت: "كانت سودة بنت زمعة قد أسنت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستكثر منها، وقد علمت مكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يستكثر مني، فخافت أن يفارقها، وضنت بمكانها عنده، فقالت: يا رسول الله، يومي الذي يصيبني لعائشة، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك نزلت:
(وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا وإعراضا)"
وفي سودة أيضا نزلت آية الحجاب، فقد كان أزواجه صلى الله عليه وسلم يخرجن بالليل إذا أردن التبرز إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أحجب نساءك، فلم يكن الرسول يفعل، ولما خرجت سودة ذات ليلة وكانت فارهة طويلة، فرآها عمر فناداها، فأنزل الله تعالى آية الحجاب، رحم الله أم المؤمنين سودة بنت زمعة.





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©