الجزء 7

وسيتّضح عدل عمر رضي الله عنه في رعيته من خلال المواقف واهتمامه بمؤسسة القضاء وتطويرها بحيث سيطر العدل على كل ولايات الدولة

.

4- وتكفل الخليفة بالدفاع عن الأمة ودينها وأن يسد الثغور ويدفع الخطر، غير أن ذلك لن يتم بظلم المقاتلين، فلن يحبسهم في الثغور إلى حد لا يطيقونه، وإن غابوا في الجيوش فسيرعى الخليفة وجهازه الإداري أبناءهم وأسرهم( )، ولقد قام الفاروق بتطوير المؤسسة العسكرية وأصبحت قوة ضاربة لا مثيل لها على مستوى العالم في عصره.



5- وتعهد الخليفة بأداء الحقوق المالية للرعية كاملة … من خراج وفيء، لا يحتجن منه شيئاً ولا يضعه في غير محله، بل سيزيد عطاياهم وأرزاقهم باستمرار الجهاد والغزو والحض على العمل وضبط الأداء المالي للدولة( ) ، وقد قام بتطوير المؤسسة المالية، وضبط مصادر بيت المال وأوجه الإنفاق في الدولة.


6- وفي مقابل ذلك يطالب الرعية بأداء واجبها من النصح لخليفتها والسمع والطاعة له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يشيع الرقابة الإسلامية في المجتمع.


7- ونبه إلى أنه لا يعين على ذلك إلا بتقوى الله ومحاسبة النفس واستشعار المسؤولية في الآخرة( ).


8- علق الشيخ عبد الوهاب النجار على قول عمر رضي الله عنه: إنما مثل العرب كمثل جمل آنف بقوله:الجمل الآنف: هو الجمل الذلول المواتي الذي يأنف من الزجر والضرب ويعطي ما عنده من السير عفواً سهلاً وهذا تشخيص حسن للأمة الإسلامية لعهده فإنها كانت سامعة مطواعة إذا أمرت ائتمرت، وإذا نهيت انتهت. ويتبع ذلك المسؤولية الكبرى على قائدها فإنه يجب عليه أن يرتاد لها ويصدر في شأنه بعقل، ويورد بتمييز حتى لا يورطها في خطر، ولا يقحمها في مهلكة،
ولا يعمل شأنها إهمالاً يكون من ورائه البطر. وقد أراد بالطريق: الطريق الأقوم الذي لا عوج فيه. وقد برَّ بما أقسم به( ).


9- سنة الله في الفظاظة والغلظة والرفق: مضت سنة الله في أحوال الناس واجتماعهم وفي إقبالهم على الشخص واجتماعهم عليه وقبولهم منه وسماعهم قوله وأنسهم به، أن ينفضوا عن الفظ الغليظ القلب حتى ولو كان ناصحاً مريداً للخير لهم حريصاً على ما ينفعهم( ) وقد دل على هذا قول الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ …  (آل عمران، آية:159). ولذلك كان دعاء الفاروق لما تولى الخلافة: اللهم إني شديدٌ فليني، وقد استجاب الله هذا الدعاء، وامتلأت نفس عمر بالعطف والرحمة واللين وأصبحت من صفاته بعد توليته الخلافة، فقد عرف الناس عمر في عهدي الرسول وأبي بكر شديداً حازماً، وصوره لنا المادة التاريخ على أنه الشخص الوحيد الذي مثل منذ دخل الإسلام حتى تولى الخلافة دور الشدة والقوة بجانب الرسول  وبجانب أبي بكر، حتى آلَ إليه الأمر انقلب رخاء ويسيراً ورحمة( ).


10- كانت البيعة العامة في سيرة الخلفاء الراشدين مقيدة بأهل المدينة دون غيرهم. وربما حضرها وعقدها الأعراب والقبائل التي كانت محيطة بالمدينة، أو نازلة فيها، أما بقية الأمصار، فكانت تبعاً لما يتقرر في مدينة الرسول، وهذا لا يطعن بالبيعة، ولا يقلل من شرعيتها، لأن جمع المسلمين من كل الأقطار والأمصار كان أمراً مستحيلاً، ولا بد للدولة من قائم بها، ولا يمكن أن تعطل مصالح الخلق، أضف إلى ذلك أن الأمصار الأخرى قد أيدت في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ما جرى في المدينة، تأييداً صريحاً أو ضميناً، ولا شك أن الأساليب التي لجأ إليها الناس في صدر الإسلام كانت تجارب تصب في حقل تطوير الدولة ومؤسساتها( ) .


11- المرأة والبيعة: لم أجد أثناء البحث إشارة إلى أن المرأة قد بايعت في زمن أبي بكر وعمر وفي عصر الخلفاء الراشدين، ولم تشر كتب السياسة الشرعية القديمة إلى حق المرأة أو واجبها في البيعة – على حد علمي القاصر – والظاهر أن البيعة قد اقتصرت في معظم عصور المادة التاريخ الإسلامي على الرجال دون النساء، فلا الرجال دعوها إليها، ولا هي طالبت بها، واعتبر تغيب المرأة عن البيعة أمراً طبيعياً، إلى درجة أن علماء الحقوق الدستورية الإسلامية لم يشيروا إليها في قليل ولا كثير غير أن هذا الواقع المادة التاريخي والفقهي لا يغير من حقيقة الحكم الشرعي شيئاً، فليس في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، وهما المصدران الرئيسيان للالشريعة الاسلامية، ما يمنع المرأة من أن تشارك الرجل في البيعة

( )

.
12- رد سبايا العرب: كان أول قرار اتخذه عمر في دولته رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم حيث قال: كرهت أن يكون السبي سنة في العرب( ) ، وهذه الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً أنهم أمام الشريعة الاسلامية الله سواء، وأنه لا فضل لقبيلة على قبيلة إلا بحسن بلائها وما تقدمه من خدمات للإسلام والمسلمين، وتلت تلك الخطوة خطوة أخرى هي السماح لمن ظهرت توبتهم من أهل الردة بالاشتراك في الحروب ضد أعداء الإسلام، وقد أثبتوا شجاعة في الحرب وصبراً عند اللقاء، ووفاءً للدولة لا يعدله وفاء( ) .


13- تجذر منصب الخلافة في قلب الأمة وأصبح رمزاً للوحدة ولقوة المسلمين، ويرى الباحث القدرة الفائقة التي كان يتمتع به الصحابة الكرام، ومدى الأصالة في أعمالهم بحيث أن ما أقاموه في سويعات قليلة من نفس يوم وفاة الرسول احتاج هدمه إلى ربع قرن في المخطط البريطاني، رغم أن البريطانيين أنفسهم كانوا يطلقون على الخلافة في تلك الفترة الرجل العجوز، فأي شموخ هذا لتلك الخلافة، وأي رسوخ لها حيث تحتاج لهدمها - وبعد أن أصبحت شكلاً لا موضوعاً‌ - ربع قرن كامل، وبعد حياة استمرت قروناً من الزمن( ).


14- الفرق بين الملك والخليفة: قال عمر رضي الله عنه: والله ما أدري أخليفة أم ملك، فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم، فقال له قائل: إن بينهما فرقا، إن الخليفة لا يأخذ إلا حقاً، ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس، فيأخذ من هذا أو يعطي هذا، فسكت عمر( ) ، وفي رواية: أن عمر سأل سلمان الفارسي: أملك أنا أم خليفة؟ فقال سلمان: إن أنت جبيت من الأرض درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير موضعه فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر( ) .

خامساً: الشورى:
إن من قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشورى قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)  (آل عمران، آية:159).
وقال تعالى:  وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38)  (الشورى، آية:28). لقد قرنت الآية الكريمة الشورى بين المسلمين بإقامة الصلاة، فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة، وحكم الصلاة واجبة شرعاً، فكذلك الشورى واجبة شرعاً( )، وقد اعتمد عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى في دولته، فكان رضي الله عنه لا يستأثر بالأمر دون المسلمين ولا يستبد عليهم في شأن من الشؤون العامة، فإذا نزل به أمر لا يبرمه حتى يجمع المسلمين ويناقش الرأي معهم فيه ويستشيرهم.

ومن مأثور قوله: لا خير في أمر أبرم من غير شورى( ) ، وقوله الرأي الفرد كالخيط السحيل والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض( ) ،وقوله: (( شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل)) ( ) ، وقوله: الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا يقطع مرشداً( )، وقوله: يحق على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم، فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعاً لهم، ومن أقام بهذا الأمر تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعاً لهم( )، وكان يحث قادة حربه على الشورى، فعندما بعث أبا عبيد الثقفي لمحاربة الفرس بالعراق قال له: أسمع وأطع من أصحاب النبي  وأشركهم في الأمر وخاصة من كان منهم من أهل بدر( )، وكان يكتب إلى قادته بالعراق يأمرهم أن يشاوروا في أمورهم العسكرية عمرو بن معديكرب وطلحة الأسدي قائلاً: استشيروا واستعينوا في حربكم بطلحة الأسدي وعمرو بن معديكرب ولا تولهما من الأمر شيئاً فإن كل صانع أعلم بضاعته( )، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص: وليكن عندك من العرب أول من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك وليس عيناً لك( )، ومما قاله عمر رضي الله عنه لعتبة بن غزوان حين وجهه إلى البصرة: قد كتبت إلى العلاء الحضرمي( )، أن يمدك بعرفجة بن هرشمة( )، وهو ذو مجاهدة للعدو ومكايدته فإذا قدم عليك فاستشره وقربه( )، وكان مسلك الفاروق في الشورى جميلاً: فإنه كان يستشير العامة أول أمره فيسمع منهم، ثم يجمع مشايخ أصحاب رسول الله وأصحاب الرأي منهم ثم يفضي إليهم بالأمر ويسألهم أن يخلصوا فيه إلى رأي محمود، فما استقر عليه رأيهم أمضاه: وعمله هذا يشبه الأنظمة الدستورية في كثير من الممالك النظامية إذ يعرض الأمر على مجلس النواب مثلاً ثم بعد أن يقرر بالأغلبية يعرض على مجلس آخر يسمى في بعضها مجلس الشيوخ وفي بعضها مجلس اللوردات فإذا انتهى المجلس من تقريره أمضاه الملك. والفرق بين عمل عمر وعمل هذه الممالك أن هنا الأمر كان اجتهاداً منه وبغير نظام متبع أو قوانين مسنونة( )، وكثيراً ما كان عمر يجتهد في الشيء ويبدي رأيه فيه ثم يأتي أضعف الناس فيبين له وجه الصواب وقوة الدليل فيقبله ويرجع عن خطأ ما رأى إلى صواب ما استبان له( )، وقد توسع نطاق الشورى في خلافة عمر رضي الله عنه لكثرة المستجدات والأحداث وامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم متباينة فولدت مشكلات جديدة احتاجت إلى الاجتهاد الواسع مثل معاملة الأرض المفتوحة وتنظيم العطاء وفق قواعد جديدة لتدفع أموال الفتوح على الدولة، فكان عمر يجمع للشورى أكبر عدد من الصحابة الكبار( )، وكان لأشياخ بدر لهم مكانتهم الخاصة في الشورى لفضلهم وعلمهم وسابقتهم إلا أن عمر رضي الله عنه أخذ يشوبهم بشباب، فإنهم على دربهم ماضون لأجلهم ورحمة ربهم ومغفرته والدولة لابد لها من تجديد رجالاتها وكان عمر العبقري الفذ قد فطن إلى هذه الحقيقة فأخذ يختار من شباب الأمة من علم منهم علماً وورعاً وتقى فكان عبد الله بن عباس من أولهم، وما زال عمر يجتهد متخيراً من شباب الأمة مستشارين له متخذاً القرآن فيصلاً في التخير حتى قال عبد الله بن عباس: وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً( )، وقد قال الزهري لغلمان أحداث: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم( ). وقال محمد بن سيرين: إن كان عمر رضي الله عنه ليستشير في الأمر حتى إن كان ليستشير المرأة فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذه وقد ثبت أنه استشار مرة أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها( ) وقد كان لعمر رضي الله عنه خاصة من علية الصحابة وذوي الرأي، منهم العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، وكان لا يكاد يفارقه في سفر


ولا حضر وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب( )، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت( )، ونظرائهم فكان يستشيرهم ويرجع إلى رأيهم( )، وكان المستشارون يبدون آراءهم بحرية تامة وصراحة كاملة، ولم يتهم عمر رضي الله عنه أحداً منهم في عدالته وأمانته، وكان عمر رضي الله عنه يستشير في الأمور التي لا نص فيها من كتاب كامل وسنة وهو يهدف إلى معرفة إن كان بعض الصحابة يحفظ فيها نصاً من السنة، فقد كان بعض الصحابة يحفظ منها ما لا يحفظه الآخرون، وكذلك كان يستشير في فهم النصوص المحتملة لأكثر من معنى لمعرفة المعاني والأوجه المختلفة، وفي هذين الأمرين قد يكتفي باستشارة الواحد أو العدد القليل، وأما في النوازل العامة فيجمع الصحابة، ويوسع النطاق ما استطاع كما فعل عند وقوع الطاعون بأرض الشام متوجهاً إليها( )، وبلغ عمر خبره فوافاه الأمراء بسرغ موضع قرب الشام وكان مع عمر المهاجرون والأنصار، فجمعهم مستشيراً، أيمضي لوجهه، أم يرجع؟ فاختلفوا عليه: فمن قائل: خرجت لوجه الله فلا يصدنك عنه هذا. ومن قائل: إنه بلاء وفناء، فلا نرى أن تقدم عليه. ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش، فلم يختلفوا عليه، بل أشاروا بالعودة، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر( ). فقال
أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟. فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدواتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف، فجاءهم، وقال: إن النبي  قال: إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً منه( )، وكانت مجالات الشورى في عهد عمر متعددة منها في المجال الإداري والسياسي كاختيار العمال والأمراء، والأمور العسكرية، ومنها في المسائل الشرعية المحضة، كالكشف في الحكم الشرعي من حيث الحل والحرمة والمسائل القضائية( ) وستتضح مجالات الشورى وتطبيقاتها وبحث عمر رضي الله عنه عن الدليل الأقوى من خلال هذا البحث كل في موضعه بإذن الله تعالى، والذي نحب أن نؤكد عليه أن الخلافة الراشدة كانت قائمة على مبدأ الشورى المستمدة من كتاب كامل الله وسنة رسوله  ولم تكن في عهد عمر فلتة استنبطها ولا بدعة أتى بها ولكنها قاعدة من قواعد المنهج الرباني
.

سادساً: العدل والمساواة:
إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم ومن أهم هذه القواعد العدل والمساواة، ففي خطاب الفاروق للأمة أقر هذه المبادئ، فعدالته ومساواته تظهر في نص خطابه الذي ألقاه على الأمة يوم توليه منصب الخلافة؛ ولا شك أن العدل في فكر الفاروق هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل.
إن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد اجتمعت الأمة على وجوب العدل( )، قال الفخر الرازي أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل( ) .
وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية فإنّ من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بكافة أشكاله وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل التي من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إليه، وهذا

ما فعله الفاروق في دولته، فقد فتح الأبواب على مصاريعها لوصول الرعية إلى حقوقها، وتفقد بنفسه أحوالها، فمنعها من الظلم المتوقع عليها، وأقام العدل بين الولاة والرعية، في أبهى صورة عرفها المادة التاريخ فقد كان يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق ولا يهمه أن يكون المحكوم عليهم من الأقرباء أو الأعداء، أو الأغنياء أو الفقراء، قال تعالى:  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)  (المائدة، آية:8).
لقد كان الفاروق قدوة في عدله أسر القلوب وبهر العقول، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام به تفتح قلوب الناس للإيمان، وقد سار على ذات نهج الرسول ، فكانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير لا تكاد تصدقه العقول حتى اقترن اسمه بالعدل وبات من الصعب جداً على كل من عرف شيئاً يسيراً من سيرته أن يفصل ما بين الاثنين، وقد ساعده على تحقيق ذلك النجاح الكبير

عدة أسباب ومجموعة من العوامل منها:
1- أن مدة خلافته كانت أطول من مدة خلافة أبي بكر بحيث تجاوزت عشر سنوات في حين اقتصرت خلافة أبي بكر على سنتين وعدة شهور فقط.
2- إنه كان شديد التمسك بالحق حتى إنه كان على نفسه وأهله أشد منه على الناس كما سنرى.
3- أن فقه القدوم على الله كان قوياً عنده لدرجة أنه كان في كل عمل يقوم به يتوخى مرضاة الله قبل مرضاة الناس ويخشى الله ولا يخشى أحداً من الناس.
4- أن سلطان الشرع كان قوياً في نفوس الصحابة والتابعين بحيث كانت أعمال عمر تلقى تأييداً وتجاوباً وتعاوناً من الجميع( ).
5- وهذه بعض مواقفه في إقامته للعدل والقسط بين الناس فقد حكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه، أخرج الإمام مالك( ) من طريق سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق( ) ، وكان رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فارضوه، فاقتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين( ) ولو لم يرضوه لأقاده( ) رضي الله عنه

.
وجاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلاً:
يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم، قال عذت معاذا قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه: فقدم عمر فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين؟ قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني( ).
لقد قامت دولة الخلفاء الراشدين على مبدأ العدل وما أجمل ما قاله ابن تيمية: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، … بالعدل تستصلح الرجال وتستغزر الأموال
( ).

وأما مبدأ المساواة الذي اعتمده الفاروق في دولته، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام قال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)  (الحجرات، آية:13).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع

سواء( )، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهد وهذه بعض المواقف التي جسدت مبدأ المساواة في دولته:
- أصاب الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة (جدب) بالمدينة وما حولها، فكانت تسقي إذا ريحت( ) تراباً كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى (حلف) عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحي الناس من أول الحياء، فقدمت السوق عُكَّة من سمن، ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن، فاتبعناهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً، وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم( )، هذا موقف أمير المؤمنين عام القحط الذي سمي عام الرمادة، ولم يختلف موقفه عام الغلاء، فقد: أصاب الناس سنة غلاء، فغلا السمن، فكان عمر يأكل الزيت، فتقرقر بطنه، فيقول: قرقر ما شئت، فو الله

لا تأكل السمن حتى يأكله الناس( )، ولم يقتصر مبدأ المساواة في التطبيق عند خلفاء الصدر الأول على المعاملة الواحدة للناس كافة، وإنما تعداه إلى شؤون المجتمع الخاصة، ومنها ما يتعلق بالخادم والمخدوم، فعن ابن عباس أنه قال: قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصنع له صفوان بن أمية طعاماً، فجاؤوا بجفنه يحملها أربعة، فوضعت بين يدي القوم يأكلون وقام الخُدّام فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل، ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين( )، وكذلك فإن عمر رضي الله عنه لم يأكل من الطعام ما لا يتيسر لجميع المسلمين، فقد كان يصوم الدهر، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبز قد ثُرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً( )، فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به، فإذا قديد من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز( ) ولم يكن عمر ليطبق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلمه لعماله في الأقاليم، حتى في مسائل الطعام والشراب( ) فعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان أتى بالخبيص، فلما أكله وجد شيئاً حلواً طيباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثم حملهما على بعير مع رجلين، فسرّح بهما إلى عمر. فلما قدما عليه فتحهما، فقال: أي شيء هذا؟ قالوا: خبيص فذاقه، فإذا هو شيء حلو. فقال: أكل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: أما لا فارددهما. ثم كتب إليه: أما بعد، فإنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك. أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك( ).
ومن صور تطبيق المساواة بين الناس ما قام به عمر عندما جاءه مال فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس، حتى خلص إليه، فعلاه بالدِّرة وقال إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابك( )، فإذا عرفنا أن سعداً كان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأنه فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد الستة الذين عينهم للشورى، لأن رسول الله  مات وهو راضٍ عنهم، وأنه كان يقال له فارس الإسلام … عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق المساواة( )،

ويروي

ابن الجوزي أن عمرو بن العاص، أقام حد الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أن عمرو بن العاص أقام الحد على ابن الخليفة في البيت، فلما بلغ الخبز عمر، كتب إلى عمرو ابن العاص: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاص: عجبت لك يا ابن العاص ولجرأتك عليّ، وخلاف عهدي. أما إني قد خالفت فيك أصحاب بدر ممن هو خير منك، واخترتك لجدالك عني، وإنفاذ عهدي، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتاب كاملي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع( )، وقد تم إحضاره إلى المدينة وضربه الحد جهراً، روى ذلك ابن سعد وأشار إليه ابن الزبير، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولاً( )، وهكذا نرى المساواة أمام الالشريعة الاسلامية في أسمي درجاتها، فالمتهم هو ابن أمير المؤمنين، ولم يعفه الوالي من العقاب، ولكن الفاروق وجد أن ابنه تمتع ببعض الرعاية، فآلمه ذلك أشد الألم، وعاقب واليه – وهو فاتح مصر – أشد العقاب وأقساه. وأنزل بالابن ما يستحق من العقاب، حرصاً على حدود الله، ورغبة في تأديب ابنه وتقويمه وإذا كان هذا منهجه مع أقرب الناس عنده فما بالك بالآخرين؟( ) ومن الأمثلة المادة التاريخية الهامة التي يستدل بها المؤلفون على عدم الهوادة في تطبيق المساواة، ما صنعه عمر مع جبلة بن الأيهم وهذه هي القصه: كان جبلة آخر أمراء بني غسان من قبل هرقل، وكان الغساسنة يعيشون في الشام تحت إمرة دولة الروم، وكان الروم يحرضونهم دائماً على غزو الجزيرة مادة اللغة العربية، وخاصة بعد نزول الإسلام. ولما انتشرت الفتوحات الإسلامية، وتوالت انتصارات المسلمين على الروم، أخذت القبائل مادة اللغة العربية في الشام – تعلن إسلامها بدا للأمير الغساني أن يدخل الإسلام هو أيضاً، فأسلم وأسلم ذووه معه. وكتب إلى الفاروق يستأذنه في القدوم إلى المدينة، ففرح عمر بإسلامه وقدومه، فجاء إلى المدينة وأقام بهازمنا والفاروق يرعاه ويرحب به، ثم بدا له أن يخرج إلى الحج، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحله، وغضب الأمير الغساني لذلك – وهو حديث عهد بالإسلام – فلطم لطمة قاسية هشمت أنفه، وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ماحل به وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقر بما حدث فقال له عمر: ماذا دعاك يا جبلة لأن تظلم أخاك هذا فتهشم أنفه؟

فأجاب بأنه قد ترفق كثيراً بهذا البدوي (وأنه لولا حرمة البيت الحرام لأخذت الذي فيه عيناه).
فقال له عمر : لقد أقررت، فأما أن ترضي الرجل وإما أن اقتص له منك.
وزادت دهشة جبلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري وقال: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟
فقال عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما.
فقال الأمير الغساني: لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
فقال الفاروق: دع عنك هذا فإنك إن لم ترضِ الرجل اقتصصت له منك.
فقال جبلة: إذا أتنصر.
فقال عمر: إن تنصرت ضربت عنقك، لأنك أسلمت فإن ارتددت قتلتك( ).
وهنا أدرك جبلة أن الجدال لا فائدة منه، وأن المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من الفاروق أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكر جبلة بن الأيهم ووصل إلى قرار، وكان غير موفق في قراره، فقد آثر أن يغادر مكة هو وقومه في جنح الظلام وفر إلى القسطنطينية، فوصل إليها متنصراً، وندم بعد ذلك على هذا القرار أشد الندم، وصاغ ذلك في شعر جميل ما زال المادة التاريخ يردده ويرويه وفي هذه القصة نرى حرص الفاروق على مبدأ المساواة أمام الشرع، فالإسلام قد سوى بين الملك والسوقة، ولا بد لهذه المساواة أن تكون واقعاً حياً وليس مجرد كلمات توضع على الورق أو شعار تردده الألسنة
( ).

لقد طبق عمر رضي الله عنه مبدأ المساواة الذي جاءت به الشريعة الاسلامية رب العالمين وجعله واقعاً حياً يعيش ويتحرك بين الناس، فلم يتراجع أمام عاطفة الأبوة، ولم ينثنِ أم ألقاب النبالة، ولا تضيع أمام اختلاف الدين أو مجاملة الرجال الفاتحين، لقد كان ذلك المبدأ العظيم واقعاً حياً، شعر به كل حاكم ومحكوم، ووجده كل مقهور وكل مظلوم( ) لقد كان لتطبيق مبدأ المساواة أثره في المجتمع الراشدي فقد أثر الشعور بها على نفوس ذلك الجيل فنبذوا العصبية التقليدية، من الادعاء بالأولية والزعامة، والأحقية بالكرامة، وأزالت الفوارق الحسبية الجاهلية، ولم يطمع شريف في وضيع، ولم ييأس ضعيف من أخذ حقه، فالكل سواء في الحقوق والواجبات، لقد كان مبدأ المساواة في المجتمع الراشدي نوراً جديداً أضاء به الإسلام جنبات المجتمع الإسلامي وكان لهذا المبدأ الأثر القوي في إنشائه
( ).


سابعاً: الحريات:
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ويقضى هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود الالشريعة الاسلامية الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس، جميع الناس دعوة واسعة وعريضة قلما تشتمل على مثلها دعوة في المادة التاريخ، وكانت أول دعوة أطلقها في هذا المجال هي دعوته الناس في العديد من الآيات القرآنية لتوحيد الله والتوجه له بالعبادة وحده دون سائر الكائنات والمخلوقات، وفي دعوة التوحيد هذه كل معاني الحرية والاستقلال لبني الإنسان، أضف إلى ذلك أنّ الإسلام عرف الحرية بكل معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها، فتارة تكون فعلاً إيجابياً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتارة فعلاً سلبياً كالامتناع عن إكراه أحد في الدخول في الدين، وفي أحيان كثيرة يختلط معناها بمعنى الرحمة، والعدل والشورى والمساواة لأن كل مبدأ من هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام لا يستقيم أمره ولا يمكن تحقيقه إلا بوجود الحرية، وقد أسهم مبدأ الحرية مساهمة فعالة إبان حكم الخلفاء الراشدين خاصة بانتشار الدين الإسلامي، وبتسهيل فتوحات المسلمين واتساع رقعة دولتهم لأن الإسلام كرم الإنسان وكفل حرياته على أوسع نطاق ولأن النظم السياسية الأخرى السائدة آنذاك في دولة الروم والفرس كانت أنظمة استبدادية وتسلطية، وفئوية قاسى بسببها الرعايا وبصورة خاصة المناوئون السياسيون والأقليات الدينية أشد درجات الكبت والاضطهاد والظلم، فعلى سبيل المثال كانت دولة الروم تفرض رائع على الآخذين بالمذهب اليعقوبي ولا سيما في مصر والشام أن يدينوا بالمذهب الملكاني (دينها الرسمي) وكم أخذ المخالفون بالمشاعل توقد نيرانها ثم تسلط على أجسامهم حتى يحترقوا ويسيل الدهن من جوانبهم على الأرض، والجبابرة القساة يحملونهم حملاً على الإيمان بما أقره مجمع مقدونية أو يضعونهم في كيس مملوء بالرمال ثم يلقون بهم في أعماق البحار. وكذلك كانت دولة فارس في مختلف العصور تضطهد معتنقي الملل السماوية ولا سيما المسيحيين بعد ازدياد القتال عنفاً بينها وبين دولة الروم، وأما في الإسلام في زمن رسول الله، وعصر الخلفاء الراشدين، فقد كانت الحريات العامة المعروفة في أيامنا معلومة ومصانة تماماً( )، وإليك بعض التفصيل عن الحريات في زمن الفاروق رضي الله عنه:


1- حرية العقيدة الدينية:
إن دين الإسلام لم يكره أحداً من الناس على اعتناقه، بل دعا إلى التفكر والتأمل في كون الله ومخلوقاته وفي هذا الدين وأمر اتباعه أن يجادلوا الناس بالتي هي أحسن، قال تعالى:  لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ  (البقرة،آية:256). وقال تعالى:  فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ  (الشورى،آية:48). وقال تعالى:  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)  (النحل،آية:125).
وقال تعالى:  وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46)  (العنكبوت،آية:46). والآيات في ذلك كثيرة ولذلك نجد الفاروق في دولته حرص على حماية الحرية الدينية ونلاحظ بأن عمر سار على هدي النبي والخليفة الراشد أبي بكر في هذا الباب فقد: أقرّ أهل الكتاب كامل على دينهم؛ وأخذ منهم الجزية وعقد معهم المعاهدات كما سيأتي تفصيله، وخططت معابدهم ولم تهدم وتركت على حالها وذلك لقول الله تعالى:  وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا  (الحج،آية:40).
فحركة الفتوحات في عهد الفاروق التي قام بها الصحابة تشهد على احترام الإسلام للأديان الأخرى، وحرص القيادة العليا على عدم إكراه أحد في الدخول في الإسلام، حتى إن الفاروق نفسه جاءته ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده فقال لها: أسلمي تسلمي؛ إن الله بعث محمداً بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت إليَّ أقرب، فقضى حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام، فاستغفر الله مما فعل وقال: اللهم إني أرشدت ولم أكره( )، وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني اسمه (أشق) حدّث فقال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبيت فقال: (لا إكراه في الدين). فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال: اذهب حيث شئت( )، وقد كان أهل الكتاب كامل يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم وبيوتهم، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الالشريعة الاسلامية الإسلامية حفظت لهم حق الحرية في الاعتقاد، وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا (القدس) ونص فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم وكنائسهم( )،وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه؛ بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم وأكد ذلك العهد بقوله: على ماضي هذا الكتاب كامل عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين( )، وقد اتفق الفقهاء( )، على أن لأهل الذمة
لهم ممارسة شعائرهم الدينية وأنهم لا يمنعون من ذلك مالم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلاناً وجهراً كإخراجهم الصلبان يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم
( ).


يقول الشيخ الغزالي عن كفالة الإسلام لحرية المعتقد إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض، لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما صنع الإسلام( ).
لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع ولخص سياسته حيال النصارى واليهود بقوله: وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدوهم بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم( ).



...................يتبع





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©